علاوي: صدام كان شاباً شهماً حوّلته السلطة مستبداً بلا شريك أو رقيب

رئيس الوزراء العراقي السابق روى لـ«الشرق الأوسط» رحلته مع «البعث» وصدام وعراق ما بعد الاحتلال (الحلقة الأخيرة)

TT

علاوي: صدام كان شاباً شهماً حوّلته السلطة مستبداً بلا شريك أو رقيب


الرئيس العراقي في صورة تعود إلى عام 1981 (غيتي)
الرئيس العراقي في صورة تعود إلى عام 1981 (غيتي)

كان ذلك في عام 1964، ربطت إياد علاوي علاقة صداقة بزميل له اسمه عبد الكريم الشيخلي الذي عاد إلى كلية الطب في بغداد بعد انقطاع طويل بسبب مشاركته في محاولة اغتيال الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم في 1959. ذات يوم جاء شاب نحيل إلى الكلية فتولى الشيخلي تعريف علاوي عليه. اسم الشاب صدام حسين. سيكرر صدام تلك الزيارات وسيسأل علاوي أكثر من مرة «أين أخي التوأم؟». وكان علاوي يجيب بأنه في المحاضرة وسيأتي بعد انتهائها، وكان الاثنان يتبادلان الأحاديث حول فنجان قهوة ثم ينضم إليهما الشيخلي. نشأت صداقة بين الثلاثة وستتكرر اللقاءات وسيقيمون في المعتقل نفسه في 1964، لكن المصائر ستفترق حين يتحوّل صدام لاحقاً سيّد الحزب والبلاد بلا منازع.

رئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي خلال حواره مع رئيس التحرير غسان شربل (الشرق الأوسط)

في 1978 أدمت فأس صدام، علاوي، بعدما دفعته إلى شفير الموت. لا تمنع العداوة علاوي من الاعتراف لخصمه بصفات ومميزات. سألته كيف كان صدام في النصف الأول من الستينات، فأجاب: «حين التقينا للمرة الأولى لم يكن صاحب دور مهم في الحزب. لكنه كان رجلاً يتسم بالشهامة والإرادة القوية ويُعدُّ من مناضلي الحزب والملتزمين بفكره». لا يجد صعوبة أيضاً في الاعتراف بأن حكومته أجرت بعد سقوط صدام تحقيقات «ولم تعثر على عقار واحد باسمه بما في ذلك طائرة الرئاسة». يحمّل علاوي الشاب الذي تعرّف عليه في كلية الطب مسؤولية الكوارث والمآسي التي لحقت بالعراق، لكنه لا يُنكر مواصفات تمتع بها وساعدته على الارتقاء في الحزب. السلطة حوّلت الشاب المناضل حاكماً مستبداً بلا شريك أو رقيب.

قسوة صدام

سألت علاوي عن قسوة صدام وسأتركه يروي.

لم أشهد قسوة كقساوة صدام. وبوسعي هنا أن أذكر حادثة مهمة. كان من بين البعثيين شخص من الكرادة اسمه حسين هزبر انشق وعمل مع جناح سوريا لحزب البعث في العراق. في أحد الأيام كنّا أنا ومجموعة من البعثيين جالسين نتعشى في حديقة أحد المطاعم. جاء صدام وسعدون شاكر فرحين ويضحكان، فسألتهما عن السبب. قالا إنهما تصديا لحسين هزبر على الجسر المعلّق وأشبعاه ضرباً بأخمص المسدسات، وأنه نُقل إلى مستشفى لا يعرفان عنوانها. شعرنا بالاستياء وشكّلنا وفداً للذهاب إلى المستشفى لتفقد الرجل والسلام عليه وتبرئة الحزب من تلك الفعلة التي تدل على قساوة ونوع من الغدر. لم أكن في عداد الوفد وعرفت أن المجموعة التي هاجمت الرجل كانت من خمسة أشخاص. كان وحيداً يعبر الجسر فطوقوه وأشبعوه ضرباً.

نائب الرئيس العراقي صدام حسين يلقي كلمة أمام حشد من العرب والأكراد عام 1978 خلال احتفال بعيد النوروز قرب مدينة الموصل شمال العراق (غيتي)

أتذكر حادثاً آخر حصل مع صدام في أواخر الشهر العاشر من عام 1969 بعد عودة «البعث» إلى السلطة. اتصل بي وزير الخارجية آنذاك عبد الكريم الشيخلي وسألني عمّا يشغلني في اليوم التالي، وهو يوم جمعة، فقلت أن ليس لديّ أي التزام. طلب مني أن أزوره في بيته لنشرب القهوة ونذهب بعد ذلك إلى الخارجية، حيث لديه بعض الأوراق للتوقيع عليها، ثم نتوجه إلى نادي الصيد للغداء مع صدام الذي اصطاد عدداً من طيور الدراج. في اليوم التالي ذهبت إلى مكان سكن عبد الكريم الشيخلي. شربنا القهوة وتحدثنا في أمور الحزب والأوضاع، فقال لي إنه أصبح في وادٍ والحزب في وادٍ آخر. قلت له: لا تبتعد عن الحزب فنفوذك يكمن فيه وهناك محاولات لمشاغلتك في الخارجية.

وافقني الرجل وخرجنا إلى ممر البيت وصعدنا في سيارته الحكومية، هو يقودها وأنا إلى جانبه. ما إن خرجنا إلى باب المدخل حتى تبعتنا سيارة «حماية» وفيها مجموعة أفراد. بعد ثلاثين متراً فقط أوقفتنا سيدة كانت تبكي وسط الشارع فترجلنا من السيارة وإذ بها سيدة إنجليزية. خاطبت الوزير قائلة إنها متزوجة من مهندس عراقي مسيحي ولهما طفلان واعتقلته الشرطة السرية وأخذته بعدما ضربته في البيت وهي لا تعرف مكانه. أكدت أن زوجها لا يعمل في السياسة وحائز على الدكتوراه من جامعة مانشستر في بريطانيا.

طلب الوزير رقم هاتفها وسجّله أحد المرافقين، ثم توجهنا إلى الوزارة وتحدث مع مدير الأمن العام عن هذا الشخص. قال الوزير: اعتذروا منه وأعطوه كتاباً وأرسلوه إلى بيته بسيارة حكومية، وقبل ذلك يجب أن يكلّم زوجته فوراً. بعد الوزارة توجهنا إلى نادي الصيد وكان صدام في انتظارنا.

الرئيس العراقي في صورة تعود إلى عام 1981 (غيتي)

في بداية اللقاء كان الشيخلي يحمل معه آلة تصوير قال إنها تأخذ صوراً ملوّنة فورية. سأل صدام عن الكاميرا فقال الوزير إنه اشتراها من نيويورك فطلب منه صدام: «خذ لي وللدكتور صورة». قلت لصدام: «هل تتذكر عندما كنا نُعتقل ويبحث أهلنا عنّا لإيصال الطعام والملابس النظيفة؟». قال: «طبعاً، وأتذكر الأكل اللذيذ من بيتكم وكان مع الأكل شراب الزبيب». أجبته: «إذن أبو عدي كان أهلنا يوصلون الأكل لنا (في المعتقل) ومع هذا قمنا بانقلاب، وإن كان أبيض، لأننا لم نكن راضين عن الحكم». فرد صدام بالموافقة. شرحت له قصة السيدة الإنجليزية وتساءلت كيف يحصل ذلك. نظر صدام إليّ وقال: «دكتور، كيف نُرهب الأعداء إذن؟». أجبته: «أخي أبوعدي، هذا الشخص ليس بعدو، وأنتم أرعبتم شخصاً بريئاً وكذلك أطفاله وزملاءه في العمل وزوجته الأجنبية التي حتماً عندما تذهب لزيارة أهلها في بريطانيا ستحدثهم عما جرى لزوجها، وهذا ليس بالأمر الجيد لسمعة العراق». نظر صدام نظرة طويلة وقال لي: «أخي دكتور إياد... بهكذا قلب رقيق ما تمشي الثورة». أجبته قائلاً: «أخي أبو عدي لقد جرّبنا الأسلوب الدموي عام 1963 وبالأسلوب الدموي لم تنجح الثورة».

وليمة المفاجآت

ويروي علاوي، هنا، قصة وزير الخارجية السابق عبد الكريم الشيخلي، وكيف تخلص نظام صدام منه، فيقول:

قصة إعفاء الشيخلي من منصبه في وزارة الخارجية تستحق أن تُذكر. خطب الشيخلي صبية ليتزوجها. دعاه صدام إلى عشاء مع خطيبته، ودعا أيضاً وزير الداخلية نائب رئيس الجمهورية صالح مهدي عماش وزوجته. خلال العشاء بثّت إذاعة بغداد أن الشيخلي وعمّاش أعفيا من مناصبهما. اتصل بي الشيخلي وسألني هل سمعت الخبر؟ استفسرت منه، فقال: «عندما أردت إيصال خطيبتي إلى بيتها سألني سائقي هل سمعت الخبر؟ فأجبته: أي خبر؟ قال: إعفاؤك من كل مناصبك ومواقعك في الحزب والدولة».

شارك الشيخلي مع صدام في محاولة اغتيال قاسم، التي أصيب فيها صدام بشظية. فرّا من البلاد وتوجها إلى مصر وعاشا هناك في أخوّة ووئام. الشيخلي قومي عروبي وله دالة على الحزب وشغل مواقع متقدمة فيه. أُخضع الشيخلي لاحقاً للإقامة الجبرية وتعمدوا قطع الكهرباء عن منزله بحجة عدم دفع الفواتير. وحين توجّه إلى مقر مؤسسة الكهرباء اغتالوه بالرصاص على مرأى من زوجته. كان ذلك في 1980. للأسف لم يقبل نصيحتي بعدم العودة إلى العراق حين كان خارجه.

الرحلة مع «البعث»

سألت علاوي عن بدء رحلته مع حزب البعث، فاستعاد البدايات.

كان أحد أصدقاء أخي الأكبر صباح واسمه وميض عمر نظمي بعثياً وكان يتحدث معي عن «البعث» كلما يأتي إلينا. كان له الدور الأكبر في توجيهي نحو «البعث» بعد انقلاب يوليو (تموز) 1958 بشهرين من دون علم أسرتي. وقد فاتحت بعض الأصدقاء ممن كنت أعتقد أنهم معادون للفكر الشيوعي وكانت لديّ شكوك في أن بعضهم مع حزب البعث. وفعلاً أخبرني وميض أنه عضو في الحزب، وأعطاني كراريس وكتباً عنه. كنت في الثالثة عشرة وأقترب من الرابعة عشرة، ولهذا قررت العمل مع البعثيين لكنني كنت أخشى أهلي. انتميت إلى «البعث» لمناهضة الفكر الأجنبي، بحسب اعتقادي حينذاك. قررت ذلك من دون علم أحد من أفراد أسرتي.

صدام في صورة مؤرخة عام 1960 بمسقط رأسه في تكريت (غيتي)

في مظاهرة للتحدي عندما أعدم عبد الكريم قاسم كوكبة من الشهداء، في مقدمهم ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري ورفاقهما، تعرّفت على رافع طاقة وأخوة آخرين من الذين كانوا مسؤولين عن المظاهرات التي انطلقت من الأعظمية وأنا واحد من المشاركين فيها. تعالت العواطف ورحت أهتف مع المشاركين: «يا بغداد ثوري ثوري وخلّي قاسم يلحق نوري»، في إشارة إلى مصير نوري السعيد الذي سُحل في شوارع بغداد. لاحقاً وخلال توزيع مناشير معادية للحكم، اعتقلني الانضباط العسكري وأفرج عنّي بعد عشرة أيام، فقد كنت صغيراً. قال لي رئيس المحكمة: اذهب إلى أهلك. امتعضت كثيراً حيث أنني كنت أتطلع إلى أن أسجّل بطولات. شاركت بعدها في اعتصامات طلابية واحتجاجات أدت أيضاً إلى اعتقالي.

على ظهر دبابة

صدام حسين خلال لقاء مع وسائل إعلامية في القصر الرئاسي ببغداد عام 1983 (غيتي)

عندما استولى «البعث» على السلطة في العراق في 8 فبراير (شباط) 1963 بقيادة حازم جواد، كان علاوي نزيل «السجن رقم واحد» الذي كان يضم أيضاً أسماء بارزة، بينها علي صالح السعدي وأحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وحسن النقيب. شعر السجناء بحركة غير عادية في جوار السجن. وصلهم أن تحركاً عسكرياً يجري في بغداد، لكن لم يعرفوا هويته وما إذا كان شيوعياً أو بعثياً. فجأة تبدّل سلوك الحرس وبدأوا التودد إلى السجناء. وفي الثانية عشرة ظهراً اقتحمت ثلاث دبابات السجن وترجّل من إحداها ضابط مسلّح برشاش وأمر بفتح الأبواب واعتقال مدير السجن وإطلاق سراح المعتقلين، وبدا واضحاً أن «البعث» وراء الحركة. «انطلقنا ونحن فرحون وصعدنا على ظهر الدبابات. الدبابة التي صعدت إليها كان يقودها الضابط أنور عبد القادر الحديثي وتحوّل صديقاً لاحقاً. وأعتقد أن عادل عبد المهدي (رئيس الوزراء في مرحلة ما بعد صدام) كان معي على الدبابة نفسها».

في ذلك اليوم سيبرز اسم الطيّار منذر الونداوي الذي شارك في قصف وزراة الدفاع التي تحصّن فيها عبد الكريم قاسم. وفي اليوم التالي سيعدم قاسم في مبنى الإذاعة رافضاً وضع العصابة على عينيه في تحدٍ لمن يستعدون لإعدامه، تماماً كما سيفعل صدام حسين لاحقاً قبيل التفاف الحبل على عنقه. ستشهد بغداد في تلك الأيام صدامات عنيفة. «في ذلك اليوم، كان الحزب الشيوعي يدعو جماهيره للوقوف ضد الثورة، ما حدا بالعسكريين، في مقدمهم عبد الغني الراوي، إلى إذاعة بيان يدعو إلى الوقوف بحزم ضد الشيوعيين. وقد أصدر علي صالح السعدي، وزير الداخلية ونائب رئيس الوزراء، بتأثير من الراوي، البيان رقم 13 الذي يدعو إلى إبادة الشيوعيين الذين يتصدون لثورة 14 رمضان 1963... واستمرت، للأسف، عمليات المواجهة الواسعة غير المبررة مع الشيوعيين وبأسلوب دموي وبشع على مدى تسعة أشهر، وكان وراءها عدد من العسكريين، فضلاً عن ممارسات الحرس القومي بقيادة الونداوي».

ويضيف: «المهم وبصراحة أن (البعث) كفكر وأيديولوجية وسلوك متوازن انتهى عام 1963. كنا قررنا ترك الحزب، لكن ما حصل بعد ذلك العام وما كان السبب في العودة إليه هو الاضطهاد والاعتقال والمطاردة والقمع الذي تعرضنا له في عهد عبد السلام عارف، وقد كنّا شباباً. لذا قررنا العودة إلى العمل الحزبي لكي نهيّئ لانقلاب عسكري يطيح الحكومة».

في السجن مع صدام ورفاقه

في خريف 1964، قرر الحزب القيام بمحاولة انقلابية لاستعادة السلطة التي كان عبد السلام عارف أقصى الحزب عنها. شكّل لهذا الغرض جهازاً سُميّ جهاز «حنين»، وكان صدام حسين وعبد الكريم الشيخلي ومحمد فاضل في قيادته. في مطلع سبتمبر (أيلول) انكشف أمر المحاولة الانقلابية وبدأت اعتقالات وملاحقات استمرت لما بعد شهر أكتوبر (تشرين الأول). شنّت السلطات حملة اعتقالات ومطاردات واسعة وكنت أنا بين من تم اعتقالهم في ذلك الوقت. وكان صدام والشيخلي وصلاح عمر العلي وعماد شبيب وحامد جواد بين الذين اعتقلوا أيضاً.

هرب ص

حسن العامري.. عبد الكريم الشيخلي.. وصدام حسين في السجن العام 1964

دام وعبد الكريم الشيخلي من السجن عبر صيدلية في منطقة السعدون. كانا يعودان عادة من المحكمة إلى المعتقل مخفورين لكنهما في هذا اليوم ادعيا أنهما بحاجة إلى شراء أدوية. دخلا الصيدلية مع بعض الحراس وفرّا عبر مدخل آخر وكانت سيارة في انتظارهما، واختفيا في أوكار حزبية إلى أن أصدر عبد الرحمن البزاز، رئيس وزراء العراق حينذاك، الرجل الشريف، عفواً عنهما وعن غيرهما مما أفاد في تسريع عملية إعادة بناء الحزب وترميمه. وهكذا بدأ التفكير والحديث الأولي عن وسائل وإمكانية تغيير النظام في العراق عن طريق الانقلاب العسكري.

تخرجت من كلية الطب في صيف عام 1970 وغادرت العراق للسكن في لبنان في الشهر العاشر من عام 1971 مصمماً على الاتفاق مع آخرين لتعديل بعض مسارات الحزب من خلال تغيير القيادات وإعادة الحزب إلى وضعه الحقيقي. وكانت أسباب تركي العمل الحزبي كثيرة، أبرزها البدء بإلغاء الحريات داخل الحزب وخارجه، وكذلك التضييق الذي حصل ضدي وضد آخرين بسبب عدم قناعتي بما كان يحصل ورفضي الإجراءات التي اعتمدت للانفراد بالقرار، ما أدى إلى احتقان شديد مع بعض القادة، وفي مقدمهم صدام حسين التكريتي.

حين يغضب السيد النائب

يتابع علاوي: «كان الجفاء واضحاً خلال مكالمة هاتفية مع صدام بعد إعفاء الشيخلي وعماش من مواقعهما وقبول استقالة سمير نجم من قيادة الحزب. كلّمني صدام وأنا في كلية الطب، وكانت مكالمة مشحونة. أراد مني أن أتكلم ضد الشيخلي. وكنت اعترضت على ما جرى من تعليق للنظام الداخلي للحزب على إثر إبعاد الشيخلي وعماش اللذين كانا عضوين في القيادة القومية والقيادة القطرية وفي مجلس قيادة الثورة، وكذلك سمير نجم، وما رافق ذلك من توتر. أدى كل ذلك الشحن السياسي إلى أن يقوم بعض الأخوة في الحزب بنصيحتي بالسفر للتخصص. غادرت إلى لبنان ومنه إلى لندن».

كان بين الذين نصحوا علاوي بالمغادرة صديق له اسمه ناظم كزار، وهو عضو شهير في ما يُعرف بـ«نادي القساة»، خصوصاً حين تولى منصب مدير الأمن العام وحين حاول في 1973 اغتيال أحمد حسن البكر وصدّام حسين معاً في مطار بغداد احتجاجاً على ما عدّوه خروجاً على النهج الأساسي للحزب وسيطرة «فريق تكريت» على الحزب والدولة. تأخرت طائرة البكر في الوصول فتوهّم المتآمرون أن الخطة انكشفت. فرّ كزار مع رهائنه في اتجاه الحدود مع إيران لكن الجيش طارده واعتقله وتمت تصفيته سريعاً.

يقول علاوي: أُعدم كزار سريعاً. أطلقت النار على رأسه من الخلف. لم يستطع أحد أن يواجهه رغم أنه كان معتقلاً. إنه أكثر الرجال الذي التقيتهم جرأة. لا يعرف شيئاً اسمه الخوف. عملنا معاً في مكتب الطلبة في الحزب. جرأة بلا حدود والتزام مطلق بأهداف الحزب. كان عنيفاً مثل صدام. عنيف وقوي ونزيه. لا غبار أبداً على نزاهته. ذات يوم قال لي إن شقيقته تستعد لولادة صعبة ولا يملك المال اللازم لإدخالها إلى المستشفى. كان مديراً للأمن العام وأنا كنت طالباً في كلية الطب. سألته: «أليس لديك المبلغ اللازم؟»، فأجاب: «لا، والله». اتصلت بالأستاذ كمال السامرائي، وهو كان أستاذنا في الكلية ولديه مستشفى خاص اسمه «مستشفى السامرائي» وأبلغته بالأمر، فسألني: «هل يُعقل ألا يكون لديه المال؟». أجبته: «والله ليس لديه، أنا أعرف أنه رجل نزيه ولا يمد يده إلى مال ليس له». أدخلها السامرائي إلى المستشفى وأجرى لها الولادة ولم يأخذ منها مالاً. يمكن القول إن صدام وكزار أعنف رجلين عرفهما العراق لكن لم يكن المال موضع اهتمامهما.

عبد الكريم الشيخلي

سألت علاوي عما نُسج من روايات حول دور كزار في عمليات تعذيب رهيبة شهدها «قصر النهاية»، فأجاب: السمعة التي لطّخ بها ناظم كزار سمعة رهيبة. أنا سألت شيوعيين عن الأنباء عن ضلوع كزار شخصياً في عمليات تعذيب فلم أحصل على جواب مباشر. سألت عزيز محمد وعامر عبد الله وفخري كريم وهم كانوا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي، فلم يتحدثوا عن معاينتهم دوراً شخصياً له. طبعاً كان ناظم معروفاً بلجوئه إلى العنف، مثل صدام.

مساء 16 يوليو (تموز) 1968، عاد إياد علاوي إلى العراق من لبنان منهكاً وحزيناً بعدما وارى والدته هناك. عرف ليلاً أن نهار الغد سيشهد محاولة انقلابية، فانضم إلى المشاركين فيها. في 17 يوليو، استسلم الرئيس عبد السلام عارف لقدره بعدما تأكد أن قائد الحرس الجمهوري عبد الرحمن الداود ونائب رئيس الاستخبارات العسكرية عبد الرزاق نايف اتفقا مع «البعث» على إطاحته.

قرأ صدام تجربة انتكاسة «البعث» في 1963، اتخذ قراراً بعدم الاطمئنان إلى العسكريين، وكذلك بعدم السماح بقيام تكتلات داخل الحزب. اختار الإقامة تحت عباءة «الأب القائد» أحمد حسن البكر، بانتظار استكمال إخضاع الحزب والجيش. تخلّص تباعاً من كل معترض أو معارض ومن كل من يزعم أنه شريك. زار ذات يوم منزل علاوي وعرض عليه منصب سفير العراق في بيروت، لكن الأخير اعتذر متذرعاً بالرغبة في استكمال تخصصه في مجال الطب.

غادر علاوي إلى لبنان ومنه إلى بريطانيا. في 1975 قطع علاقته تماماً مع الحزب واختار العمل من أجل تغيير النظام. نجا في 1978 من محاولة لاغتياله ونجا بعد سقوط نظام صدام عام 2003 وعودته إلى بغداد من محاولات لاغتياله، بينها تفجير رتبه تنظيم «القاعدة».

ختام الجلسة

سألت علاوي في ختام الجلسة عن السبب الذي جعل صدام يتقدم في الحزب ويستولي عليه، فأجاب: «سببان رئيسيان: السبب الأول جرأته الفائقة، والثاني وقوف أحمد حسن البكر معه. اعتقد البكر أن صدام حليفه في الجانب المدني من الحزب. لاحقاً شعر صدام بالسيطرة على الحزب فانقلب على البكر. حذّرنا الجميع باكراً، لكن ما حدث قد حدث. انزلاق صدام إلى الاعتماد على العنصر العائلي والتكريتي بدأ بعد شهرين من عودة (البعث) إلى السلطة».

قصة علاوي مهمة وطويلة وشائكة ولا تتسع لها حفنة صفحات. روايته تسلط الضوء على بعض ملامح تلك المرحلة خصوصاً أنه كان على علاقة مباشرة بأبرز اللاعبين في «نادي القساة».


مقالات ذات صلة

هجوم مسلح بـ«رسالة سياسية» على مقر بارزاني في كركوك

المشرق العربي صورة من الجو لمدينة كركوك (غيتي)

هجوم مسلح بـ«رسالة سياسية» على مقر بارزاني في كركوك

تعرض مقر «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، الذي يتزعمه مسعود بارزاني، فجر السبت، لهجوم بأسلحة خفيفة من قبل مجهولين في محافظة كركوك.

فاضل النشمي (بغداد)
شؤون إقليمية تركيا أكدت استمرار «المخلب القفل» شمال العراق بالتنسيق مع بغداد وأربيل (الدفاع التركية)

غارات تركية على مواقع لـ«العمال» في كردستان العراق

نفذت القوات التركية غارات جوية استهدفت مواقع لحزب «العمال» الكردستاني في مناطق شمال العراق، أسفرت عن تدمير 25 موقعاً.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
رياضة عالمية سجاد غانم (الأولمبية العراقية)

«الأولمبية العراقية»: لن نقف مكتوفي الأيدي بعد سقوط غانم في اختبار المنشطات

قرر عقيل مفتن، رئيس اللجنة الأولمبية العراقية، اليوم (السبت) فتح تحقيق لكشف ملابسات سقوط مصارع الجودو سجاد غانم في اختبار منشطات.

«الشرق الأوسط» (باريس)
المشرق العربي إسلام آباد تعتزم تنظيم الزيارات الدينية بعد اختفاء 50 ألف باكستاني في العراق (إ.ب.أ)

العراق يحقق في اختفاء 50 ألف باكستاني

أعلن العراق، أمس الجمعة، فتح تحقيق في اختفاء آلاف الباكستانيين، كانوا قد دخلوا البلاد لزيارة المراقد الدينية خلال شهر محرم.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي باكستانيون خلال مشاركتهم في طقوس «عاشوراء» بمدينة كراتشي (إ.ب.أ)

50 ألف باكستاني اختفوا في العراق

فجر وزير باكستاني مفاجأة مدوية حين أعلن اختفاء 50 ألفاً من مواطنيه في العراق، ودفع حكومة بغداد سريعاً إلى فتح تحقيق في تسربهم إلى سوق العمل.

حمزة مصطفى (بغداد)

هجوم مسلح بـ«رسالة سياسية» على مقر بارزاني في كركوك

صورة من الجو لمدينة كركوك (غيتي)
صورة من الجو لمدينة كركوك (غيتي)
TT

هجوم مسلح بـ«رسالة سياسية» على مقر بارزاني في كركوك

صورة من الجو لمدينة كركوك (غيتي)
صورة من الجو لمدينة كركوك (غيتي)

تعرض مقر «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، الذي يتزعمه مسعود بارزاني، فجر السبت، لهجوم بأسلحة خفيفة من قبل مجهولين في محافظة كركوك.

يأتي الهجوم في غمرة الحديث عن قيادة بارزاني لمفوضات مع المكونين العربي والتركماني لحسم معضلة الحكومة المحلية ومنصب المحافظ بعد نحو 7 أشهر على إجراء الانتخابات المحلية، فيما نفى مسؤول كردي رفيع ذلك، وذكر لـ«الشرق الأوسط» أن «مسعود بارزاني يوجد خارج البلاد هذه الأيام ولم يلتق أعضاء في مجلس كركوك».

وقالت مصادر أمنية في المحافظة إن مسلحين مجهولين أطلقوا فجر السبت النار على مقر «الحزب الديمقراطي الكردستاني» في منطقة ساحة العمال وسط كركوك ولم يسفر عن الهجوم أي إصابات بشرية أو أضرار مادية.

وحضرت قوة من الشرطة عقب الهجوم إلى موقع الحادث، وفتحت تحقيقاً وعممت أوصاف المهاجمين الذين فروا إلى جهة مجهولة.

وسبق أن أثار مقر «الحزب الديمقراطي» في كركوك أزمة كبيرة داخل المحافظة نهاية العام الماضي، بعد أن طالب قيادة العمليات العسكرية بتسليم المقر الذي تشغله منذ عام 2017، وحدثت مواجهات بين أنصار الحزب والقوات الأمنية أدت إلى مقتل أفراد إلى جانب ضابط في قوات «البيشمركة».

وانتهت الأزمة بعد قيام رئيس الحزب مسعود بارزاني بتسليم وإهداء المقر، في نوفمبر (تشرين الثاني) إلى جامعة كركوك لـ«يكون في خدمة طلب العلم والمثقفين في المدينة».

متظاهرون من الكرد فوق بناية مقر حزب بارزاني في كركوك (أرشيفية - شبكة روادو)

معلومات أولية عن الهجوم

وأعلن المتحدث باسم الفرع الثالث لـ«الديمقراطي» في كركوك عن امتلاك الحزب «معلومات عن استهداف المقر»، في حين قال الباحث الكردي كفاح محمود إن «الشبهات تحوم حول المستفيد من تعطيل عمل مجلس المحافظة وعدم التوصل إلى شخصية متفق عليها لإدارة المحافظة».

وأضاف محمود في حديث لـ«الشرق الأوسط» أنه «باستنتاج بسيط يمكن الربط بين عمليات حرق الأسواق في أربيل وكركوك ودهوك وبين هذه العملية التي كانت تستهدف اختراق سور الحماية والدخول إلى المبنى وإحراقه، خصوصاً وأنها تشبه توقيتات حرق الأسواق التي جرت في ساعة متأخرة من الليل وتحديداً في الساعات الأولى للصباح».

وتابع محمود: «هذه الأذرع لديها مراكز ووجود وتتسبب في إشكاليات إقليمية بين العراق وإقليم كردستان من جهة وبين دول الجوار من جهة أخرى».

وذكر محمود أن «الأمر المتعلق بمعرفة الجناة يبقى معلقاً لحين كشف تسجيلات منظومة الكاميرات التي صورت حركة تلك العناصر التي استخدمت مبنى قيد الإنشاء».

وتتهم أوساط «الحزب الديمقراطي»، منذ فترة طويلة، عناصر «حزب العمال» الكردستاني التركي بالتورط في مختلف الأعمال العدائية التي تقع ضده وضد بعض الشركات النفطية وشركات الغاز العاملة في الإقليم، خصوصاً في محافظتي كركوك والسليمانية، كما تحمله مسؤولية توغل القوات التركية داخل الأراضي العراقية في إقليم كردستان.

وقال المتحدث باسم الفرع الثالث لـ«الحزب الديمقراطي الكردستاني» في كركوك، مريوان جلال، السبت، إن «الفرع كان يمتلك معلومات عن استهداف المقر، وإن الهجوم يحمل طابعاً سياسياً وتزامن مع دور الحزب في تقريب وجهات النظر لتشكيل إدارة كركوك ومجلسها».

وأضاف في تصريحات صحافية أن «الهجوم يحمل طابعاً سياسياً وهو ليس استهدافاً للحزب الديمقراطي الكردستاني، بل يستهدف جميع مكونات كركوك، وجاء في وقت يعمل فيه الحزب الديمقراطي بتقريب وجهات النظر بين مكونات المحافظة للشروع بتشكيل إدارة المحافظة، وتفعيل عمل المجلس لغرض تقديم الخدمات لجميع مكونات المحافظة».

السوداني خلال استقباله نواباً من المكون التركماني (إعلام حكومي)

السوداني يجتمع بالتركمان

من جانبه، استقبل رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، السبت، عضوين من المكون التركماني في مجلس محافظة كركوك، وحثهم على الاتفاق بشأن اختيار منصب محافظ كركوك بما يلبّي تطلعات أبناء المحافظة.

ولم تفلح جهود رئيس الوزراء محمد السوداني حتى الآن في حل أزمة المحافظة برغم لقاءاته المتكررة مع القوى الفائزة في مقاعد مجلسها.

وأشار السوداني، خلال اللقاء، طبقاً لبيان صادر عن مكتبه، إلى «أهمية تقديم مصلحة أبناء كركوك في أي اتفاق بين القوى السياسية التي فازت بالانتخابات، إثر النجاح في إجرائها بعد تعطل استمر منذ عام 2005».

وشدد السوداني على ضرورة «اختيار الإدارات الحكومية المحلية الناجحة، والاتفاق بشأن اختيار منصب محافظ كركوك بما يلبّي تطلعات أبناء المحافظة».

وتتردد منذ أسابيع أنباء عن سعي القوى المتخاصمة في مجلس المحافظة للاتفاق على صيغة لحسم منصب المحافظ من خلال تدويره بين الكتل الفائزة، بحيث يشغل الأكراد المنصب في السنتين الأولى، ثم يذهب إلى العرب في السنتين الأخيرتين من عمر دورة مجلس المحافظة المحددة بأربع سنوات، وهناك حديث عن أن للتركمان حصة في عملية التدوير رغم امتلاكهم لمقعدين فقط من أصل 16 مقعداً في المجلس.