سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

سيدة الأوسمة

عندما منح الملك فاروق وساماً لأم كلثوم، كان ذلك أول وسام «يُعطى لفنان في تاريخ مصر». وإذ يمر الزمن على صوت أم كلثوم ويبتعد صداه وتتغير الأجيال والأحوال والأذواق، تبدو أم كلثوم من بعيد، صفحة من التاريخ الوطني والقومي، وليس فقط من تاريخ الفن. بل المبهر في تاريخ هذه السيدة أن الناس لم تفصل يوماً بين وقع حنجرتها في عالم الطرب، وبين مرتبتها الوطنية والاجتماعية، وهو أمر لم يتسنَّ، على ما أعتقد، لأي فنان آخر في مصر أو في سواها.
عندما تعيد قراءة حياة أم كلثوم، ترى أن هذه الشخصية الفريدة قد رسمت بإرادة جبارة وجهد مذهل ومثابرة لا تضعف. منذ أن وصلت الفتاة الفقيرة إلى القاهرة كي تغني، قررت أن تفرض نفسها مغردة خارج السرب. فرض المسرح على المغنيات شيئاً من الحداثة، وفرضت هي عليه احترام الاحتشام. كان بعض الجمهور، في ذلك الوقت، يتطاول بالألفاظ على المطربات، فنشرت «الست» «رجالها» في الصالة، يصدّون من يحاول تقليل الأدب. كما كان هؤلاء يؤدون هتافات مدروسة، لا يلبث باقي الجمهور أن يقلدها.
كانت تُدرك في عبقريتها أن الوصول إلى المرتبة التي تحلم بها عمل شاق ومستمر ولا يقبل التهاون لحظة واحدة. وقررت أن تُقدم دون تردد. نال لبنان استقلاله عام 1943، وعام 1944 كان رئيسه يمنح وسام الاستحقاق الوطني لمطربة من مصر تدعى أم كلثوم. وتوالت الأوسمة العربية، مع شعور من مانحيها بأن قبول الوسام تكريم هو أيضاً. أرهقت جميع من حولها: الشعراء والملحنين وفرقتها الموسيقية ومنظمي حفلاتها. كل كلمة وكل إيقاع وكل آلة كانت، يجب أن تخضع لعشرات التجارب والتعديلات. وكاد بعض كبار الملحنين أن يتركوها ويمضوا بسبب إلحاحها على «أحسن من كده»، لكن إذا تركوها، إلى أين يذهبون؟
كانت ذروة الحياة الفنية وعاشت خارجها. لم تُشاهَد يوماً مرسلة الشعر، أو في ثوب غير محافظ. ولم تسمح مرة «للأخبار الفنية» بالدخول إلى منزلها. ورغم ظرفها الشديد وحبها للدعابة، فقد كان كل ذلك على أرقى المستويات. إذا هبط الرقي في مكان، سقط في كل مكان.
لم يحظ أحد في تاريخ الغناء العربي، بما حظيت به من افتتان واحترام. وعندما كانت تؤدي حفلتها الخاصة كل شهر، كانت الإذاعة المصرية تقوي الإرسال إلى الحد الأقصى، لإدراك المسؤولين أن أم كلثوم توزع عطر مصر عبر الأثير في كل بيت عربي.
لم نعد في زمنها اليوم. لكنه زمن لا توأم له. لقد اجتهدت في صناعة نفسها حتى تفوقت، لا قبل.. ولا بعد.