المبادرة السعودية لمنع الاجتياح الإسرائيلي اصطدمت برفض السوفيات

«الشرق الأوسط» تنشر شهادات من صيف لبنان الساخن عام 1982 (2 من 3)

0 seconds of 2 minutes, 17 secondsVolume 90%
Press shift question mark to access a list of keyboard shortcuts
00:00
02:17
02:17
 
TT
20

المبادرة السعودية لمنع الاجتياح الإسرائيلي اصطدمت برفض السوفيات

عرفات على الخطوط الأمامية للقتال في بيروت (غيتي)
عرفات على الخطوط الأمامية للقتال في بيروت (غيتي)

في إطار الشهادات التي تنشرها «الشرق الأوسط» عن صيف الاجتياح الإسرائيلي للبنان، عام 1982، يروي هاني الحسن، عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، أن الفلسطينيين تجمعت لديهم معلومات قبل الاجتياح بسنة تفيد بأن «إسرائيل تعدّ لعدوان واسع على لبنان بهدف ضرب الوجود العسكري للمقاومة».

يقول إن قيادة منظمة التحرير اتصلت بالسعودية التي تجاوبت بسرعة وهو ما تبلور في مبادرة ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز. يضيف الحسن «أن الهدف من المبادرة كان من أجل امتصاص الحرب المقبلة في لبنان ومنع حصولها. الواقع أن المبادرة تعثّرت لأن الاتحاد السوفياتي أصدر أوامره بعرقلتها».

في الشهور الأولى من عام 1982 بدأت تتوارد إلى مكتب مدير المخابرات في الجيش اللبناني العقيد جوني عبده معلومات عن استعدادات إسرائيلية لتنفيذ عملية اجتياح واسعة قد تصل إلى بيروت. وسأترك عبده يروي.

حصلنا على هذه المعلومات من مصادر لبنانية. وأعتقد أن الدول الغربية نفسها كانت تستقي معلوماتها من لبنان. كانت المعلومات على درجة من الأهمية والوقاحة إلى درجة أنه لم يكن ممكناً تصديقها لدى تحليلها. كانت المعلومات تتحدث عن اجتياح واسع مع رغبة إسرائيلية في تحاشي صدام مع القوات السورية المنتشرة في لبنان. ولم نكن نحن نرى كيف يمكن شن مثل هذا العدوان الواسع من دون الاصطدام بالقوات السورية. وكانت لدينا تساؤلات عن مدى أهمية مغامرة من هذا النوع، خصوصاً في ضوء العلاقات السورية - السوفياتية والمعاهدة الموقعة بين البلدين.

ثم بدأ الحديث عن التواريخ. وتبيّن أن التاريخ الأول كان قبل ثلاثة أشهر من وقوعه. ثم عُدّل وأرجئ إلى يونيو (حزيران). حين أطلعت وزير الخارجية فؤاد بطرس على هذه المعلومات في حضور الرئيس إلياس سركيس، سألني بطرس عمّا أصدّقه من المعلومات، فقلت 10 في المائة فقط. فقال: «عال، ظننت أنك جُننت!». كان تحليل بطرس أن إسرائيل لا يمكن أن تتحاشى الصدام مع سوريا التي يمكن أن تفتح جبهة الجولان ثم يتدخل الاتحاد السوفياتي، واستبعد أن يصل الإسرائيليون إلى هذه الدرجة من المغامرة.

جبهة الإنقاذ الوطني تعقد اجتماعها الأول في قصر بعبدا عام 1982 برئاسة الرئيس إلياس سركيس وحضور رئيس الحكومة شفيق الوزان والنائب نصري المعلوف وبشير الجميل وفؤاد بطرس ونبيه بري ووليد جنبلاط (أ.ب)
جبهة الإنقاذ الوطني تعقد اجتماعها الأول في قصر بعبدا عام 1982 برئاسة الرئيس إلياس سركيس وحضور رئيس الحكومة شفيق الوزان والنائب نصري المعلوف وبشير الجميل وفؤاد بطرس ونبيه بري ووليد جنبلاط (أ.ب)

غادر بطرس القصر، فسألني سركيس هل أصدّق 10 في المائة فقط من المعلومات، فقلت: «لا، إنني أصدّق 90 في المائة منها، لكنني قلت ذلك أمام الوزير بطرس رغم اعتقادي أن الإسرائيليين درسوا سلفاً المسائل التي أثارها». كلفني الرئيس سركيس إطلاع رئيس الوزراء شفيق الوزان على كل هذه المعلومات وأن أُطلع عليها الإخوان السوريين. أبلغت الرئيس الوزان كما أبلغت العقيد محمد غانم المسؤول العسكري السوري في لبنان، وتأكدت من وصول المعلومات (للجانب السوري). لم يصدّق الإخوان السوريون، وربما استقبلوا المعلومات بحذر كونها جاءت من المخابرات اللبنانية التي لم تكن معهم على علاقات ثقة كاملة. وربما رأوا أن المعلومات مدسوسة نتيجة فقدان الثقة.

حصل هذا قبل أسابيع من الاجتياح. صدرت في ذلك الوقت تصريحات لشخصيات لبنانية قريبة من سوريا تعدُّ هذه المعلومات محاولة تهويل وتخويف غرضها ممارسة ضغوط على المقاومة لدفعها إلى تسهيل انتشار الجيش اللبناني في الجنوب. والواقع أن الحل لتفادي الاجتياح كان انسحاب الفلسطينيين من الجنوب وانتشار الجيش فيه. حاولنا ذلك مرات عدة، لكن أبو عمار لم يكن في وارد التخلي عن جنوب لبنان. فقد رفضت منظمة التحرير البحث في الموضوع جملة وتفصيلاً.

عرفات على الخطوط الأمامية للقتال في بيروت (غيتي)
عرفات على الخطوط الأمامية للقتال في بيروت (غيتي)

أُطلق النار على السفير الإسرائيلي في لندن شلومو أرغوف فبدأت الغارات الإسرائيلية على لبنان وتلاها الاجتياح في السادس من يونيو. ظن كثيرون أن العملية محدودة، لكن المعلومات التي كانت متوفرة لدينا تشير إلى غير ذلك. بعضهم استند إلى تصريحات مسؤولين إسرائيليين للقول إن العملية محدودة. والواقع أن المسؤولين الإسرائيليين لم يكونوا على اطلاع على المدى الذي ستتخذه العملية. فوزير الدفاع الإسرائيلي آرييل شارون وحده كان يعرف السيناريو وإلى أين سيصل. قبل الاجتياح، قام شارون سراً بعمليات استكشاف في مناطق بجبال المتن قبالة بيروت. جاء بواسطة طائرات هليكوبتر، في حين جاء آخرون بحراً.

يعرب عبده عن أسفه لأن السلطة اللبنانية لم تتمكن من إقناع منظمة التحرير باتخاذ ما كان يمكن أن يساعد على تفادي الاجتياح. ويعرب أيضاً عن أسفه لأن الجانب السوري لم يأخذ على محمل الجد المعلومات التي أوصلها إليه الجانب اللبناني.

كانت دولة ياسر عرفات أقوى على أرض لبنان من الدولة اللبنانية

وزير الخارجية اللبناني الأسبق فؤاد بطرس

«دولة ياسر عرفات»... ورحلة العذاب الطويلة

رجل آخر كان يؤلمه أن لبنان لم ينجح في تفادي كارثة الاجتياح رغم الجهود التي بُذلت. إنه فؤاد بطرس، وزير الخارجية في تلك الحقبة. بعد إغلاق آلة التسجيل، قال: «أريدك كصحافي أن تعرف القصة بايجاز. كانت (دولة ياسر عرفات) أقوى على أرض لبنان من الدولة اللبنانية. وكانت أقوى في العالمين العربي والإسلامي. هذا فضلاً عن الاتحاد السوفياتي والدول الدائرة في فلكه. كنا نلمس من بعض وزراء الخارجية والسفراء تفهماً لحقّ لبنان في أن ينشر جيشه في الجنوب لتفادي هجمات إسرائيلية، لكن هذا التفهم لم يكن يظهر علناً ويُترجم في سياسات هذه الدول. كانت للقضية الفلسطينية قدسية تمنع حتى إثارة تجاوزات المنظمة الفلسطينية التي تعرّض لبنان للأخطار».

وأضاف: «كانت منظمة التحرير تعدُّ وجودها العسكري في جنوب لبنان ورقتها الأخيرة للتذكير بالوجود والمطالب والقضية. لم يكن عرفات مستعداً للتخلي عن هذه الورقة. ولم تكن الدول العربية راغبة في الضغط على المنظمة. وكان الإعلام في المنطقة غير متعاطف مع أي دعوة لبنانية لفرض سيادة الدولة اللبنانية وحدها على أراضيها. ويُضاف إلى هذا كله أن الانقسام اللبناني حول الوجود العسكري الفلسطيني كان عميقاً وعنيفاً وكانت حتى محاولة ضبطه توصم بالخيانة».

رجل آخر أصابته معلومات عبده بالقلق وحاول إقناع نفسه بعدم تصديقها. إنه رئيس الوزراء شفيق الوزان. قلب الأمر. لم يسبق في تاريخ النزاع أن احتلت إسرائيل عاصمة عربية. وهناك الرأي العام العربي والإسلامي. وهناك الاتحاد السوفياتي. وليس من المتوقع أبداً أن تؤيد أوروبا مغامرة مجنونة من هذا النوع. حاورته لاحقاً وشعرت بالحرج. بدا وكأنني دفعته إلى أن يحك جرحاً عميقاً لا يزال يؤلمه.

في 1981 وبعد تبادل القصف الشديد بين الفلسطينيين والإسرائيليين في جنوب لبنان، وما رافقه من غارات، جاءنا المبعوث الأميركي فيليب حبيب وقال: «أحب أن أطمئنكم إلى أننا توصلنا إلى اتفاق لوقف اطلاق النار بين الفلسطينيين والإسرائيليين». ظهر الغضب والاستياء في عيني الرئيس سركيس، رحمه الله. كان بالغ الحساسية تجاه أي اتفاق يمكن أن يضع قيوداً على لبنان وسيادته، وكان شديد التمسك باتفاق الهدنة. قال سركيس لحبيب: «نحن لا علاقة لنا بأي اتفاق من هذا النوع، لدينا اتفاق الهدنة فقط». فتح حبيب فمه مستغرباً قول سركيس. كان لا بد من العثور على مخرج، فقلت لحبيب: «الرئيس سركيس على حق في موقفه، لكنني أقول لك إننا أخذنا علماً». أي إننا أخذنا علماً بالاتفاق لكننا لسنا طرفاً فيه.

آرييل شارون مع قواته في جنوب لبنان خلال الاجتياح عام 1982 (غيتي)
آرييل شارون مع قواته في جنوب لبنان خلال الاجتياح عام 1982 (غيتي)

أضاف الوزان: «بعد الاجتياح، استدعينا سفراء الدول الكبرى وظهرت مواقف إيجابية وسلبية تبيّن في نهايتها أنه ليس أمامنا غير الرهان على الولايات المتحدة للجم العدوان، أو دفع إسرائيل إلى الانسحاب، حتى ولو كانت متعاطفة مع الغزو أو أهدافه. كان الموقف السوفياتي مفاجأة كبيرة لنا. سارع السفير السوفياتي إلى إبلاغنا ومن دون الرجوع إلى حكومته: «نحن دولة ليست بذات تأثير على إسرائيل». تألمت. فقد كان الاتحاد السوفياتي صديقاً للعرب، وكنا نأمل موقفاً آخر. ذكّرت السفير بانذار بولغانين الشهير (نيكولاي بولغانين، رئيس مجلس وزراء الاتحاد السوفياتي) إبان العدوان الثلاثي على مصر، فاكتفى بابتسامة وامتنع عن الرد. كان كلام السفير السوفياتي واضحاً، ومعناه أن عليكم البحث مع من يستطيع التأثير على إسرائيل، أي الولايات المتحدة. بدت قدرة الأوروبيين محدودة بدورها. كنا نتمنى لو كانت هناك قوة عربية قادرة على التدخل وقلب مسار الأحداث، لكن الواقع كان غير ذلك. وهكذا صرنا تحت نار العدوان الإسرائيلي، وأمامنا الوسيط الأميركي وبدأت رحلة العذاب الطويلة.

أغمض الوزان عينيه لبرهة واسترجع المحطة المؤلمة. «حوصرت بيروت وانهالت عليها الحمم براً وبحراً وجواً. صحيح أن إرادة البيروتيين واللبنانيين في الصمود كبيرة، لكن المعاناة تجاوزت كل حدود. قطع الإسرائيليون المياه عن العاصمة المحاصرة، ورحت أفكّر بمن أستجير في وجه هذه الوحشية التي لا مثيل لها. اتصلت بالملك فهد بن عبد العزيز وأبلغته أن بيروت تعيش بلا ماء ولا خبز ولا دواء. تألم كثيراً وأبلغني أنه سيعاود الاتصال بي. بعد خمس ساعات، أبلغني الملك فهد أنه تحدّث إلى الرئيس رونالد ريغان طالباً تدخله، وأن الرئيس الأميركي اتصل برئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، الذي وعده بإعادة المياه. وفي تلك الظروف القاسية، اعتبرنا إعادة المياه إنجازاً. أحبّ أن أسجّل هنا أن السعودية لم تبخل على لبنان بأي مساعدة ممكنة».

حزب العمل الصامت

لم أتمكن من الحصول على شهادة الرئيس سركيس عن تلك الأيام. والأسباب عديدة. كان من حزب العمل الصامت، لا من حزب الكلام. وكان واثقاً، انطلاقاً من نزاهته وسلوكه المسؤول، أن التاريخ سينصفه إذا كُتب بأمانة. يضاف إلى ذلك أنه غادر القصر مريضاً فأضيفت أوجاع جسده إلى أوجاعه كرئيس بفعل الانقسامات والعواصف التي ضربت عهده، والتي توّجت بزلزال الاحتلال الإسرائيلي. رأى سركيس بيروت تحترق وتُحاصر وتُستباح. ورأى جنود الاحتلال يقتربون حتى من قصر الرئاسة. كان صوت الدولة وكانت الدولة ضعيفة. وكان صوت الوطن وكان الوطن منقسماً. ويقول أصدقاؤه إنه كان يُحصي الأيام في انتظار موعد المغادرة، رافضاً أي بحث في تمديد ولايته.

هل حاول الجانب الفلسطيني تفادي الاجتياح الإسرائيلي، ومن يتحمّل مسؤولية إفشال تلك المحاولة؟ عثرت على الجواب لدى هاني الحسن. كان عضواً في اللجنة المركزية لحركة «فتح» ومسؤولاً عن الأمن السياسي في الحركة، إضافة إلى حضوره في الحلقة الضيقة للقرار حول الرئيس ياسر عرفات.

آليات إسرائيلية خلال تقدمها في اتجاه بيروت عام 1982 (غيتي)
آليات إسرائيلية خلال تقدمها في اتجاه بيروت عام 1982 (غيتي)

يقول الحسن إن معلومات تجمعت في 1981 تفيد بأن إسرائيل تعدّ لعدوان واسع على لبنان بهدف ضرب الوجود العسكري للمقاومة، وأن وجود إدارة الرئيس رونالد ريغان يسهّل لإسرائيل عملية من هذا النوع. كان الوضع العربي شديد الصعوبة. مصر في شبه عزلة عربية، والعراق غارق في حربه مع إيران. توجهت قيادة المنظمة إلى السعودية وأطلعت المسؤولين فيها على ما تملكه من معلومات. كان التجاوب السعودي سريعاً وكاملاً، وهكذا تبلورت مبادرة ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز. ويجزم الحسن «أن الهدف من المبادرة كان من أجل امتصاص الحرب المقبلة في لبنان ومنع حصولها. الواقع أن المبادرة تعثّرت لأن الاتحاد السوفياتي أصدر أوامره بعرقلتها... وكلنا يعلم ماذا جرى في القمة العربية في فاس».

روى الحسن ما عدَّه قصة سيطرة السوفيات على القرار الفلسطيني. كل من يريد أن يؤرخ للثورة الفلسطينية بين 1972 و1982 عليه دائماً أن يضع الموقف السوفياتي في الاعتبار، لأن الثورة الفلسطينية عاشت في تلك الفترة مرحلة اللاقرار، حيث كان يسود فقط في النهاية، رغم كل الخلافات وتعدد وجهات النظر، القرار السوفياتي الذي استحكم بالمقاومة الفلسطينية وجعلها تنقسم دائماً إلى موقفين.

تيار مع السوفيات يؤمن أن قدرنا هو معهم، ويبذل كل جهده لمناقشة السوفيات وتطوير موقفهم لكنه في النهاية يتبنى الموقف السوفياتي. كانت قوة السوفيات في مواجهة التيار الآخر تنبع من سيطرتهم على أجهزة الأمن في المنظمات الفلسطينية، وبخاصة جهاز الأمن الموحد التابع للأخ صلاح خلف (أبو إياد) ومعه اليساريون في «فتح»، مثل المناضل الكبير ماجد أبو شرار ومحمود عباس (أبو مازن) الذي لعب، رغم أنه ليس يسارياً في بنيته الداخلية، دوراً مهماً في تبني وجهة نظر السوفيات. لقد دفعه أبو إياد إلى أن يصبح رجل العلاقة مع السوفيات وملزماً قبول هذا الموقف، هذا إضافة إلى أبو صالح (نمر صالح)، وعضو اللجنة المركزية سميح عبد القادر محمد أبو كويك؛ المعروف بـ«قدري».

في المقابل كنا مجموعة أخرى على رأسها الأخ ياسر عرفات، الذي كان يمثّل الوسط. وأنا لا أقصد أنه لا يأتمر في النهاية بالأمر السوفياتي لأنه كان يساير ويمشي. وكان أيضاً أمير الشهداء خليل الوزير أبو جهاد وفارس الفرسان سعد صايل وأبو السعيد. وكنت أنا ممثلاً للتيار الفلسطيني المستقل، الذي يبحث عن مصالحه سواء كانت عند السوفيات أم عند غيرهم. ومن دون فهم هذه العلاقة مع السوفيات لا يمكن فهم ما دار وراء الكواليس.

تابع هاني الحسن روايته. في 1982 جاءتنا معلومات من مصادر لبنانية صديقة. والحقيقة هي أن الرئيس أمين الجميل، وكان نائباً يومها، لعب دوراً مهماً في تنبيهنا أن الإسرائيليين آتون إلى بيروت. وكان كلامه شبه موثّق، وقد لعب بعض الإخوة دوراً مهماً في هذا الموضوع. إضافة إلى ذلك كان لدينا مصدر إسرائيلي مهم يديره الأخ أبو جهاد وكان في غاية الأهمية بالنسبة لنا. زودنا هذا المصدر بتفاصيل عن الهجوم المقبل الذي كان يفترض أن يحصل في أبريل (نيسان). إنه مصدر أمني وشبه عسكري ومعلوماته من الدرجة الأولى. ورغم شكوكنا التي استمرت فترة في معلومات المصدر، فإن مجريات الحصار أكدت أنه كان صادقاً معنا إلى أقصى الحدود. ناقشنا المعلومات مع القيادات اللبنانية والإخوة في دمشق ومع الدول العربية. والحقيقة أنه بعد تعثّر مبادرة فاس لأسباب فلسطينية لم يعد هناك مجال لقطع الطريق على العدوان الإسرائيلي.

مظلي فرنسي (بالنظارات) خلال مرافقته موكباً يضم ياسر عرفات خلال انسحابه من بيروت (غيتي)
مظلي فرنسي (بالنظارات) خلال مرافقته موكباً يضم ياسر عرفات خلال انسحابه من بيروت (غيتي)

لم تحدث الحرب في أبريل بسبب أمطار غير عادية هطلت، فتأجل الاجتياح إلى يونيو. عندما وقعت الحرب كان هناك انقسام في الرأي. بعضهم اعتقد أن الهجوم الإسرائيلي سيبقى في حدود 45 كيلومتراً داخل الأراضي اللبنانية ثم تتراجع القوات الإسرائيلية. وهذا الرأي كان قوياً في أوساط الحركة الوطنية اللبنانية وموقفها كان مهماً جداً بالنسبة إلينا. كان لدينا في «فتح» قرار دائم باستمرار التعامل والتفاهم، أي أن نختلف ولا نفترق. لم يعتقد الإخوة السوريون أيضاً أن الهجوم سيصل إلى بيروت والبقاع. أقول هذا في ضوء اللقاءات التي عقدها مع الإخوة السوريين العميد سعد صايل وقياديون آخرون.

منذ 1972 وحتى 1982 كان لعرفات أسلوب للعمل يقوم على أن له مجموعته التي تناقش معه القضايا وتنفذها. بعد المناقشة، نذهب إلى اللجنة المركزية أو المجلس الثوري فنعدل القرار أو نزيد عليه. كانت مجموعة أبو عمار الأساسية في 1982 التي تطلع على آرائه ومواقفه وتوجهاته تضم إليه أبو جهاد وسعد صايل وأنا، وكان من خارج اللجنة المركزية المسؤول عن الاستخبارات العسكرية أبو الزعيم، وكان عضواً مهماً في عملية تقويم المواقف.

حصل الحصار وأبلغني أبو عمار أن علينا أن نقاتل ستة أشهر. كان ذلك في اجتماع مجموعة العمل فقط، لأن أبو عمار وأبو إياد كانا لا يلتقيان تقريباً طول فترة الحرب. ولهذا الجو خلفية تاريخية. كان أبو إياد يريد أن يمحو سبتمبر (أيلول) 1970 في الأردن بتشنج ظاهر في المواقف. وهنا نعود إلى السوفيات. المهم أننا اتخذنا قراراً سرياً بالقتال ستة أشهر، وطلب مني أبو عمار القيام بالعمل السياسي. أي أنه طلب مني أن نحرّك العمل السياسي، ولكن من دون الرجوع باتفاق. بمعنى أن نفاوض كي نفاوض، ثم نرى موازين القتال والوضع الدولي وموازين التدخل السوري.

غداً الحلقة الثالثة


مقالات ذات صلة

نائب كمال جنبلاط: خدام فاجأنا بالقول «ياسر عرفات جاسوس إسرائيلي»

خاص كمال جنبلاط وياسر عرفات وتوفيق سلطان (أرشيف توفيق سلطان) play-circle 02:07

نائب كمال جنبلاط: خدام فاجأنا بالقول «ياسر عرفات جاسوس إسرائيلي»

السياسي اللبناني توفيق سلطان، نائب الزعيم الدرزي التاريخي كمال جنبلاط، يروي لـ«الشرق الأوسط» قصة الكراهية المتبادلة بين حافظ الأسد وياسر عرفات.

غسان شربل (بيروت)
المشرق العربي الرئيس محمود عباس يعلن تعيينات في سياق إعادة ترتيب وضع السلطة الفلسطينية (أ.ف.ب) play-circle 03:57

بينهم دحلان والقدوة... مَن يستفيد بعفو عباس عن المفصولين من «فتح»؟

فاجأ الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أنصار حركة «فتح» وخصومها، بإعلانه استحداث منصب نائب رئيس «منظمة التحرير» والعفو عن جميع المفصولين من الحركة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
الخليج ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لدى استقباله في وقت سابق الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالرياض (واس) play-circle

بيان «الفجر» السعودي... رفض مباشر لتصفية القضية الفلسطينية

شدّد بيان الخارجية السعودية الصادر فجر الأربعاء، على ثبات الموقف السعودي تجاه قيام الدولة الفلسطينية، مؤكداً أن موقف الرياض «راسخ وثابت لا يتزعزع».

غازي الحارثي (الرياض)
الخليج ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لدى استقباله في وقت سابق الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالرياض (واس) play-circle

بيان «الفجر» السعودي... رفض مباشر لتصفية القضية الفلسطينية

شدّد بيان الخارجية السعودية الصادر فجر الأربعاء، على ثبات الموقف السعودي تجاه قيام الدولة الفلسطينية، مؤكداً أن موقف الرياض «راسخ وثابت لا يتزعزع».

غازي الحارثي (الرياض)
العالم العربي تحتجز إسرائيل أكثر من 10 آلاف و300 أسير ومعتقل فلسطيني (أ.ف.ب)

تقرير فلسطيني: الجيش الإسرائيلي يستحدث معسكرات جديدة لاحتجاز الفلسطينيين

ذكر تقرير فلسطيني، اليوم (الأربعاء)، أن الجيش الإسرائيلي استحدث معسكرات جديدة لاحتجاز الفلسطينيين في ظل ازدياد أعداد المحتجزين بعد هجوم السابع من أكتوبر.

«الشرق الأوسط» (رام الله)

كيف أوصل الشرع «هيئة تحرير الشام» إلى قصر الشعب؟

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
TT
20

كيف أوصل الشرع «هيئة تحرير الشام» إلى قصر الشعب؟

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)

منذ تحول الثورة السورية إلى العمل العسكري بعدما استبعد النظام السابق خيار التفاوض واستخدم القوة المفرطة في قمع المظاهرات عام 2011، شهدت البلاد طفرة في الفصائل المسلحة التي ترواحت بين إسلامية جهادية وأخرى معتدلة، بحسب موقعها من طيف التشدد والتدين الذي شكل قاعدتها المشتركة.

وفي أواخر عام 2011 تأسست إحدى أكبر الفصائل باسم «حركة أحرار الشام»، وتجمع بين الجهادية والإخوانية بأجندات محلية. ويمكن القول إن «أحرار الشام» هي أول فصيل دمج بين الجهادية والمحلية، سابقة بذلك «هيئة تحرير الشام» نفسها التي كانت تؤمن بالجهادية العالمية إبّان تبعيتها لتنظيم «القاعدة» وحتى لحظة فك ارتباطها به في يوليو (تموز) 2016.

وبمراحل تحولها وصعودها كافة، التي بلغت أخيراً بمعركة «ردع العدوان» وأوصلت «هيئة تحرير الشام» وقائدها «أبو محمد الجولاني»/ أحمد الشرع إلى حكم سوريا الجديدة، تميزت الهيئة بهيكلية داخلية دقيقة أقرب إلى «كلية عسكرية» بحسب وصف أحد القياديين السابقين في «الهيئة»، الذين تحدثوا إلى «الشرق الأوسط».

طفل يجلس على أكوام من الذخيرة في معرة نصرين في إدلب نهاية 2021 (غيتي)
طفل يجلس على أكوام من الذخيرة في معرة نصرين في إدلب نهاية 2021 (غيتي)

«أحرار الشام»

في البدايات كان فصيل «أحرار الشام» أكثر الفصائل السورية أدلجة وتنظيماً معاً، وكان لقادته أمثال حسان عبود وأبو يزن الشامي كاريزما قوية وثقل في الأوساط الثورية، فكانت إلى جانب أسماء أخرى كعبد القادر الصالح (قائد لواء التوحيد) شخصيات وازنة في الأوساط الثورية بمختلف مشاربها.

وبقي هذا حال الحركة حتى يوم 9 سبتمبر (أيلول) 2014. حين قتل قادتها في تفجير استهدف اجتماعاً لمجلس شورى الحركة في بلدة رام حمدان بريف إدلب. وهو تفجير لا تزال ملابساته غامضة حتى اليوم، أودى بحياة قائد الحركة أبو عبد الله الحموي (حسان عبود) ونحو أربعين آخرين من القياديين والشرعيين، لتبدأ مرحلة التراجع التدريجي في القوة والنفوذ وتصل سريعاً إلى أدنى مستوياتها فتتحول فصيلاً صغيراً موزع الولاءات بين فصائل أكبر كـ«الجيش الوطني» و«هيئة تحرير الشام».

ويذكر أن «الجيش الوطني السوري» فصيل تشكل في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2017، من 36 فصيلاً مسلحاً مثل «الجبهة الشامية»، و«جيش الإسلام»، و«فيلق المجد»، و«الفرقة 51»، و«لواء السلام»، و«فرقة السلطان شاه» المكونة بشكل أساسي من التركمان.

«لواء التوحيد»

من الفصائل الكبرى في سوريا، التي تميّزت بالقوة والنفوذ وقبول شعبي واسع أكثر من «جبهة النصرة»، «لواء التوحيد» الذي تأسس في 21 يوليو (تموز) 2012 وضمّ مجموعة من الكتائب العسكرية المحلية للقتال في مناطق ريف حلب الشمالي.

ويعد «لواء التوحيد» التشكيل الأكبر في المعارضة المسلحة في تلك المرحلة والممثل الأبرز للتيار الإسلامي «المعتدل» الذي يزاوج بين السلفية المعتدلة والإخوانية والخطاب «الوطني» المحلي. إنه أحد أكثر الفصائل التي ضمت في بداياتها أطيافاً متنوعة من الجهادي المعتدل إلى الإخواني إلى ما تعارف على تسميته «الإسلامي الوطني» أو حتى «الوطني الصرف» بمعنى غير الإسلامي؛ ما يعكس واقع التذبذب في توجهات تلك الفصائل فكرياً وآيديولوجياً.

وكان «لواء التوحيد» أبرز فصائل الثورة السورية التي خاضت معارك كثيرة وعلى جبهات مختلفة، لعل أهمها المعارك مع «حزب الله» اللبناني في بلدة القصير عام 2013. لكن بعد مقتل قائده عبد القادر الصالح في استهداف مباشر بغارة جوية في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2013، سرعان ما اضمحل هذا الفصيل أيضاً وتفكك، وتوزعت قياداته وعناصره بين فصائل مختلفة كل بحسب توجهه.

مقاتلون من «هيئة تحرير الشام» في حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)
مقاتلون من «هيئة تحرير الشام» في حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)

«جيش الإسلام»

من الفصائل البارزة التي لعبت أدواراً أساسية، «جيش الإسلام» الذي يتخذ من بلدة دوما في ريف دمشق معقلاً له، وفرض سيطرته على غالبية الحواضن الثائرة المحيطة بالعاصمة من الغوطة الشرقية في ريف دمشق وبلدة القلمون ومحيطها وصولاً إلى الحدود اللبنانية. كذلك سيطر «جيش الإسلام» على أحياء داخل العاصمة وأطرافها الشرقية، أهمها القابون وبرزة البلد وجوبر وزملكا وغيرها، وصولاً إلى ساحة العباسيين، أهم الساحات الدمشقية بعد ساحة الأمويين.

يشكّل «جيش الإسلام» بتوجهه «السلفي الجهادي» المعلن من عشرات المجموعات المسلحة العاملة في العاصمة وريفها صيف عام 2013 حتى بلغ عدده أكثر من 25 ألف مقاتل بتجهيزات عسكرية متوسطة وثقيلة، بينها دبابات وعجلات مدرعة وصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى ظهرت في الاستعراض العسكري الذي نظمه «جيش الإسلام» ربيع عام 2015 لدى تخريج دفعة من مقاتليه بلغت 1700 مقاتل.

وعلى رغم توجهه السلفي الجهادي، فقد دخل هذا الفصيل في جولات قتال مع «جبهة النصرة» و«فيلق الرحمن» المقرب منها، وكذلك تنظيم الدولة (داعش)؛ ما أدى إلى إضعافه بشكل كبير. لكنه بقي متماسكاً إلى حد كبير في بنيته العسكرية حتى لحظة مقتل زعيمه زهران علوش في غارة جوية يُعتقد أنها روسية نفذت في 26 ديسمبر 2015.

وكغيره من الفصائل التي تفككت بمقتل قائدها، لم يستطع «جيش الإسلام» الصمود طويلاً على رغم ما كان يتلقاه من دعم، ولم يتمكن من الحفاظ على مناطق سيطرته ونفوذه السابقة مقارنة بـ«هيئة تحرير الشام».

وبذلك تلاشى واضمحل كأغلبية فصائل الثورة السورية التي فاقت «هيئة تحرير الشام» عدداً وتلقت دعماً مادياً وإعلامياً وشعبياً، التي كانت تحمل اسم «جبهة النصرة» حينها، التي كانت مصنفة - ولا تزال - على قوائم الإرهاب العالمية؛ ما ساهم أيضاً في عزلتها حتى على الإعلام العالمي، على عكس بقية الفصائل. لكن، هذه العزلة هي نفسها التي ستتيح للتنظيم رص صفوفه وتقوية عوده بعيداً عن الأضواء والتأثيرات الخارجية.

التحدّي والصمود

في حين انشغل قادة معظم فصائل المعارضة المسلحة التي تزامن صعودها مع صعود جبهة النصرة كمثل «أحرار الشام» و«جيش الإسلام» و«لواء التوحيد»، بالتنافس فيما بينهم على النفوذ في المناطق الخارجة عن سيطرة قوات نظام بشار الأسد، ومحاولاتهم حصد الشعبية في الأوساط الثورية والحواضن الاجتماعية، كان قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) يعمل بصمت بعيداً عن الضوضاء ولم يظهر للعلن حتى عام 2016، عندما أعلن فك ارتباطه بتنظيم «القاعدة»، ثم عاد وانكفأ إلى حد بعيد.

مقاتلون من حركة نور الدين الزنكي في ريف حلب في سبتمبر 2018 (غيتي)
مقاتلون من حركة نور الدين الزنكي في ريف حلب في سبتمبر 2018 (غيتي)

تشكلت «هيئة تحرير الشام» (أو جبهة النصرة سابقاً) من تحالف طوعي أو قسري لعدد من الفصائل والتنظيمات المسلحة، كـ«جبهة أنصار الدين» و«حركة نور الدين الزنكي» و«جيش السنة» و«لواء الحق» وغيرها، وتحالف طيف واسع من التشكيلات الأصغر المرتبطة بتنظيم «القاعدة»، وأبرزها «إمارة القوقاز» و«الحزب الإسلامي التركستاني» و«جيش العزة» و«جيش النصر»، وشهدت هي الأخرى تحولات مهمة وانشقاقات وانتقالات بين التشكيلات العسكرية. لكن ما ميّز «هيئة تحرير الشام» عن الفصائل والمجموعات الأخرى، قدرتها على تغيير مرجعيتها الفكرية وفق ما تفرضه معطيات الواقع المحلي والإقليمي والدولي، ومعطيات خريطة النفوذ والتحالفات في المناطق الخارجة عن سيطرة قوات الأسد.

والواقع أنه قبل انشقاقها عن تنظيم «داعش» في ربيع عام 2013، كانت «جبهة النصرة» الفصيل الأقوى في محافظة دير الزور من حيث القدرات القتالية بأعداد تتعدى 7 آلاف مقاتل، بحسب التقديرات، وأسلحة متوسطة وثقيلة معظمها من تنظيم «داعش» في العراق. وأدى الانشقاق هذا إلى تراجعها مؤقتاً، لكنها سرعان ما أعادت ترتيب صفوفها وتمكنت من تجاوز مرحلة الضعف التي رافقت نهاية قتالها مع «داعش» الذي انتزع منها السيطرة على محافظة دير الزور وبلدة الشحيل، معقلها الرئيس، وأخرجها من معادلة التوازنات في المحافظة كلها.

لكن «جبهة النصرة» التي انسحب مقاتلوها من دير الزور إلى محافظة إدلب، عادت ونجحت في الانطلاق من جديد لبناء قوة فرضت نفسها بحلول نهاية معركة حلب أواخر عام 2016، وتشكيل «هيئة تحرير الشام» في فبراير (شباط) 2017.

وخلافاً للفصائل التي اضطرت للاندماج مع غيرها لضمان بقائها، مثل حركة «أحرار الشام» على سبيل المثال التي اندمجت مع «حركة نور الدين الزنكي» تحت مسمى «جبهة تحرير سورية»، تمكنت «تحرير الشام» من الحفاظ على استقلالها التنظيمي.

بل أكثر من ذلك، انضمت إليها بعض الفصائل الصغيرة مثل «جبهة أنصار الدين» و«جيش النصر» وهما من التنظيمات المسلحة المرتبطة بتنظيم «القاعدة»، أو القريبة منه، وغيرهما.

وكلما مرّ الوقت، ازدادت «تحرير الشام» نفوذاً وقوة، إلى أن تمكنت مطلع 2019 بعد موجة من القتال مع «حركة أحرار الشام» و«حركة نور الدين زنكي» وفصائل أخرى من إحكام سيطرتها على كامل محافظة إدلب، إضافة إلى أجزاء واسعة من محافظات حلب وحماة واللاذقية.

قائد يعرف جنوده

يقول سامي محمد، وهو قيادي شرعي ثم عسكري سابق في «تحرير الشام»، لـ«الشرق الأوسط»: «أهم عامل في بقاء واستمرارية (تحرير الشام) هو استقلالية القرار، وكاريزما القيادة التي يتمتع بها أحمد الشرع وقادة (تحرير الشام)، وتأثيرهم المباشر على عناصرهم، بالإضافة إلى الانضباط العالي والتزام العناصر والقادة بقرارات القيادة».

أبو محمد الجولاني (الثاني من اليمين) يناقش تفاصيل عسكرية مع القادة الميدانيين في ريف حلب في 2016 (أ.ب)
أبو محمد الجولاني (الثاني من اليمين) يناقش تفاصيل عسكرية مع القادة الميدانيين في ريف حلب في 2016 (أ.ب)

ولفت محمد إلى الأمر الآخر والمهم جداً هو الثقة التي بناها أحمد الشرع مع العناصر والقادة، فهو يعرف كل قادة الصفوف كلهم حتى الصغيرة ويلتقي بهم وبالعناصر بشكل دائم، وهذا عزز الثقة ومكانته بينهم وداخل التنظيم، بعكس حال الفصائل التي تتسم بالفوضوية والارتجال في القرارات».

وبحسب محمد، فإن «هيئة تحرير الشام» هي أشبه بكلية عسكرية فعلية، بعيدة عن المناطقية سواء لجهة انتماء العناصر أو القادة، بعكس الفصائل التي كان يغلب عليها الطابع المناطقي، وأحياناً العائلي. كما أن خطاب الجماعة لم يكن مناطقياً، بل اعتمدت في سردياتها الحديث عن سوريا كاملة. وعما يقصده محمد بالكلية العسكرية، يقول: «هناك هيكلية قيادية وتنظيمية واضحة بالإضافة إلى مركزية اتخاذ القرار وتنفيذ السياسات التي ترسمها القيادة عبر المجموعات، وهذا عزز كثيراً قوة (تحرير الشام) بعكس الفصائل التي ليس للقيادة المركزية قيمة حقيقية فيها؛ فكل فصيل يتكون من مجموعات محلية تعمل بشكل مستقل وتتبع الفصيل الأساسي بالاسم فقط».

الاستقلالية وتجاوز الخطوط

ويقول محمد الإبراهيم، المعروف باسم «أبو يحيى الشامي»، وكان قائداً عسكرياً في أحد الفصائل الإسلامية، والمُطّلع على تقلبات الفصائل: «إن أهم عامل من عوامل صعود (هيئة تحرير الشام) هو الاستقلالية النسبية التي تمتعت بها، وقدرتها على تجاوز الخطوط المرسومة».

ويشرح الشامي في اتصال مع «الشرق الأوسط» قوله بأن بقية الفصائل ذات التبعية المباشرة لدول معينة، التزمت بخط هذه الدول إلى حد بعيد ووقفت عند سقف محدد لها، بينما عدم تبعية «تحرير الشام» بشكل مباشر حررها من التقيد بسياسة خارجية، فكانت متحررة وقادرة على التصرف بما تمليه مصالحها المباشرة وصولاً حتى إلى تدمير بقية الفصائل.

الرئيس السوري أحمد الشرع على فرس أسود في دمشق (متداولة)
الرئيس السوري أحمد الشرع على فرس أسود في دمشق (متداولة)

ويلفت الشامي إلى أن «ذلك لم يكن فقط بسبب قوتها الذاتية، بل بسبب تصنيفها الدولي كياناً إرهابياً، وعدم انخراط الدول في علاقة معلنة معها على غرار فصائل أخرى». وأضاف: «هذا البعد الدولي الظاهري والقرب الخفي أتاح لها هامشاً واسعاً من الاستقلالية؛ ما جعل قدرتها على المناورة والتميز عن بقية الفصائل أكثر قابلية».

ويؤكد الشامي أن «الجولاني، في صراعاته مع فصائل الثورة، وضع كل الاعتبارات جانباً وسعى خلف مصالحه ومصالح فصيله. فكان يقاتل بكل شراسة ويحرص على التغلب. على عكس فصائل كثيرة ارتضت بأنصاف الحلول».

وأخذ الشامي على بقية الفصائل «جبنها» أحياناً في المواجهات مع «هيئة تحرير الشام»، فكانت تقبل بالحلول التي يطرحها الجولاني وتصدق في كل مرة أنه يريد الصلح بينما هو يخدعها ليضعفها ثم يفككها ثم يقضي عليها.

ويضيف الشامي: «هناك تسجيل صوتي منتشر لحسن الدغيم، (الذي كان مسؤول التوجيه المعنوي في الجيش الوطني السوري ثم أصبح الناطق باسم لجنة الحوار الوطني في إدارة أحمد الشرع بعد سقوط النظام السابق) قال فيه صراحة إن الجولاني شخص براغماتي، يضحي بأي شيء وأي شخص من أجل الوصول إلى السلطة». وبحسب الشامي، فإن «هذه البراغماتية كانت العامل الأهم في إدارة الهيئة، والقضاء على خصومها ومنافسيها أو تحييدهم، وإعادة استيعابهم ما أدى إلى إفراغ الساحة من أي مشاريع منافسة، بحيث لم يبقَ سوى مشروع حكومة الإنقاذ، التي انتقلت لاحقاً إلى دمشق بعد التحرير».

مقاتل من «هيئة تحرير الشام» يحمل سلاحه ويطل على مدينة حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)
مقاتل من «هيئة تحرير الشام» يحمل سلاحه ويطل على مدينة حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)

وختم الشامي بالقول إن «خبرة الجولاني العملية اكتسبها في سوريا، فلم تكن لديه هذه القدرات سابقاً. لكنه طموح جداً، ويُجيد الاستفادة من الإنجازات كما تعلم الدروس من أخطاء (داعش) و(النصرة)».

وبطبيعة الحال، لم يكن هذا الفوز ممكناً لولا أن ساهم رجال كثيرون لا سيما الشرعيون من «جبهة النصرة» و«هيئة تحرير الشام»، وخارجهما في توطيد شرعية الجولاني ومكانته من خلال الدعاية الدينية. وأبرز هؤلاء مسؤول إدارة التواصل السياسي زيد العطار المعروف تنظيمياً بـ«أبو عائشة»، وأصبح اليوم وزيراً للخارجية (أسعد الشيباني)، والمسؤول الأمني «أبو أحمد حدود» أو أنس خطّاب الذي أصبح اليوم أيضاً مديراً للاستخبارات العامة.

النصر... نصر مشترك

ويقول القيادي السابق في الجيش الحر علاء الدين أيوب، المعروف باسم «الفاروق أبو بكر»، والذي قاد مفاوضات خروج الفصائل من حلب عام 2016: «اختلفنا سابقاً حول سلوك (جبهة النصرة) – ثم (فتح الشام) – ثم (هيئة تحرير الشام)، في تعاملها مع فصائل الجيش الحر. لكن لا يمكننا إنكار أنها كانت الأكثر تنظيماً وتدريباً من بيننا. وعملت الهيئة على تنظيم صفوفها وتدريب مقاتليها، لكن في الوقت عينه لا يمكن نسب النصر الذي تحقق أخيراً لها وحدها».

أحمد الشرع وقادة الفصائل في إعلان انتصار الثورة 29 يناير الماضي (رويترز)
أحمد الشرع وقادة الفصائل في إعلان انتصار الثورة 29 يناير الماضي (رويترز)

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «كان للنصر في عملية ردع العدوان عوامل كثيرة، منها الخارجي كالتدافع الدولي والصراع بين الدول ومنها الداخلي الشعبي والعسكري الذي انعكس في نضال عشرات الآلاف من المقاتلين في المعارك ضمن فصائل الثورة... ومع ذلك، يُحسب للهيئة تفوقها على غيرها في استغلال الفرص».

وأردف أيوب قائلاً: «نعلم جميعاً المرحلة التي سبقت سيطرة الهيئة على إدلب، والمعارك التي خاضتها ضد بقية الفصائل. ولا يمكننا إغفال أن السبب الرئيسي برأيي في سيطرة الهيئة دون غيرها كان تشرذم الفصائل، وعدم قدرتها على تقديم نموذج موحد ومتماسك».

وتابع: « طغت الأنا، وظهر أمراء حرب حولوا فصائلهم أدوات استثمار لتحقيق مكاسب شخصية مالية وسلطوية، فضعفت الفصائل والانتماء إليها. وقد عزز هذه الصورة الدعم الخارجي، وارتهان الكثير من قادة الفصائل لإملاءات الجهات الداعمة».

تشكيلات بولاءات كثيرة

أما بالنسبة للتشكيلات السياسية وأبرزها «الائتلاف الوطني السوري» الذي يمثل الجناح السياسي للمعارضة المسلّحة والمخوّل بالتفاوض قبل سقوط النظام، فقد تشكل بدعم وغطاء تركي وإقليمي ما جعل ولاءات معظم الشخصيات والمجموعات داخله مقيدة بالدول التي ساهمت في إنشائه.

مارة يعبرون من خلف زجاج خلال إطلاق نار في دمشق (غيتي)
مارة يعبرون من خلف زجاج خلال إطلاق نار في دمشق (غيتي)

وختم أيوب بقوله: «على مدار أربعة عشر عاماً من الثورة السورية، برزت قيادات كثيرة كانت تمتلك خلفيات دينية وشعبية وثورية، مثل: زهران علوش، عبد القادر الصالح قائد لواء التوحيد، وحسان عبود زعيم (أحرار الشام) معه أبو يزن الشامي، وجمال معروف زعيم فصيل (جبهة ثوار سوريا) الذي قضت عليه (تحرير الشام) عام 2014، لكنهم أبعدوا عن المشهد، سواء بالاغتيال الجسدي أو بالاغتيال المعنوي بينما كان الجولاني الأوفر حظاً في البروز بعد تخفٍّ، والنجاة ثم الفوز بفضل عوامل عدة، أهمها، تجربته السابقة في العراق، وقدراته الأمنية والعسكرية».