كشفت دراسة حديثة نُشرت في مطلع شهر يناير (كانون الثاني) من العام الحالي، في الإصدار الإلكتروني من مجلة الرابطة الطبية الأميركية (JAMA Network Open) عن احتمالية أن تؤدي العدوى المتكررة في السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل إلى عواقب صحية خطيرة طويلة الأمد لاحقاً، ما يستلزم ضرورة إعطاء علاج قوي وسريع للسيطرة على المضاعفات.
وفي الأغلب، يتم اللجوء إلى استخدام المضادات الحيوية القوية مبكراً، لتلافي حدوث أي مضاعفات تؤثر على الطفل على المدى البعيد. وذلك رغم أعراض هذه الأدوية الجانبية المتعددة، وأهمها تكوين مقاومة ضد عملها لتكرار تناولها.
إصابات الطفولة المبكرة
الدراسة التي أجراها فريق طبي من الدنمارك تتبعت 614 طفلاً منذ الولادة وحتى بداية المراهقة (الفترة العمرية من سن العاشرة وحتى الثالثة عشرة) لمعرفة الكيفية التي تؤثر بها أنواع العدوى الشائعة في السنوات الأولى من الحياة على صحتهم لاحقاً. واستخدم الباحثون بيانات أُخذت من دراسة طولية كانت جزءاً من مجموعة دراسات سابقة، أجريت على الأطفال المصابين بمرض الربو الشعبي في كوبنهاغن (Copenhagen Prospective Studies on Asthma in Childhood) بالدنمارك.
وقام العلماء بعمل استبيان للأُسر، شمل جميع السجلات الطبية التي يحتفظ بها الآباء لأطفالهم، منذ الولادة وحتى عمر الثالثة، بما في ذلك الأعراض الأكثر حدوثاً، وإلى أي مدى كانت شدتها، ومعدل تكرار الإصابة بالأزمات، وهل استدعى الأمر الذهاب إلى قسم الطوارئ أم لا؟ والتشخيصات الأخرى المؤكدة من قبل الأطباء، وأيضاً نوعية الأدوية المستخدمة لعلاج حالات التهاب الجهاز التنفسي؛ سواء كانت في الجزء الأعلى -مثل نزلات البرد والتهاب اللوزتين- أو في الجزء الأسفل من الجهاز التنفسي -مثل الالتهاب الشعبي والالتهاب الرئوي- وأيضاً أنواع العدوى خارج الجهاز التنفسي، مثل التهاب الأذن الوسطى الحاد، وكذلك النزلات المعوية الحادة (التي في الأغلب تتطلب العلاج بالمضادات الحيوية).
وجدت الدراسة أن متوسط العدوى على وجه التقريب كان 16.4 حالة إصابة لكل طفل، في الفترة العمرية منذ الولادة وحتى سن الثالثة. وكانت نزلات البرد هي الإصابة الأكثر شيوعاً في مجمل الأطفال. وقام العلماء بعمل تصنيف وتحليل لحالات الإصابة بنزلات البرد، للحكم على مدى ارتباطها بعد ذلك بحدوث عدوى؛ سواء كانت متوسطة أو شديدة الحدة. ورصد الباحثون لأي مدى تم استخدام المضادات الحيوية القوية (systemic antibiotic) تبعاً لاحتياج كل حالة، وأيضاً تم جمع المعلومات السريرية الخاصة بكل عدوى، من خلال التشخيصات والوصفات الطبية، من سن الثالثة وحتى سن العاشرة وبداية المراهقة.
استبعدت الدراسة الأطفال الذين يعانون من عيوب خلقية أو أمراض مناعية، لضمان إمكانية تعميم النتائج على الأطفال الطبيعيين الأصحاء، وأيضاً تم تثبيت العوامل الأخرى التي يمكن أن تؤثر في النتيجة النهائية، مثل الحالة الاجتماعية والاقتصادية للأسرة، ومستوى التعليم بالنسبة للآباء، وسلوك الأم ووعيها، بجانب وجود أشقاء أو لا، والبيئة المحيطة بكل طفل، وتم تحليل شدة العدوى تبعاً لمقاييس معينة.
وأجرت الدراسة تحليلات فرعية لتقييم تأثير كل عدوى على حدة، مثل الالتهاب الرئوي أو نوبات البرد على المخاطر الصحية لاحقاً، وأيضاً تم جمع عينات من مجرى الهواء في الجهاز التنفسي من الأطفال الذين يعانون من أعراض تنفسية شديدة، خلال السنوات الثلاث الأولى، وتم تحديد مسببات الأمراض الفيروسية، بما في ذلك فيروسات الأنف (rhinoviruses) والفيروسات المعوية (enteroviruses).
وجدت الدراسة أن العدوى في وقت مبكر من الحياة أثَّرت بشدة على المخاطر الصحية على المدى الطويل، وعلى وجه التقريب زادت كل نوبة عدوى مبكرة من خطر الإصابة بعدوى متوسطة إلى شديدة لاحقاً، بنسبة بلغت 5 في المائة. وأيضاً كان للمضادات الحيوية دور مهم في إمكانية حدوث مخاطر صحية لاحقاً. وعلى وجه التقريب زادت كل مرة للعلاج بالمضادات القوية من خطر الإصابة اللاحقة بنسبة بلغت 2 في المائة.
عدوى شديدة في الكبر
وجد الباحثون أن الأطفال الذين يعانون من معدل عدوى متكرر (على وجه التقريب 16 نوبة إصابة بحلول سن الثالثة) كانوا أكثر عرضة لمخاطر الإصابة بعدوى شديدة، وأكثر عرضة للعلاج بالمضادات الحيوية القوية، مقارنة بالأطفال الذين يعانون من معدل عدوى أقل تكراراً. وكلما زادت مرات التعرض زادت احتمالات حدوث عدوى شديدة الحدة.
وجد العلماء من خلال التحاليل الفرعية لتقييم نوعية العدوى، أن حدوث العدوى المتكررة في الطفولة بشكل عام (سواء كانت شديدة أو متوسطة الحدة) شكَّل خطراً من زيادة احتمالية الإصابة الشديدة لاحقاً. وعلى سبيل المثال، كانت نوبة الالتهاب الرئوي في سن مبكرة مرتبطة بزيادة خطورة التعرض للإصابة (الالتهاب الرئوي) لاحقاً، بنسبة 50 في المائة تقريباً. وفي المقابل حتى النوبات الصحية البسيطة والمتوسطة الحدة -مثل نزلات البرد والتهاب الأذن الوسطى- ساهمت في زيادة مخاطر «الالتهاب الرئوي». وارتبطت العدوى الفيروسية -وخصوصاً فيروسات الأنف والفيروسات المعوية- أيضاً بزيادة نسبة الخطورة في المستقبل.
تؤكد نتائج الدراسة على أهمية توفير الرعاية الكافية للأطفال في السنوات الأولى من الحياة، لحمايتهم من خطر الإصابة بأنواع العدوى المختلفة؛ خصوصاً للأطفال الأكثر عرضة لحدوثها، مثل الأطفال الذين يعانون من عيوب خلقية والمصابين بالأورام.
وتبعاً لنتائج الدراسة، يجب على الأطباء ومقدمي الرعاية الصحية إعطاء الأولوية للحد والتخفيف من مخاطر حدوث العدوى، لتلافي حدوث عدوى شديدة على المدى الطويل، تتطلب العلاج بأنواع قوية من المضادات الحيوية.
* استشاري طب الأطفال