قوانين تمويل الإرهاب تحاصر الأنشطة الإقليمية لـ«الحرس» الإيراني

«الخزانة» الأميركية تهدد البنوك اللبنانية بسبب أموال «حزب الله»

جلسة ساخنة شهدها البرلمان الإيراني الأسبوع الماضي حول الانضمام إلى اتفاقية منع تمويل الإرهاب... وتمكن النواب المعارضون للحكومة من تعطيل التصويت لشهرين (ميزان)
جلسة ساخنة شهدها البرلمان الإيراني الأسبوع الماضي حول الانضمام إلى اتفاقية منع تمويل الإرهاب... وتمكن النواب المعارضون للحكومة من تعطيل التصويت لشهرين (ميزان)
TT

قوانين تمويل الإرهاب تحاصر الأنشطة الإقليمية لـ«الحرس» الإيراني

جلسة ساخنة شهدها البرلمان الإيراني الأسبوع الماضي حول الانضمام إلى اتفاقية منع تمويل الإرهاب... وتمكن النواب المعارضون للحكومة من تعطيل التصويت لشهرين (ميزان)
جلسة ساخنة شهدها البرلمان الإيراني الأسبوع الماضي حول الانضمام إلى اتفاقية منع تمويل الإرهاب... وتمكن النواب المعارضون للحكومة من تعطيل التصويت لشهرين (ميزان)

في صباح 7 مايو (أيار) من عام 2008 استفاق البيروتيون على مئات من عناصر ميليشيا «حزب الله» منتشرين في الشوارع بعتادهم العسكري وسلاحهم الثقيل. كانت المرة الأولى التي تنتشر فيها هذه الميليشيات بهذا الشكل العلني في مناطق خارج نفوذها. أعادت حينها تلك الصور إلى الذاكرة مشاهد الحرب الأهلية في لبنان. كان الهدف الرئيسي لاحتلال الميليشيات العاصمة آنذاك، مطار بيروت. فقبل 3 أيام اكتُشفت كاميرا مراقبة على أحد مدرجات المطار، تبين أن «حزب الله» هو من نصبها. بعدها خرج زعيم الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط في مؤتمر صحافي ليدعو إلى طرد السفير الإيراني من لبنان وإيقاف الرحلات التابعة للخطوط الجوية الإيرانية التي قال إنها تنقل شحنات أسلحة إلى «حزب الله». وكشف أيضا عن شبكة اتصالات أرضية موازية لشبكة الدولة أقامها «حزب الله». تلا ذلك اجتماع طويل للحكومة خرج بمطلبين: إقالة قائد جهاز أمن المطار، وهو طلب وصفته الميليشيات بأنه «تخطٍّ للخطوط الحمر»، وتفكيك شبكة اتصالات «حزب الله»، ومحاسبة مقيميها قضائيا. فكان رد «حزب الله» ما حصل في «7 أيار». تراجعت الحكومة عن مطالبها وانسحبت الميليشيات إلى مواقعها السابقة. وبقي مطار بيروت، أو جزء منه، تحت سيطرة الحزب، واستمرت الطائرات التابعة للخطوط الجوية الإيرانية في الهبوط بالمطار... معادلة ما زالت سارية حتى اليوم.

في مطار بيروت اليوم بوابة خاصة خارجة عن رقابة الأمن والجمرك، تعرف بـ«بوابة (حزب الله)». هناك تحط طائرات تفرغ شحنات لا تمر عبر الجمارك ولا الأمن. يتسلمها رجال «حزب الله» مباشرة. في مرفأ بيروت أيضا معبر شبيه، تفرغ فيه شحنات من سفن آتية عبر البحر دون أن تمر على مسؤولي الجمارك أو أمن الدولة.
تمويل إيران لـ«حزب الله» ليس خافيا. فالجماعة نفسها تتبجح بأن تمويلها وتسليحها يأتي من إيران. وفي عام 2006؛ بعد الحرب، وصلت للحزب شحنات أموال نقدية عبر مطار بيروت آتية من السفارة الإيرانية في دمشق. فهذه السفارة، كما تؤكد مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، هي المركز الذي تنقل إليه الأموال بالحقائب الدبلوماسية منذ سنين وتوزع على جماعات طهران في المنطقة.
في العراق لا تختلف الصورة كثيرا. تقول مصادر عشائرية مطلعة لـ«الشرق الأوسط» إن «الإيرانيين يسيطرون عبر ميليشياتهم وجماعاتهم في العراق» على مطارات بغداد والسليمانية والنجف.
وفي سوريا تحولت الحرب إلى «تجارة» مربحة لإيران في مجالات النفط والسلاح والمخدرات، تمول منها عملياتها في الأراضي السورية.
طوال السنين الماضية نجحت إيران ببناء شبكة معقدة ومتشابكة لتمويل جماعاتها في المنطقة عبر وسائل مختلفة تقليدية، أي عبر تهريب أموال برا وبحرا وجوا، وغير تقليدية عبر تبييض الأموال واستخدام وسطاء مجهولي الهوية. ورغم أن كثيرا من جماعات إيران نجحت ببناء شبكاتها التمويلية الخاصة المستقلة عن إيران، فإن «وجودها» الكلي ما زال يعتمد على النظام في طهران.

- أموال «حزب الله» تهدد البنوك اللبنانية
حاولت إيران في السنوات الماضية الالتفاف على العقوبات المفروضة ضد قطاعها المصرفي، عبر تأسيس مصارف إيرانية صغيرة في لبنان والعراق ودول أخرى تستخدمها لتبييض الأموال وتمويل جماعاتها. وتقول مصادر مصرفية رفيعة في بيروت لـ«الشرق الأوسط» إن «البنوك الإيرانية في لبنان مسجلة على أنها شركات لبنانية وتعمل بشكل شرعي على الورق»، وتضيف أنها «لا ترسل تحويلات إلى الخارج؛ بل تبقي الأموال داخل لبنان».
وتتحدث المصادر المصرفية عن «صعوبة» تتبع مصدر الأموال، وتقول إن الحزب يعتمد على تحويلات بأسماء مستعارة، أو على أشخاص غير مذكورة أسماؤهم على اللوائح السوداء. وتضيف هذه المصادر: «حصل في السابق أنه كانت لدينا حسابات أشخاص هم بالنسبة إلينا تجار، تبين لاحقا أن هناك اتهامات وجهت إليهم بانتمائهم وتمويلهم لـ(حزب الله)». وتتحدث المصادر عن صعوبة تحديد «المنتمين» إلى «حزب الله» وتقول: «لا يمكن أن نمنع أي شخص ينتمي للطائفة الشيعية من فتح حساب لأنه قد يكون ينتمي إلى (حزب الله). هذا يعني الشك في شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني، وهذا لا يمكن أن يحصل».
مصادر أخرى مطلعة تتحدث عن ضغوط كبيرة تتعرض لها المصارف اللبنانية من «الخزانة» الأميركية لإغلاق حسابات المنتمين والممولين لـ«حزب الله». وعن هذا يقول مصرفي لبناني رفيع المستوى إنه عندما «صدرت قوانين وزارة الخزانة الأميركية بوضع (حزب الله) على لائحة المنظمات الإرهابية ومنعت التعامل معه، أصيبت مصارف كثيرة بالهلع وبدأت بإغلاق حسابات عشوائيا، لأن (مصرف لبنان) طلب منهم الالتزام بالقوانين. ولكن هذا تسبب بفوضى كبيرة».
وتضيف المصادر المصرفية أنه عندما «يفضح أمر شركة ويتبين أنها واجهة لتبييض أموال (حزب الله)، تغلق الشركة وتفتح أخرى في اليوم نفسه باسم ثان في المكان نفسه والعنوان نفسه». وتقول هذه المصادر إن المصارف اللبنانية تطبق القوانين الدولية بأعلى المعايير، وتشرح أنه كلما تقدم أحدهم طالبا فتح حساب بنكي، تتم مقارنة اسمه بكل اللوائح السوداء المحلية والدولية التي تتضمن أسماء أشخاص أو شركات، والتي «يزيد عددها على مائتي لائحة».
ولكن مصادر أخرى مطلعة تقول إن المصارف اللبنانية «تغض الطرف» عن كثير من الحسابات التي تثير الشك. وتقول إن السبب تحول هؤلاء المشكوك بهم إلى مودعين كبار في وقت تحتاج فيه هذه المصارف إلى الودائع مع تراجع الاستثمارات وسوق العقارات في البلاد.
وتقول هذه المصادر إن «حزب الله» «يرسل شاحنات مخدرات إلى الخارج عبر البر وعبر شبكات موجودة في سوريا والدول المجاورة، وتعود الشاحنات نفسها محملة بالأموال النقدية». وتؤكد هذه المصادر أن كثيرا من المصارف تغض الطرف عن «مصادر» هذه الأموال لحاجتها إلى الودائع النقدية.
ويعترف المصدر المصرفي بأن «المصارف في لبنان لا تأخذ المبادرات، بل تطبق ما يطلب منها بحرفيته في ما يتعلق بعدم التعامل مع الموضوعين على اللوائح السوداء». ويعطي مثلا بأنه إذا حصل شك لدى المصرفي الذي يتلقى ودائع بأن هذه الأموال تم تهريبها من دون المرور عبر الجمارك أو من دون دفع ضرائب، فإن المصرف لا يتحرك ويبلغ الجهات الرسمية المعنية. ويقول: «إذا فعلنا ذلك، فهذا يعني أن جهات نافذة كثيرة ستتأذى».
في هذا الصدد، يقول الصحافي اللبناني فداء عيتاني إن ميزانية «حزب الله» السنوية تفوق 900 مليون دولار، من بينها رواتب لأكثر من مائة ألف شخص، وإن معظم هذا التمويل يأتي من إيران، ولكن الحزب يجمع نسبة كبيرة منه من الزكاة التي يفرضها على مؤيديه في أفريقيا وأوروبا وأميركا، إضافة إلى شبكة تبرعات كبيرة نسجها من مؤيديه في العالم.
وتتحدث المصادر المصرفية عن «تكتيكات» يعتمدها بعض «التجار» في أفريقيا لتهريب الأموال إلى «حزب الله» في لبنان، وتقول إنها تلتف على القوانين الأفريقية التي لا تسمح بإخراج مبالغ كبيرة من البلاد عبر تأسيس شركات «وهمية» في عدة دول في أوروبا ولبنان تجري عبرها التعاملات المالية فيما الخدمات تقدم في الدول الأفريقية.
ولكن الصحافي الشيعي المعارض علي الأمين يعدّ بأنه حتى لو تمكن «حزب الله» من جمع أموال بشكل مستقل عن إيران، «فإن طهران لا يمكن أن تقبل باستقلالية الحزب المادية». ويضيف أن الأموال التي يجمعها الحزب «لا يمكن أن تكون بديلا عن الدعم الإيراني المادي لأنه لا يرتبط بحاجة (حزب الله) للمال فقط، بل بالعلاقة التي تربط إيران بـ(حزب الله)». ويصف الأمين «حزب الله» بأنه «فصيل إيراني موجود في لبنان لا يسمح له بأن يكون مستقلا عن الإدارة الإيرانية حتى في الجهة المالية التي هي أساسية لجهة التبعية لأنها قد تعني تفلتا وخروجا عن السيطرة الإيرانية».
وتقول مصادر مطلعة إن إدارة أموال «حزب الله» الآتية من مصادر خارج إيران تتم أصلا عن طريق «الحرس الثوري» الإيراني وليس بمعزل عنه.

- إيران تعزز وجودها المالي في العراق
وفي العراق ليست الحال بأفضل؛ إذ تتحدث مصادر عدة عن «تغلغل» إيران في النسيج السياسي للعراق. وتقول مصادر متطابقة إن إيران تمول ميليشيات «الحشد الشعبي» من أموال النفط العراقي «الذي تنهبه».
وتؤكد مصادر مقربة من رئاسة الوزراء العراقية أن «الإيرانيين لا يصرفون في العراق من الأموال الإيرانية؛ بل من الأموال العراقية، وهم مسيطرون على وزارات النفط والاستثمار». وتضيف المصادر أن إيران نجحت في التجذر عمقا في العراق والتمدد في كل الوزارات الخدماتية والأمنية.
وتقول مصادر عشائرية إن «مسؤولين عراقيين كبارا متورطين في التعاملات مع إيران». وتتحدث المصادر عن نقل أسلحة إيرانية «متقدمة جدا» تمت تجربتها في العراق وسوريا، عبر المطارات بعد تسهيلات من مسؤولين عراقيين. وتتحدث المصادر عن «نقل أموال بالحقائب الدبلوماسية تستخدم لشراء أسلحة في السوق السوداء من دول أوروبا الشرقية عبر البر».
ويضم «الحشد الشعبي» 66 فصيلا بمجموع 80 ألف مقاتل. وتقول مصادر مطلعة في بغداد إن «44 فصيلا من هؤلاء يتبعون ولاية الفقيه ويرتبطون دينيا بالمرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي».
وبالإضافة إلى لبنان والعراق، تدعم إيران نظام الأسد في سوريا منذ سنوات، وتقول مصادر مطلعة إن «الحرس الثوري» يمول حربه في سوريا من «التجارة» هناك. وتتحدث المصادر عن كسب إيران مبالغ من تجارة النفط الذي كانت تستقدمه من أراضي داعش، وتجارة السلاح... وغيرهما.
وفي اليمن لا يختلف الأمر كثيرا؛ حيث مكنت إيران حلفاءها الحوثيين من تنفيذ انقلاب على الدولة بعد تقديم الدعم العسكري والمالي لهم. وأرسلت مستشارين من ميليشيات «حزب الله» لتدريبهم على القتال، إضافة إلى تزويدهم بصواريخ بعيدة المدى يستخدمونها لقصف الأراضي السعودية.

- النفط الإيراني الحل لمواجهة تمويل الإرهاب
كل هذه التحركات الإيرانية غير القانونية «معروفة» للولايات المتحدة التي تعيد العمل بنظام العقوبات الاقتصادية على إيران بعد إعلان الرئيس دونالد ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي، كما تؤكد مصادر نفطية رفيعة في واشنطن. ولكن الصعوبة بالنسبة لواشنطن، كما تقول هذه المصادر، هي تتبع خطوات تبييض الأموال بسبب توسع شبكة «الحرس الثوري» الإيراني وامتدادها من آسيا إلى أميركا.
وتقول هذه المصادر إن الطريقة الوحيدة الفعالة لمنع إيران من تمويل جماعاتها هي إضعاف إنتاجها النفطي الذي يعد ركيزة الاقتصاد الإيراني ويدر أكثر من 90 في المائة من الدخل العام. وتضيف هذه المصادر أن العقوبات المباشرة على النفط غير ممكنة بسبب القوانين الدولية، ولكنها تتحدث عن قوانين غير مباشرة مثل ما بدأ يحدث الآن، أي عبر الضغط على الشركات التي تتولى صيانة حقول النفط، وتقول: «اقتصاد النفط بحاجة إلى مليارات الدولارات للحفاظ على البنية التحتية. فالنفط لا يمكن ضخه بسهولة، وإيران لديها أكثر من ألفي بئر نفط يجب أن تتم صيانتها».
وبعد إعلان ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي وإمهاله الشركات الأوروبية العاملة هناك 6 أشهر للانسحاب تحت طائلة تعرضها للعقوبات، انسحبت شركة «توتال» الفرنسية من عقد كانت وقعته لصيانة أكبر حقول النفط في إيران. ويجري الحديث عن إمكانية تسلم شركة صينية للعقد بدلا من «توتال»، ولكن المصادر في واشنطن ترى أن الصين لن تتمكن من تعويض خسائر انسحاب الشركات الأوروبية لأنها لا تتعامل بالدولار الأميركي، مما يضيق السوق والخيارات الاقتصادية بالنسبة لإيران، وترى أن انسحاب «توتال» سيؤثر من دون شك على إنتاج النفط الإيراني.
وتقول المصادر إن إيران بحاجة إلى ما بين 35 و40 مليون دولار لقطاعها العام؛ أي هي بحاجة لتصدير مليوني برميل نفط يوميا لدفع مرتبات موظفيها في الداخل فقط، وتضيف أن أي إنتاج أقل من ذلك يعني تقليص قدرة إيران على تمويل الحروب في المنطقة. وتضيف هذه المصادر أن ذلك سيعني صعوبة في استئناف برنامجها النووي لأنها تدفع مقابل التكنولوجيا والقطع التي تحتاج ما يعادل 6 مرات قيمتها في السوق لأنها تشتريها من السوق السوداء.
وتؤكد هذه المصادر أن دولا أخرى يمكنها أن تعوض عن النفط الإيراني في السوق، مثل الولايات المتحدة التي تمر «بتخمة نفطية»، والمملكة العربية السعودية التي يمكنها ضخ مزيد من النفط عندما ترى حاجة.
وتضيف هذه المصادر الأميركية التي عملت قبل سنوات مع البنتاغون، أنه يمكن لواشنطن أن تمارس ضغوط أيضا على من يشتري النفط الإيراني، وتقول: «عندها يصبح السؤال: كيف يمكن للحرس الثوري أن يمول جماعاته؟ وإذا أرادوا العودة لتخصيب اليورانيوم، فلن يتمكنوا حتى من دفع المرتبات ولا شراء اللازم».

- نشاط إيران المالي تحت مجهر منظمات دولية
وبالإضافة إلى هذه «الخيارات» الأميركية، تتعرض إيران الآن لضغوط كبيرة من منظمة غير معروفة كثيرا ولكنها من أقوى المنظمات العالمية والوحيدة التي تعمل على مكافحة تبييض الأموال المتعلقة بتمويل الإرهاب. هذه المنظمة تدعى «مجموعة العمل المعنية بالإجراءات المالية المتعلقة بغسل الأموال»، أو اختصارا «فاتف»، ومقرها باريس. وقد تم تأسيها عام 1989 بمبادرة من مجموعة الدول السبع بهدف مكافحة تبييض الأموال. وفي عام 2001 بعد اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) تم توسيع مهمتها لتشمل أو تصبح مركزة على مكافحة تبييض الأموال المتعلقة بالإرهاب.
وتصدر هذه المنظمة توصيات على الدول أن تترجمها بقوانين ملزمة لمكافحة تبييض الأموال. والدول التي لا تلتزم أو تعد «غير متعاونة» توضع على لائحة سوداء، وحسب «خطورة» تعاملاتها؛ إما يحذر من التعامل معها، أو توصي المنظمة الدول الأعضاء فيها باتخاذ تدابير مضادة فعالة لإعاقة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ضد الدولة المعنية. ويعد البعض أن تأثير هذه المنظمة على الدول التي تضعها على لائحتها السوداء وتدعو لتدابير مضادة ضدها، قد يكون أقوى حتى من العقوبات الاقتصادية.
ومنذ عام 2012 وإيران على رأس اللائحة السوداء هي وكوريا الشمالية. في عام 2015 بعد الاتفاق النووي مع إيران علقت «فاتف» التدابير المضادة بحقها لمنحها فرصة لإدخال إصلاحات تتعلق بمكافحة غسل الأموال، ولكنها أبقتها على اللائحة السوداء، أي أبقت التوصية بضرورة الحذر في التعاملات مع هذه الدولة.
ومنذ ذلك الحين، ما زالت هذه التدابير المضادة معلقة. وفي الاجتماع الأخير لـ«فاتف» في فبراير (شباط) الماضي، دعت إيران إلى ترجمة تعهداتها أفعالا. وأعلنت أنها ستبقي التدابير المضادة معلقة لتفسح للبرلمان الإيراني، الذي بدأ بمناقشة قوانين تتعلق بغسل الأموال، المجال لتبنيها. وستناقش «فاتف» من جديد قرار إبقاء التدابير معلقة أو إعادتها في اجتماع لها نهاية هذا الشهر.
في فبراير الماضي، طلبت «فاتف» من إيران إدخال قوانين «تجرم تمويل الإرهاب وإزالة الإعفاء لجماعات حددتها إيران بأنها تحاول إنهاء احتلال أجنبي واستعمار»، في إشارة إلى تعريف إيران الجماعات التي تمولها مثل «حزب الله» و«حماس» المصنفتين إرهابيتين. ومن بين ما دعت إيران إلى تحقيقه قبل اجتماعها المقبل نهاية هذا الشهر، «تجميد أصول تابعة لإرهابيين بحسب قرارات مجلس الأمن»، وتقديم «إثباتات على كيفية تحديد السلطات للتحويلات المالية غير القانونية والتأكد من أن التحويلات تتضمن المعلومات المطلوبة حول متلقي الأموال وأسباب التحويلة».
ورغم وجود «الإرادة» السياسية لدى حكومة حسن روحاني في إيران لإدخال تعديلات على قوانينها المتعلقة بتبييض الأموال، فإن عوائق أساسية تقف أمام ذلك... الأول أن قرار تمويل الجماعات الإرهابية بيد «الحرس الثوري» الإيراني وليس الرئيس أو الحكومة، مما يجعل أي قرار أو التزام يصدر عن الأخيرين، لا معني له. الثاني أن تعريف الجماعات الإرهابية بالنسبة للطرفين، أي إيران و«فاتف»، مختلف تماما، مما يعني أنه لا أساس أصلا للاتفاق على تطبيق أي إصلاحات في هذا المجال.
وقبل اجتماع «فاتف» في فبراير الماضي، وجه مجموعة من النواب والدبلوماسيين الأميركيين رسالة إلى «فاتف» طلبوا إليها إعادة التدابير المضادة بحق إيران. وكان من بين الموقعين على الوثيقة جون بولتون الذي عين بعد أشهر من ذلك مستشارا للرئيس الأميركي. وفي الرسالة التي وقعها أيضا السيناتور جوزيف ليبرمان وجيب بوش ودنيس روس الذي عمل مستشارا للرئيس السابق باراك أوباما، قال هؤلاء إن «الحرس الثوري الإيراني المصنف منظمة إرهابية والذي مكن نظام الأسد من قصف آلاف المدنيين الأبرياء بالبراميل المتفجرة، سيتلقى تمويلا إضافيا يبلغ 8 مليارات دولار بحسب الميزانية المقترحة من الحكومة الإيرانية للعام المقبل». وتابعت الرسالة تقول إن إيران زادت أيضا من تمويلها لـ«حزب الله» المصنف أيضا منظمة إرهابية، واستندت إلى تحقيق نشرته صحيفة «فايننشيال تايمز» يقول إن إيران «دفعت ما يوازي 853 مليون دولار أميركي لعشرات المؤسسات التي تروج لآيديولوجية الولي الفقيه»، في زيادة تبلغ 9 في المائة عن العام السابق. وأضافت أن اثنتين من هذه المنظمات تمول «حزب الله». وتابعت الرسالة أن الحزب يتلقى أيضا مخصصات مالية مباشرة من ميزانية خامنئي الخاصة التي هي خارج ميزانية الدولة ولا تخضع لأي مراقبة أو محاسبة».
وقبل الاجتماع المقبل، يتوقع متخصصون في الشؤون الإيرانية ضغوطا أميركية إضافية على «فاتف» لإعادة العمل بالتدابير المضادة. ويقول علي فائز، مدير «برنامج إيران» في «المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات» في واشنطن إن «الولايات المتحدة ستسعى بالتأكيد إلى دفع (فاتف) لإعادة التدابير المضادة، لكي تزيد تأثير العقوبات التي أعادت فرضها على إيران». ولكن فائز توقع أن تتخذ إيران تدابير إضافية مطلوبة من «فاتف» قبل الاجتماع المقبل كي تتمكن من الحصول على وقت إضافي، وقال: «(فاتف) أعطت دولا مثل البوسنة وجمهورية لاو الديمقراطية الشعبية 3 سنوات لتطبيق المعايير المطلوبة، ولذلك عليها منح إيران فترة إضافية».
وترى آنا برادشو، مستشارة قانونية في لندن متخصصة في قضايا مكافحة الإرهاب وغسل الأموال، أنه «في حال أعادت (فاتف) إيران إلى اللائحة السوداء، فإن هذا يضع في خطر أي محاولات لإبقاء الأعمال الأوروبية في إيران، لأنها قد تعد مناقضة أو تقلل من شأن التزام الأوروبيين بمعايير (فاتف) ومكافحة تبييض الأموال». وتضيف أن الأوروبيين يبحثون تقديم ضمانات لإيران للبقاء في الاتفاق النووي تتعلق بقروض أو تحويلات من البنك المركزي الأوروبي إلى طهران، ولكن هذا الحل تقول برادشو «قد لا يكون ممكنا إذا قررت (فاتف) إعادة إيران للائحة السوداء».
ويرى فائز أن إعادة «فاتف» التدابير المضادة بحق إيران يعني أن محاولة الأوروبيين إنقاذ الاتفاق النووي ستصبح في مهب الريح.



معارك الظل في سوريا... محاربة «داعش» وإعادة بناء الدولة

سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
TT

معارك الظل في سوريا... محاربة «داعش» وإعادة بناء الدولة

سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)

عند مداخل دمشق المتفرعة من جهة أوتوستراد المزة، وقبيل الوصول إلى ساحة الأمويين يتوزع شبان بمظهر شبه عسكري على جانبي الطريق يبيعون أعلاماً ورايات احتفال بـ«يوم التحرير»، يقابلهم في الشوارع الأضيق والنواصي المؤدية إلى أحشاء المدينة نساء بأثواب طويلة وحجاب يغطي نصف الوجه أحياناً، يجرجرن طفلاً او اثنين، ويحملن أرغفة خبز للبيع. تكدس النسوة الأرغفة فوق بعضها بعضاً وتدفع بها إلى المارة ونوافذ السيارات بلا غطاء أو كيس يحميها من الأدخنة العابقة برائحة المازوت والأتربة المتطايرة من أحزمة البؤس والدمار المطبقة على العاصمة.

منذ بعض الوقت تحول بيع الخبز بهذه الطريقة «مهنة»، نسائية إلى حد بعيد، انتعشت أكثر مع ازدياد الفقر والعوز؛ فتذهب النساء للانتظار في طوابير الأفران لشراء حصة من الخبز يعدن لبيعها مقابل مبلغ إضافي صغير، ويعاودن الاصطفاف في الطوابير، وهكذا دواليك حتى ساعات متقدمة من الليل. المشهد لا يقتصر على دمشق ومحيطها، بل يتكرر على امتداد المدن والمناطق السورية التي زرتها من حمص وإدلب وحلب، وكأن المشهد النسائي هذا أصبح جزءاً من نسيج الأزمة المستمر وأحد مقومات الصمود اليومي للسوريين.

مشهد لمدينة دمشق (الشرق الأوسط)

دمار مديد

ولئن كانت النساء بوجوههن المنهكة وأيديهن المخشوشنة خير شاهد على نكبة عصفت بالبلاد لنحو 15 عاماً، فإن الدمار المديد الذي لا يحدّه نظر، يشهد هو الآخر على هول ما كان. أحياء وضواحٍ كاملة سويت بالأرض تطوّق دمشق وتكاد تخنقها بأتربتها وبقايا الردم فيها، كما وتسود الحواضر الكبرى وأريافها، حيث الركام واللون الرمادي الأغبر يمتد على مساحات شاسعة من البلاد. فأن تقود سيارتك لأكثر من 350 كلم عبر الأراضي السورية ولا ترى شجرة أو حيّاً أو بيتاً ناجياً، يعني أنك تعاين عملياً ما خلفته لأكثر من عقد من الزمن، آلة قتل وتدمير وانتقام أقرب ما يكون إلى الثأر الشخصي. فحجم الخراب وشكله لا يعكسان مجرد معارك بين أطراف متنازعة وتفوق عسكري لجهة على أخرى، وإنما يكشف عن نية واضحة بتصفية الناس وأرزاقهم، ودفن أي حلم أو بصيص أمل لديهم بالعودة إلى الديار. فما لم يقضِ عليه القصف بشكل مباشر، حُرق ونُهب وتصحّر عن عمد. لكن العودة تتم وإن ببطء شديد ودفع ذاتي.

وحدها فقاعات قليلة نجت في دمشق وأسواقها، أو خارجها من المناطق والمدن، وازدهر بعضها، لحسابات طائفية أو مصالح سياسية أو تجارية تتعلق بشكل أساسي بتصنيع الكبتاغون وترويجه.

دمار من جرَّاء المعارك بين قوات الأسد وفصائل المعارضة السابقة في مخيم اليرموك بضواحي دمشق (إ.ب.أ)

دمشق... الواجهة البراقة

كانت المدينة على موعد مع احتفالات استثنائية بالذكرى السنوية الأولى لهروب بشار الأسد، والاستعدادات تسير على قدم وساق. منصات ومكبرات للصوت وتنظيم للسير ولافتات تشدد على الوحدة الوطنية «شعب واحد... وطن واحد» وأن «الحقبة السوداء انتهت». برنامج الحفل يصل إلى الهواتف النقالة عبر رسائل قصيرة تشجع على المشاركة وحضور الفعاليات «للاحتفال بالحرية والأمل... وإكمال الحكاية». لكن أي حكاية؟ سؤال يتردّد في الشوارع ذاتها التي تُباع فيها الأرغفة على الأسفلت وتشهد احتفالات النصر.

فهنا، تكثر الحكايات وتتشعب حتى تكاد تتناقض كمثل فقاعات الأمكنة التي تتجاور ولا تلتقي. ثمة انقسام عمودي حاد في وجهات النظر وتراشق يشبه إلى حد بعيد مرحلة 2011 حين انقسم السوريون إلى حد القطيعة بين مؤيد ومعارض، مقابل إصرار رسمي واضح على تصدير صورة مصقولة عن المرحلة.

بهو فندق على الطراز الدمشقي القديم في منطقة باب توما (الشرق الأوسط)

معركة الأمن الصامتة

خلف الواجهة الاحتفالية، تُدار معركة أخرى أقل صخباً وأكثر تعقيداً. «يشكل (داعش) والمهاجرون (المقاتلون الأجانب) تحديداً التحدي الأبرز بالنسبة لنا» يقول مصدر أمني سوري رفيع مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، لافتاً إلى أن الاعتقال و«التحييد» يتمّان بشكل دوري. أما كيف يتم ذلك (وهو مصطلح شائع في تركيا يستخدم ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني)، فتتقاطع المعلومات مع مصدر آخر يفيد بأن «العمل الأمني يجري بدقة وحرفية وإن لوائح المنتمين إلى تنظيمات متطرفة تحت مظلة عريضة هي (داعش)، موجودة لدى الأجهزة الأمنية وهي تقوم بتعقبها». وأضاف: «نعرفهم واحداً واحداً ونقوم برصدهم ووضعهم تحت المراقبة. كما أن النظام السابق ترك آلية عمل وتعقب دقيقة جداً نعتمد عليها حتى الآن إلى درجة كبيرة».

رجال أمن سوريون في ساحة سعد الله الجابري في حلب ليلة الاحتفال بسقوط نظام الأسد في 7 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)

التقيت المصدرين قبل أيام قليلة على حادثة تدمر الأخيرة، لكنها حين وقعت، لم تبدُ خارج السياق العام للقاءات وما كشفت عنه المعلومات المتقاطعة. ذاك أن المسؤولين والأشخاص في مواقع أمنية دقيقة بدوا مدركين مسبقاً لهذا الاحتمال بصفته واحداً من المخاطر الأمنية المتعددة، لا سيما بعد انضمام سوريا رسمياً إلى تحالف «محاربة الإرهاب».

ولخّص مصدر هذه المخاطر بثلاثة أنواع من المواجهات «أولاً المواجهة مع (داعش) ومتفرعاته، وهي تجري بحذر شديد؛ لأنها تهدد الرئيس أحمد الشرع بشكل شخصي، وثانياً المواجهة مع (قسد) وهي تهدد الدولة الناشئة وهويتها على المدى البعيد، وثالثاً مواجهة باردة وأقل حدة مع إسرائيل بسبب أحداث السويداء».

وفي رواية شبه رسمية، لم يستبعد المصدر الأمني أن يشكل المفرج عنهم من مخيم الهول «قنابل موقوتة» يتم استغلالها لزعزعة الأمن داخلياً وتلبية رغبات المتطرفين الرافضين التحول الحاصل في شكل السلطة من جهة، ولإطلاق رسالة للخارج مفادها أن سحب ملف «محاربة الإرهاب» من يد «قسد» لن يجدي؛ إذ يمكن أن «يفتح الباب أمام قطعان من الذئاب المنفردة» من جهة ثانية.

هل تكفي المقاربة الأمنية؟

تحدي الدولة ليس أمنياً فقط، وهذه المقاربة الصرفة لا تحظى بإجماع داخل دوائر السلطة نفسها. فبعكس من يرى في «داعش» والتطرف «عقدة تقنية» يمكن حلها بمقاربة أحادية، يرى مسؤول مقرب من «الهيئة السياسية» أن «المشكلة الفعلية تكمن في استيعاب تلك الكتلة البشرية الهائلة التي نشأت خارج أي سياق اجتماعي طبيعي لسنوات عدّة، خارج منظومة التعليم أو الأسرة أو أي شكل ناظم للحياة».

طلاب يحضرون الفصول الدراسية داخل مدرسة معر شمارين الابتدائية وتبدو جدرانها مليئة بثقوب الرصاص من القتال بين القوات الموالية للرئيس السابق بشار الأسد والمعارضة بقرية معر شمارين في ريف إدلب بسوريا 19 أكتوبر 2025 (أ.ب)

وأضاف: «التحدي الكبير هو في استيعاب هؤلاء ودمجهم ضمن مفهوم الدولة وإعادة تأهيلهم لهذا الغرض». وقال: «كما تم استقطاب هؤلاء المراهقين إلى طيف معيّن من التشدد، يجب اليوم العمل على نقلهم إلى مكان وسطي. فإذا كان الرئيس نفسه يقول إننا اليوم نغادر الحالة الفصائلية وننتقل إلى مفهوم الدولة، فكيف يكون هذا الانتقال على مستوى القاعدة؟ هل بشكل فردي وأمني فحسب أم مجتمعي أيضاً؟».

وفي السياق، ذهب أحدهم لتفسير عبارة «أطيعوني ما أطعت الله بكم» التي أطلقها الشرع من الجامع الأموي ليلة الاحتفال الكبير, وأثارت غضب الشرائح المدنية والعلمانية المعارضة، إنها رسالة لشريحة أخرى هي التي تضعها الدولة اليوم نصب أعينها وتسعى لاحتواء غضبها عبر دعوة «دينية» صريحة لـ«إطاعة الحاكم وعدم الخروج عنه».

صورة نشرتها وزارة الداخلية السورية لجانب من عملية ضد «داعش» في ريف إدلب الاثنين 1 ديسمبر 2025 (الداخلية السورية)

ولئن يبدو الكلام أسهل من الفعل، إلا أن الواقع المعاش أصعب بأشواط.

فإذا كان الأمن مضبوطاً إلى حد بعيد في المدن الرئيسية كدمشق وحلب عبر الانتشار الأمني الكثيف وبـ«استخدام تقنيات حديثة منها المسيَّرات»، وذلك في فترة حساسة شهدت تجمعات هائلة تزامناً مع الاحتفالات بالذكرى السنوية الأولى لسقوط النظام السابق، فإن المساحات الشاسعة في الأرياف، حيث الدمار الهائل والفقر المدقع والبطالة المستشرية، متروكة لحالها إلى حد بعيد. وبينما تتوزع حواجز الأمن العام على الطرقات الرئيسية بين المحافظات، فإن الحواضر الجانبية وأزقة البلدات متروكة لحالها. ولعل الاستثناء الذي تمتعت به «إدلب» المدينة لفترة من الزمن، وكثر الحديث عنه من خدمات ورعاية وإدارة، لم يسحب منها فقط بعد التحرير وإنما جاء هذا الانفتاح على بقية المناطق السورية ليضعها أمام استحقاقات الحياة الفعلية، لتدرك المدينة وريفها المهمل والمدمّر أن الوضع كان أقرب إلى «إدارة أزمة»، لا يزال إرثها حاضراً حتى في اللغة اليومية، كأن يتخاطب العسكريون فيما بينهم ومع المدنيين العابرين على الحواجز بتسمية «شيخ» و«استعن بالله» للقول امض في سبيلك.

ملصق لدائرة الهجرة والجوازات السورية عند المعبر الحدودي مع لبنان في جديدة يابوس (الشرق الأوسط)

وهناك بين ريفي إدلب وحلب على سبيل المثال قرى ومدن صغيرة معروفة بتوجه الأهالي فيها وانتمائهم، وليست كلها على ذاك الاعتدال وتلك الوسطية التي تعتلي منصات دمشق. توجهات تجعل السائقين يسلكون طرقاً أطول لقطع المسافات، لكن «أقل خطورة» بظنهم.

وفي ذلك الشريط يشكل الشبان، لا سيما الأصغر سناً، وقود الفصائل المسلحة التي لم يبق منها في الميدان في السنوات الأخيرة إلا «هيئة تحرير الشام» بشكل أساسي، وانضم الآلاف منهم بعد سقوط النظام السابق إلى الأمن العام أو الجيش وليس لهم اليوم مورد رزق آخر. فحتى منازل أهلهم المدمرة أو أرزاقهم المنهوبة لا يملكون ثمن ترميمها، ويجد كثيرون منهم في المنامة والمأكل في الثكنات العسكرية عوضاً عن سوء حالهم خارجها.

نسيج هويات مقاتلة

والحال، إن تلك هويات تبلورت في سنوات التسلح، وتحديداً ما بعد 2013، ولكن جذورها الاجتماعية تعود إلى ما قبل ذلك بزمن. فإذا كان اليوم يطلق على كل من هو مرتبط بالسلطة الجديدة وصف «إدلبي» نسبة إلى إدلب معقل حكم «هيئة تحرير الشام» خلال الأعوام التسعة الأخيرة، وهو وصف يحمل تعالياً في دمشق وحلب، فإن فهم التباينات الاجتماعية والاقتصادية بين بلدات تلك الأرياف نفسها يعين على فهم الخيارات السياسية والعسكرية اللاحقة لأبنائها. فالبلدات المعروفة تقليدياً برابطة العائلة كوحدة اجتماعية متعاضدة، وامتلاك أراضٍ زراعية ثم الاعتماد على الهجرة في منتصف الثمانينات، آثرت تعليم الأبناء والبنات وتوجيههم نحو المهن الحرة والوظيفة مع الحفاظ على سلوك ديني اجتماعي تقليدي يوصف بـ«التدين الفطري»، وهم ممن اختبروا التيارات القومية والعروبية قبيل صعود «البعث» بقبضته الأسدية.

صورة ملتقطة يوم 28 نوفمبر 2024 في إدلب تظهِر مقاتلين من الفصائل السورية المسلحة خلال المعركة (د.ب.أ)

يقابل هذا النموذج بلدات صغيرة تقوم على العائلات الفرعية التي اعتمدت على العمل الزراعي الموسمي وسلك الشرطة والأمن في النظام السابق، وفرحت لانضمام أبنائها إلى «جبهة النصرة» حين بدأت بالاستقطاب؛ لما شكّله ذلك من انتظام في مسلك عسكري معارض لنظام الأسد، ولكنه أيضاً ذو بعد ديني واضح كان ممنوعاً اعتناقه. وإلى هذا، تأتي مناطق شاسعة لجهة البادية تحكمها القبيلة والعشيرة ونظام «الفزعة» الذي يعلو ويخبو حسب الظروف والمصلحة.

وهؤلاء كلهم، وإن تشاركوا في كونهم من العرب السنة، تباينوا في سلوكياتهم وانحيازاتهم واصطفافاتهم؛ ما انعكس لاحقاً في قدرة الفصائل المتشددة والأكثر تشدداً على اختراقهم وتجنيدهم مقابل من بقي عصياً عليها، فعملت على تسليط الطرف على المتن.

إدلب ومفاتيح دمشق

وإذ يقول الأمنيون اليوم إنهم يعرفون المتشددين «واحداً واحداً»، فلأنهم يعتمدون أيضاً على معرفة الجهاز الأمني في «الهيئة» بالفصائل المتشددة والمنتسبين إليها في تلك البلدات ممن حاربتهم خلال السنوات الأخيرة كـ«جند الأقصى» و«حراس الدين» الموالي لـ«القاعدة»، كما ويعتمدون كثيراً على المخبرين. ولا تزال إدلب إلى حد بعيد أشبه بـ«المعقل الآمن» الذي يملك مفاتيح دمشق ومفاصلها ولا يزال يعمل بوتيرته السابقة. يكفي مثلاً أن المحاكم والسجلات الإدارية والمدنية لا تزال تخضع لـ«المحاكم الشرعية» التي حكمتها منذ منتصف 2013، بعكس بقية المناطق السورية ولا سيما العاصمة، حيث تصب المعاملات كافة.

عملية أمنية في مدينة تدمر عقب الهجوم الإرهابي على وفد سوري - أميركي مشترك (الداخلية السورية)

ويميّز محدثي بين أنواع من التجنيد قد تعتمدها «داعش» أو المجموعات المتفرعة منها لضرب الأمن بالاعتماد على تلك البنى الاجتماعية المختلفة؛ التجنيد الآيديولوجي، وهو الأسرع والأكثر فاعلية، خصوصاً بين الأصغر سناً الذين قطعوا شوطاً بتبني الأفكار المتطرفة ولم يستوعبوا بعد التحولات الجذرية التي شهدتها سوريا في عام واحد. والتجنيد بالمال وعنصر «الانتقام» بالاعتماد على حالة الفقر المستشرية بين من فقدوا مصدر دخلهم وسلطاتهم المعنوية، ومن ثم التجنيد ضمن بيئة «المهاجرين» أو المقاتلين الأجانب الغاضبين على ما حل بهم من تخلٍ ولم يعد لديهم عملياً ما يخسرونه.

الدولة الناشئة ونموذج «الصحوات»

حين عاد الرئيس السوري أحمد الشرع من زيارته الأخيرة إلى واشنطن كان محملاً بمهمة عسيرة؛ «مواجهة وتفكيك الشبكات الإرهابية» من بقايا تنظيم «داعش» و«الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله» و«حماس»، حسب ما قال حرفياً المبعوث الأميركي إلى سوريا توم براك. وفي حين تولت إسرائيل ضرب «حزب الله» في لبنان و«حماس» في غزة، بقي على سوريا مواجهة ذيولهما لديها بينما الأصعب يبقى مقارعة «داعش» ومتفرعاته ممن كانوا حتى أمس قريب «رفاق سلاح» لـ«هيئة تحرير الشام». وفي حين يترقب كثيرون شكل هذه المواجهة وسبل ذلك التفكيك على الساحة السورية، سيما في غياب جيش متماسك ذي عقيدة قتالية واضحة، فإن واشنطن من جهتها سبق واختبرت صيغة مشابهة من المواجهة السنية - السنية في عراق ما بعد صدّام، تحت مسمّى «الصحوات».

الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة يلوّحان للسوريين خلال عرض عسكري في دمشق (وزارة الدفاع السورية)

وقام نموذج الصحوات بشكل أساسي على من وصفهم مصدر عراقي مطلع بـ«تحالف المتضررين» من تنظيم «القاعدة» وبالاعتماد على حيّز جغرافي محدد هو محافظة الأنبار، ذات الانتماء العربي السني والتدين الاجتماعي - التقليدي. وعليه، فإن نموذجاً مشابهاً قد يقوم اليوم في سوريا على تحالف متضررين من «داعش» في الشمال والشمال الشرقي وبقيادة رسمية هي الدولة الناشئة المطلوب منها محاربة التطرف.

وأوضح المصدر العراقي الذي واكب من كثب مرحلة تأسيس الصحوات واندثارها لاحقاً مع حكومة نوري المالكي، إن العشائر في منطقة الرمادي (تحديداً البوريشة والبوعلوان والبوفهد، وبدرجة أقل الدليم) كانت عماد تلك الحرب؛ لما ألحقته «القاعدة» من ضرر بتجارتهم ومصالحهم ونسيجهم الاجتماعي.

وإذ كان بعضهم أُرغم على المبايعة في مرحلة ما، فإن التصادم لم يتوقف يوماً، ومثال عليه مقتلة قبيلة البونمر التي أعدم التنظيم منها نحو ألفي رجل. يقابل ذلك المثال في الحالة السورية قبيلة الشعيطات التي وقفت في وجه «داعش» ورفضت مبايعته؛ فارتكب فيها إحدى أكبر المجازر وقتل نحو 1800 من شبانها دفعة واحدة.

وفي تقاطع آخر يشبه تحديات المرحلة الدقيقة التي تمر بها سوريا، حيث التوازن الهش بين تحديات الأمن وبناء الدولة المرجوة، كان يطلب من كل من يريد الانضواء تحت لواء الصحوات «إعلان البراءة من (القاعدة) والانخراط في قوات الأمن ضمن الصحوات». وتم ذلك بتنسيق مع القوات الأميركية على أمل «تحويل تلك الكتلة السكانية (سنية عشائرية) رافعةً سياسية من ضمن مجموعة روافع سياسية أخرى».

شعارات في دمشق مع اقتراب ذكرى سقوط الأسد (د.ب.أ)

من السلاح إلى السياسة

ويلفت المصدر العراقي إلى نقطة أساسية في تحول مسار الصحوات من دورها الأمني إلى السياسي، فيقول: «على الرغم من القيمة الأمنية الكبيرة لتلك الصحوات في مرحلة ما، وما أنجزته على الأرض، فإنها لم تنجح في الانتقال من الدور الأمني/ العسكري إلى العمل السياسي. فعندما انخرط قادتهم في السياسة والانتخابات لم يحققوا تمثيلاً فعلياً ولم يخترقوا القواعد الشعبية».

وذلك تحديداً هو بيت القصيد في الحالة السورية، أي «التحول الجمعي من الحالة العسكرية الفصائلية في حيز جغرافي محدد، إلى حالة الدولة بمفهومها السياسي والإداري الأوسع والأشمل، والعسكري لجهة (احتكار العنف) ضمن مؤسسة جيش وطني واحد».

وبين امرأة تبيع الخبز على ناصية شارع، وشاب يتراقص في الساحات، وأجهزة تعمل على تثبيت الأمن وشكل الدولة، تبدو سوريا اليوم كبلد بفقاعات كثيرة. واجهة براقة تُعدّ للاحتفال كبطاقة بريد منمقة، وعمق اجتماعي وأمني هشّ لم تُحسم معاركه بعد.


«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.