في صيف 1982 تكاثرت المشاهد والمنعطفات. لم يكن أمام المقاومة الفلسطينية غير الخروج من بيروت التي يطوّقها الجيش الإسرائيلي. رأى ياسر عرفات أن مرحلة كاملة قد طُويت. قرر المغادرة بحراً رافضاً سلوك طريق بيروت - دمشق. في العقد التالي، سيعيد القضية إلى ترابها. إلى أرض فلسطين. أعاد الربط بين المصيرين الإسرائيلي والفلسطيني. لن تنعم إسرائيل بالاستقرار ما لم يعش الفلسطينيون في دولتهم. وفي ذلك الصيف، أطلق جورج حاوي ومحسن إبراهيم نداء المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول) من منزل كمال جنبلاط في المصيطبة في 16 سبتمبر (أيلول) 1982. وقبلها انتُخب بشير الجميل رئيساً للجمهورية في 23 أغسطس (آب) 1982، ثم اغتيل في 14 سبتمبر قبل الإمساك رسمياً بالقصر، وتلا ذلك وقوع مجازر صبرا وشاتيلا. بعد أربعة عقود، يقاتل الفلسطينيون على أرضهم في معركتهم المفتوحة من أجل قيام دولتهم. في المقابل، سقط اللبنانيون في امتحان الدولة رغم نجاحهم في تحرير أرضهم من الاحتلال. شهد لبنان من الانتفاضات والوصايات والاغتيالات ما يفوق قدرته على الاحتمال. يقيم حالياً تحت ركامه. بيروت التي كانت شرفة تكاد تشبه معتقلاً. حزينة. مكسورة. معتمة. منهوبة. كسفينة يتيمة التهمها القراصنة وقرروا إغراقها لإخفاء بصماتهم. المدينة التي عاندت صيف الغزو الإسرائيلي تضج بالفقراء والخائبين والخائفين. لا يتفق اللبنانيون على تاريخهم ولا يتفقون على مستقبلهم. جزر متنافرة الأحلام والأوهام والقواميس والمرجعيات. لنترك هذه الجروح الآن علّنا نزورها لاحقاً. لنرجع إلى صيف المشاهد والمفترقات.
سألت رئيس الوزراء اللبناني إبان الاجتياح الإسرائيلي لبيروت شفيق الوزان عن ذلك الصيف القاتل ففتح باب الذكريات. في أواخر يونيو (حزيران) 1982 عرف من ياسر عرفات أن المقاومة الفلسطينية مستعدة للخروج من بيروت. يعتقد الوزان أن القيادة الفلسطينية «أدركت منذ الساعات الأولى لحصار بيروت حدود العمل العسكري الذي تستطيع القيام به، وصار همها توظيف فترة الصمود الممكنة في تحقيق مكاسب دبلوماسية وسياسية». والواقع أن المنظمة لم تكن قادرة على السير إلى ما لا نهاية في معركة بلا أفق.
بعد أسابيع من بدء الغزو، ظهر أن الاتحاد السوفياتي ليس في وارد القيام بأي خطوة دراماتيكية، وأن مجلس الأمن لن يستطيع التحرك بحرية. ولم يبق إلا الجانب الأميركي الذي يستطيع ممارسة ضغوط على الجانب الإسرائيلي طبعاً في مقابل ثمن لا بد من دفعه، وهو الموافقة على بعض الشروط. لم يكن باستطاعة أحد اتخاذ قرار بتدمير بيروت تدميراً كاملاً، فضلاً عن أن نهاية القيادة الفلسطينية في معركة من هذا النوع سترتب انعكاسات بالغة السلبية على القضية نفسها.
أبلغ الوزان المبعوث الأميركي فيليب حبيب في 3 يوليو (تموز) أن منظمة التحرير وافقت على خروج قواتها. يتذكر أن حبيب التفت إليه وقال: «هل لديك في خزانتك مستند يثبت تعهدهم بالخروج؟». أجاب الوزان أنه لم يخطر بباله الحصول على مستند ولم يطلب شيئاً من هذا النوع، فأتاه رد المبعوث: «أنا متأكد أن الإسرائيليين يصرون على تعهد خطي بالمغادرة. سبق أن طلبوا مني ذلك لأن ثقتهم بالقيادات الفلسطينية قليلة». وحين نقل الوزان رسالة حبيب إلى القيادة الفلسطينية «حصلت خضة كبيرة».
يروي رئيس الوزراء الأسبق أن القيادة الفلسطينية كانت تحاول تفادي إعطاء تعهد خطي. يقول: «خلقت المطالبة بالتعهد حالة من الغضب والإرباك». أذكر أن حواراً ساخناً دار في اجتماع عقد في دارة الرئيس صائب سلام (رئيس الوزراء اللبناني الأسبق). تحدث عرفات وكأن اللبنانيين، وأهل بيروت خصوصاً، تخلوا عن المقاومة. لم يستطع صائب سلام أن يتحمل مثل هذا الكلام، وقال له: «بعد كل الذي قدمته بيروت تقول مثل هذا الكلام. وبعد الذي قدمه لبنان نسمع مثل هذا الكلام. ألا ترى الخراب الذي لحق بالبلد. أنت لا تستطيع النوم في مكان واحد وتذهب من هنا إلى هناك. هل تريد أن تتهدم بيروت نهائياً ويتشرد أهلها؟». انفعل صائب سلام وفتح الباب ونادى الصحافيين وقال لهم: «اكتبوا على لساني: نحن نريد قتل الفلسطينيين وتشريدهم ونحن...». سارع أبو عمار (عرفات) إلى الصحافيين وطلب منهم عدم نشر أي شيء من هذا الكلام وأخذت من الصحافيين أشرطة التسجيل.
الحقيقة أن الرئيس تقي الدين الصلح (رئيس الوزراء اللبناني الأسبق) طرح في اجتماع سؤالين على القيادة الفلسطينية: «هل لديكم سلاح لم تستخدموه حتى الآن في هذه الحرب؟ إن كان لديكم فنحن معكم ونضحي معكم. هل وعدتكم دول بأن تدخل الحرب إلى جانبكم وأن تدخلها سيجعل النصر شبه حاصل؟ فإذا كان لديكم مثل هذا الوعد نحن معكم. أما إذا لم يكن لديكم ذلك السلاح وذلك الوعد فحرام يا أبو عمار أن تتدمر بيروت التي أعطت وتعطي». في النهاية، وافق الفلسطينيون على الخروج ومسستلزماته. كل ذلك كان مؤلماً لي، والكلام لا يزال للوزان. كانت المقاومة الفلسطينية هي الأصل بالنسبة لنا، وقد دعمناها ووقفنا إلى جانبها وأحياناً إلى حد تجاهل بعض أخطائها والحساسيات اللبنانية.
عرفات وسلام... صدام انتهى بهدية
حين بدأ الغزو الإسرائيلي، قرر مجلس الوزراء اللبناني وضع كل الإمكانات تحت تصرف الجيش اللبناني. لكن كان هناك نوع من التسليم الكامل أن تصديه للآلة العسكرية المدمرة سيعرضه لعملية سحق كاملة، مما قد يؤدي إلى تقسيم البلاد، خصوصاً في ظل وجود ميليشيات متناحرة. وعندما اقترب الجيش الإسرائيلي من بيروت وطوّقها، راودت الوزان رغبة في الاستقالة. اعتبر الرئيس صائب سلام أن المرحلة لا تسمح بانقسام الحكم أو شلّه، فقدم للوزان دعماً كاملاً أقنعه بصرف النظر عن الاستقالة. وسيكون موقف سلام في تلك المرحلة موضع إشادة من خصومه، وبينهم محسن إبراهيم الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي وجورج حاوي الأمين العام للحزب الشيوعي.
تذكر سلام تلك الأيام. كان آرييل شارون في 1982 يريد هدم بيروت على رأس الفلسطينيين ورأسنا معاً. بذلت جهوداً حثيثة وكان همي أن تسلم المقاومة الفلسطينية ويسلم بلدنا. تعالت أصوات آنذاك تقول إنه رمانا في الخارج من أجل إنقاذ بلده. هذا غير صحيح. لقد خرجوا بسلاحهم معززين وهم يرفعون شارة النصر وقمت بوداعهم على المرفأ وتوجهوا إلى أماكن أخرى لمتابعة العمل من أجل قضيتهم. كانت هجمة شارون ضارية. وكنت أطل من منزلي فأرى اللهب من البر والبحر والجو.
حصلت صدامات عدة مع أبو عمار. وخرجت غاضباً ذات يوم لكنني رفضت أن ينشر التلفزيون الصورة لأنني أردت عدم تهييج المشاعر. مع ذلك جاء عرفات قبل أن يغادر وودعني. كان يحمل تحت إبطه «عصا المارشالية». أصر على تقبيل يد زوجتي تميمة وقال هذا أثمن ما عندي أقدمه لك عرفاناً بالجميل. وترك معظم أغراضه عندنا.
مواقف لبنانية - فلسطينية من الاجتياح
استعاد جورج حاوي المواقف في بيروت بعد قيام الجيش الإسرائيلي بتطويقها وإمطارها بقصف متواصل. في قيادات الثورة الفلسطينية وعلى الصعيد الوطني اللبناني كانت هناك ثلاثة مواقف بشكل عام. الأول تخاذلي يرى أنه لا جدوى ولا طائل من استمرار القتال ويجب البحث بسرعة عن حل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. كان لهذا الموقف رموز عدة في القيادة الفلسطينية، ما يسمى باليمين الفلسطيني، أكثر من مرة كانت وجهات نظر الأخ هاني الحسن شديدة المرونة في هذا السياق. الموقف الثاني كان رمزياً نظرياً ورومانسياً وتحدث عن تحويل بيروت إلى ستالينغراد مثل موقف الدكتور جورج حبش (الأمين العام لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»). وكنت في الشهر الأول من هذا الرأي. أبو جهاد (القيادي الفلسطيني أحد مؤسسي حركة «فتح» خليل الوزير) تميز بأنه لا يعطي رأياً، بل يمارس على الأرض، أي أنه يمارس على أساس ستالينغراد من دون أن يعلن. التيار الثالث هو التيار الواقعي وكان يعرف أن المعركة محدودة، وأن هدف القتال هو تحسين شروط الحل السياسي. وقد قوي هذا التيار بعدما تبين أنه لا فرصة لموقف دولي يوقف آلة الحرب الإسرائيلية.
ليس صحيحاً أنني تسببت مع محسن إبراهيم في إطالة الحرب بذريعة انتظار الموقف السوفياتي. كان محسن مثلنا متشدداً في الشهر الأول، لكنه سلك طريق الواقعية لاحقاً. وكان هذا موقف وليد جنبلاط أيضاً. والحقيقة هي أن عرفات كان الأكثر واقعية بيننا. كان يهزأ بادعاءات تعد بتغييرات عربية وعالمية ولكنه كان يبالغ أحياناً في تصوير الخلل الفاضح في نسبة القوى وفي استصغار عامل الصمود الداخلي، الأمر الذي كان يجعلنا نخشى من أنه يمهد لتنازلات غير مبررة.
سألت حاوي عمن عارض الخروج من بيروت، فأجاب: «فعلياً لا أحد. لا من الفلسطينيين ولا من اللبنانيين. كانت الأمور تبحث حول الخروج وظروف الخروج».
عرفات يرفض منح هدية لحافظ الأسد
لا تتفق رواية أحمد جبريل الأمين العام لـ«الجبهة الشعبية - القيادة العامة» مع روايات الآخرين. سألته ذات مرة في دمشق عن الصيف الحار وتركته يروي.
شعر ياسر عرفات أن الموقف الفلسطيني صلب في موضوع الخروج من بيروت فدعا إلى اجتماع للقيادة بحضور القيادات اللبنانية مثل وليد جنبلاط وإبراهيم قليلات ومحسن إبراهيم وعبد الرحيم مراد وتوفيق سلطان. تحدث أبو عمار أنه تلقى عرضاً يتعلق بخروج الفلسطينيين وأنه رد بعدم قدرته على الإجابة قبل معرفة رأي الفلسطينيين واللبنانيين. تحدث محسن إبراهيم وإبراهيم قليلات وعبد الرحيم مراد. كان موجز كلامهم: لقد أعطيناكم كل لبنان فاعطونا بيروت. ظل وليد جنبلاط ساكتاً ولم يتكلم لا سلباً ولا إيجاباً. وكان نبيه بري (رئيس حركة «أمل» اللبنانية) حاضراً ولا أذكر ماذا قال لكنني شعرت أن مشاعر نبيه هي «الله معكم ومع السلامة»، أي مؤيد للخروج. بعضهم راح يلمح إلى أنكم لم تقاتلوا في الجنوب فلماذا تقاتلون في بيروت؟
كان الاجتماع الذي عُقد في منطقة المزرعة عاصفاً فعلاً... عندما طرحنا فكرة طرح اجتماع جديد لم نلمس حماسة من الإخوان. كان موقف «الحزب السوري القومي الاجتماعي» صلباً. جنبلاط لم يتحدث سلباً. الشيوعيون ومحسن إبراهيم ونبيه بري وقليلات كانوا مع عرفات. كان الاجتماع بمثابة طعنة في الظهر. آخر ما كان يتخيله المرء هو أن ينسحب البساط من تحت قدميه بهذه الطريقة. بعدها قاطعت الاجتماع وكلفت طلال ناجي الأمين العام المساعد أن يتابع الاجتماعات. قاطعت لأننا صرنا في موقعين وبدأت المواقف الحادة.
فتحت أسئلتي جروح الكراهية بين عرفات وجبريل، فاسترسل الثاني. قرر عرفات المغادرة لكنه كان يبحث عن عذر لعدم المغادرة عبر سوريا. سألناه عن السبب الذي يدفعه إلى تشتيت القوات وإرسال بعضها إلى تونس والجزائر فرد أنه غير واثق من موافقة سوريا على استقبالهم. كتبت مع جورج حبش ونايف حواتمة رسالة إلى عبد الحليم خدام، وكان وزير الخارجية (السوري) آنذاك. بعد أربع وعشرين ساعة جاءنا الجواب عبر اللاسلكي. اجتمعت القيادة القطرية لحزب «البعث» برئاسة الرئيس حافظ الأسد ووافقت على استقبال من يريد من الفلسطينيين بما في ذلك «جبهة التحرير العربية» التابعة للعراق. قرأت لعرفات نص البرقية فأجاب: «أنا لا أتعامل بالبرقيات. المفروض أن تصدر الحكومة السورية بياناً رسمياً».
اصطدمنا. قلت لعرفات: «مضت ثلاثة أشهر وأنت لا تترك فرصة إلا وتستغلها لانتقاد سوريا مواربة وتلميحاً، سواء مباشرة أو عبر جماعتك. سوريا تخوض المعركة معنا ودفعت 90 طائرة وآلاف الدبابات والعربات المدرعة والجنود وأنت تتصل هنا وهناك في العالم العربي. لو كانت النجدات ستصلنا سيراً على الأقدام لوصلت. هل تترك حليفك الموجود في حمانا وبعض جنوده في بيروت وتروح تهاجمه؟ هل مطلوب منك أن تصطدم مع سوريا؟»، تكهرب الجو وانتهى الاجتماع.
اتصلنا مجدداً بدمشق. وبعد ساعتين تلقينا برقية تطلب منا الاستماع إلى نشرة الأخبار في الإذاعة السورية. أذيعت الموافقة وسجلنا. دعونا إلى اجتماع للقيادة وأسمعنا عرفات التسجيل، فخاطبني قائلاً: «يا أبو جهاد، انتصار ثلاثة أشهر صمود في بيروت هل أعطيه للقيادة السورية؟ لا، أنا معطيهوش (لا أعطيه) وأنا لا أضع كل البيض في سلة واحدة». هاني الحسن نفسه قال في تلك الأيام: «لقد زرعنا والآن وقت الحصاد. انتهى موضوع الكفاح المسلح وليس أمامنا إلا أن نقطف ما زرعنا وإلا أكلته الرياح». بعد عام عاد عرفات إلى طرابلس لاستفزاز سوريا. حاصرناه لكنه خرج في النهاية. ولاحقاً سيقول لي أبو حازم (حكمت الشهابي رئيس أركان الجيش السوري) ليتك أنهيته هناك وأرحت الجميع منه.
ذهبت الكراهية أبعد. قال جبريل وقت لقائنا: «استمع كل صباح إلى الإذاعة علّها تزف لنا نبأ قيام إسلامبولي فلسطيني على غرار ما حصل مع السادات (في إشارة إلى اغتيال الضابط المتطرف خالد الإسلامبولي الرئيس المصري الراحل أنور السادات)». سألته إن كان أرسل شخصاً مكلفاً باغتيال عرفات، فنفى. لكنه قال إنه واثق أن الإسلامبولي الفلسطيني سيطل.
حبش والخروج ودمشق
وفي دمشق أيضاً، حملت أسئلة كثيرة إلى جورج حبش. استجمع ذاكرته وحكى. قرار الخروج من بيروت شاركت في اتخاذه الغالبية الساحقة من قيادة المقاومة وأنا واحد منهم. ما بلور قرار الخروج هو الواقع، خصوصاً بعد اشتداد الحصار، إذ أصبح لا بد من أخذ حالة الجماهير اللبنانية في الاعتبار، وكذلك موقف الحركة الوطنية اللبنانية. بالطبع اخترت الذهاب إلى دمشق لأنني مدرك أنني أستطيع عبرها الاستمرار في ممارسة الكفاح المسلح وإعادة بناء الجسم العسكري للجبهة وكذلك أستطيع المشاركة بفاعلية في أعمال المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي للبنان.
كانت في ذهني المساومة السياسية التي سيدخل فيها أبو عمار بعد الخروج من بيروت، وذلك بوضعنا جميعاً أمام الأمر الواقع عبر مقولة إنه لم يعد أمامنا سوى القبول بما هو مطروح علينا من مبادرات أميركية لحل القضية الفلسطينية. لأن الصراع مع إسرائيل وفق رؤية أبو عمار لم يعد ممكناً بعد خسارة الساحة اللبنانية.
أبو إياد وخسارة بيروت
في ليل تونس كان القيادي الفلسطيني البارز صلاح خلف (أبو إياد) حزيناً. خلال حصار بيروت لم تكن علاقته بعرفات في أفضل حالاتها. ومن عادة الرحلات الطويلة المشتركة أن تترك خدوشاً في العلاقات. لكن أبو إياد كان حريصاً على القول إن قرار الخروج أملته اعتبارات عديدة عسكرية وسياسية وإنسانية.
عندما بدأ الاجتياح كان قرار المواجهة والتصدي شاملاً في الصفوف الفلسطينية وفي صفوف الحركة الوطنية اللبنانية. والأمر نفسه حين طوق جيش الاحتلال بيروت. كانت قدرة الجيش الإسرائيلي التدميرية عالية وكان من المستحيل كسر الحصار بهجوم ينطلق من الداخل، ولم يكن متوقعاً تلقي مساعدة لكسره من الخارج. قاتل الجيش السوري ببسالة في البدايات وتكبد خسائر كبيرة لكن سوريا كانت غير قادرة أو غير راغبة في تحريك جبهة الجولان والتسبب في حرب واسعة.
لم تكن المقاومة الفلسطينية تقاتل على أرضها وكان عليها أن تأخذ في الاعتبار حاجات الناس ومخاوفهم على أنفسهم وأرزاقهم. ثم إنه لم يكن هناك أي رهان جدي على مجلس الأمن وبعده على الاتحاد السوفياتي نفسه. لا يمكن في ظرف من هذا النوع اتخاذ قرارات انتحارية. هكذا تحول الخروج خياراً إلزامياً.
لم نعثر بعد الخروج من بيروت على بديل لها. لا بديل لهذه المدينة التي أعطت الثورة الفلسطينية الكثير والكثير. المدينة التي تشاركنا مع اللبنانيين في ارتكاب الأخطاء بحقها ولو من دون قصد. ليتنا كنا أقدر خلال وجودنا في لبنان على فهم مخاوف خصومنا وأوضاع حلفائنا. بعد بيروت لم يعد هناك غير الالتفات إلى الداخل وهو ما فعلناه. لا أبالغ إن قلت لك إننا كنا مجرمين في حق بيروت. كيف تسببنا في ضياع هذه الجوهرة. أستغرب كيف سمح اللبنانيون بتدهور بيروت إلى هذا الحد. شاركوا في الجريمة ومن دون قصد أيضاً. كان لخسارة بيروت ثمن لا بد من دفعه.
عباس والمحطة التونسية
لم يكن محمود عباس (أبو مازن) حاضراً في صيف بيروت الحارق. إقامته كانت أصلاً في دمشق رغم عدم اتفاقه في أحيان كثيرة مع علاقاتها الفلسطينية. سألت الرئيس الفلسطيني الحالي ذات يوم عن قصة تونس فاستعاد ما حصل.
أنا أول من وصل إلى تونس قبل أن تصل المقاومة وتقرر الإقامة فيها. اتخذت قراري بالمجيء إليها حين أحكم الإسرائيليون الطوق حول بيروت. شعرت بأن الوضع في لبنان انتهى لجهة وجود الثورة الفلسطينية فيه، وأنها ستنتهي أيضاً إذا ذهبت إلى دمشق. قررت ألا أبقى في دمشق وألا أكون جزءاً من القيادة إذا قررت البقاء فيها. جئت إلى تونس واستأجرت منزلاً ورتبت أموري العائلية على أساس الإقامة في تونس أياً كانت نتائج الحرب وفي كل الظروف.
كانت الخيارات بعد إحكام الطوق على بيروت الآتية: إما أن تنتهي القيادة في بيروت وتنتهي الثورة، وأنا لم أكن مستعداً للاستمرار في إطار أي مجموعة موجودة في دمشق، وإما أن تخرج القيادة إلى دمشق وفي هذه الحالة ستكون أسيرة القرار السوري. قلت أجلس في تونس وأنتظر. إذا كان لي أن ألعب دوراً في المستقبل فسألعبه وإن لم يكن لي دور فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أرسلت إلى أبو عمار أن عليه أن يبحث عن مكان غير دمشق. في هذا الوقت بالذات جاءتنا رسالة من الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة وكانت من شقين: الأول شيك بخمسة ملايين دولار مساعدة للفلسطينيين والثاني دعوة رسمية من الحكومة التونسية لكل القيادات الفلسطينية والكوادر كي تأتي إلى تونس إذا رغبت. كان الأمر بمثابة منجاة. أرسلت إلى أبو عمار أقول له: «جاءك الفرج وتستطيع أن تذهب أنت وقيادتك إلى تونس». الحقيقة أنها كانت مبادرة تونسية لا يمكن نسيانها.
جاء أبو عمار إلى تونس. كان يشعر بنوع من الغربة والتمزق نتيجة للضغوط التي كان يتعرض لها من إخوانه سواء أعضاء قيادة «فتح» أو القيادات الفلسطينية الأخرى. كان هناك من يحمل عليه ويقول له لقد هربت وابتعدت عن خطوط التماس، ولا يمكن أن تكون مناضلاً على بعد أربعة آلاف ميل، وإنك أصبحت في منفى بعيد. هذا كان يؤلمه كثيراً كما كان يؤلمنا ويزعجنا جميعاً. وكان عرفات يرد أن المسألة ليست مسألة جغرافيا وليست مسألة مسافة. أنا هنا ربما أملك قراري وأستطيع أن أفعل ما أريد، لكنني في دمشق لا أستطيع أن أملك قراري، وبالتالي لا قيمة لوجودي حتى ولو كنت على الحدود. وثبت لاحقاً أن هذا صحيح.
فكرة أخرى راودت أبو مازن قبل المحطة التونسية. كان فاروق القدومي (أبو اللطف) عضو قيادة «فتح» يستعد لزيارة اليونان. طرح عليه أبو مازن فكرة استئجار جزيرة يونانية بانتظار العثور على مقر آخر. إنها فكرة مجنونة وغير واقعية. عرض القدومي الفكرة على رئيس الوزراء اليوناني فلم يتقبلها بأي شكل من الأشكال.
الشاعر والقائد
في بداية التسعينات زار عرفات تشيكوسلوفاكيا التي سارعت إلى خلع ردائها السوفياتي، قبل أن تنشطر. أجرى محادثات مع الرئيس فاتسلاف هافل وكأنه يتدرب على العالم الجديد الذي ولد من انهيار جدار برلين وما تلاه. كان شهر رمضان. طرق مساعدون لعرفات على الأبواب ودعونا - كصحافيين مشاركين في تغطية الزيارة - لتناول السحور مع «الختيار».
استوقفني في السحور حجم الود المتبادل بين محمود درويش وياسر عرفات. بين الشاعر والقائد. كان درويش يقشر الخيار ويقدمه للرئيس الفلسطيني الذي كان يحيطه بنظرات تعكس عمق العلاقات. عاش درويش الصيف اللبناني اللاهب. لم يغادر مع من غادروا لكن اجتياح القوات الإسرائيلية بيروت إثر اغتيال بشير الجميل ومجازر صبرا وشاتيلا وضعه على طريق منفى جديد في تونس ثم باريس.
سألت صديق الرمزين الفلسطينيين ياسر عبد ربه أمين السر السابق للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عن العلاقة بين الرجلين وتركته يروي.
محمود درويش كان الصوت العلماني الثقافي المتنور والواقعي والحالم للثورة الفلسطينية. كان بالنسبة إلى عرفات مثلما كان المتنبي لدى سيف الدولة مع الأخذ في الاعتبار اختلاف العصر بالتأكيد واختلاف نمط العلاقات بين القائد والشاعر أو السياسي والشاعر بين عصر وآخر. وإذا وضعنا مدائح المتنبي لسيف الدولة جانباً، بقية العلاقة قد تكون متشابهة ومتطابقة، لأن أهم الوثائق التي تؤرخ لنضال ياسر عرفات والثورة الفلسطينية المعاصرة وضعها محمود درويش، من الخطاب الأول لعرفات في الأمم المتحدة الذي أطل فيه على العالم بلغة جديدة قائلاً: «لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي».
كان محمود رقيقاً وناعماً في التعامل وكان يحب عرفات. كان يعرف نواقصه وأخطاءه. يعرفها بدقة وعمق. ومن يقرأ رسالة محمود إلى عرفات يرى بين السطور أنه لم يكتب مديحاً مجانياً له، إنما كان يحب فيه رمزيته، بمعنى أن محمود كان يرى أن عرفات قادر على تمثيل الرمز الفلسطيني في شكل متقدم جداً. ثم إنه كان معجباً ببراغماتية عرفات ودهائه السياسي وقدرته على التعاطي مع الأحداث. كان عرفات يسأل دائماً عن محمود إذا غاب مدة عنه. وكان محمود يتحمل دعوات عرفات إلى العشاء لأن عشاء عرفات كان متقشفاً ومن لون واحد ويفتقد أن يكون عشاء شهياً أو فيه الحد الأدنى مما يمكن تسميته شهياً.
كل المحطات الكفاحية الأكثر إضاءة لياسر عرفات سجلها محمود درويش. «مديح الظل العالي» هو ملحمة بيروت التي كان عرفات يعتبرها جوهرة التاج بالنسبة إليه والمأثرة الكبرى في حياته، مأثرة الصمود الملحمي الطويل الأمد في وجه القوة الإسرائيلية الغاشمة. في اعتقادي أن عرفات كان يشعر بأنه يدخل التاريخ المدون والمكتوب من خلال قلم درويش، لهذا كانت مكانة محمود عنده هائلة جداً.
قال عبد ربه إنه كان يطلع درويش على ما يجري في قناة التفاوض التي أدت إلى «اتفاق أوسلو» ويستمع إلى ملاحظاته. بعد الاتفاق حاورت درويش في تونس فأطلق عبارته الشهيرة: «أخاف النظر إلى الخريطة». وكان يقصد أن الجانب الفلسطيني اضطر إلى القبول ببعض الأرض. في موعد لاحق في باريس قال إن عرفات راهن على إعادة القضية إلى التراب الذي يمكن أن تبقى فيه حية بعد رحلة طويلة في المنافي، ولعله كان يراهن على عامل الوقت.
وسألت محسن إبراهيم عما إذا كان هناك خيط يربط بين خروج عرفات من بيروت وموافقته على «اتفاق أوسلو» فحكى. في بيروت خسرت منظمة التحرير آخر موقع لها على خط الاشتباك المباشر مع إسرائيل. يجب أن نضيف إلى ذلك تطورات كثيرة. الغزو العراقي للكويت وانعكاساته على أوضاع المنظمة وعلاقاتها وانهيار الاتحاد السوفياتي واختلال التوازن الدولي. يمكن أن نلتفت أيضاً إلى خوف عرفات من زحف المستوطنات التي راحت تلتهم الأراضي الفلسطينية وغياب إرادة دولية توقف هذا الاتجاه. ويجب ألا ننسى أن عرفات كان يحلم باستعادة أرض فلسطينية، وأن تقوم عليها نواة دولة مع علم وجواز سفر، أن يكون للفلسطينيين بيت على أرضهم. ولا تستبعد أن يكون حلمه أن يوارى في تراب فلسطين.
وعن خروج عرفات بحراً من بيروت، قال إن العلاقة بين عرفات وحافظ الأسد كانت صعبة دائماً وتتميز بشكوك متبادلة. كان الأسد يعتقد أن عرفات لا يقر لسوريا بالدور الأول في الموضوع الفلسطيني ويبحث عن فرصة لإبرام تسوية. وكان عرفات يعتقد أن الإمساك بالورقة الفلسطينية كان من أبرز الأسباب التي دعت سوريا إلى إدخال قواتها إلى لبنان بعدما ساهمت في زعزعة استقراره ليتحول وجودها العسكري فيه لحاجة ماسة. ولاحظ أن عرفات كان يشكل عائقاً أمام رغبة سوريا في الإمساك بالورقة الفلسطينية كما شكّل كمال جنبلاط ذات يوم عائقاً أمام إمساكها الكامل بالورقة اللبنانية.