كشفت دراسة أميركية حديثة نشرت في شهر يوليو (تموز) من العام الحالي النقاب عن أثر العنف والجريمة في المجتمع على الأداء الأكاديمي للطلاب في المدارس، حيث أوضحت أن العنف يؤثر على نوعية النوم، ويساعد في إفراز هرمونات من شأنها أن تحدث خللا في الأداء الدراسي، وبخاصة في المجتمعات التي ترتفع فيها معدلات العنف والجريمة والتي يمكن أن تحدث في كل دول العالم حتى بعض الدول المتقدمة ذات الوفرة الاقتصادية. وفي الولايات المتحدة على سبيل المثال ذكرت وزارة العدل الأميركية في تقرير لها أن عدد حوادث العنف بلغ 1.2 مليون حادثة في عام 2015 فقط شملت السطو المسلح والسرقة والقتل والاعتداء بالضرب أو الاعتداءات الجنسية.
اختلال النوم
وكان الباحثون من جامعات نورثويسترن ونيويورك ودي بول DePaul University بالولايات المتحدة قد ربطوا بين انتشار العنف والجريمة في منطقة معينة وحدوث خلل في النوم للطلاب؛ مما يؤدي إلى زيادة هرمون القلق (الكورتيزول cortisol) وبالتالي يتعرض هؤلاء الأطفال إلى ضغوط نفسية في المدرسة تحول بينهم وبين الأداء الدراسي على أكمل وجه. وهذه الدراسة التي نشرت نتائجها في مجلة تنمية الطفل journal Child Development توضح أن العنف والأحداث الدامية تؤثر بشكل غير مباشر على التلاميذ، وتجعلهم أكثر عرضة للاستثارة والتعرض للأرق والتوتر، وهو ما يعرف علميا بمحور التحكم من المهاد والغدة النخامية في المخ والغدة الكظرية فوق الكلي hypothalamic - pituitary - adrenal axis، وهو التحكم الذي ينظم استجابة الإنسان للضغوط المختلفة التي يتعرض لها وطريقة تفاعله معها.
ومن المعروف أن المخ يعطي أوامر للغدة الكظرية adrenal gland (ما فوق الكلية) بإفراز هرمونات القلق (الكورتيزول) ليتمكن الجسم من الاحتفاظ بقدراته الإدراكية وإدارتها بالشكل الأمثل للتغلب على المواقف الصعبة. وبطبيعة الحال فإن هذه الاستثارة والنشاط في إفراز هذه الهرمونات تجعل الإنسان متحفزا وغير قابل للدخول في مرحلة الاسترخاء، وبالتالي لا يستطيع النوم بسهولة، وهو ما يحدث باستمرار عند التعرض للمواقف المثيرة، مثل السفر بالطائرة للمرة الأولى أو انتظار نتيجة معينة.
ويعتبر هذا السلوك هو الاستثناء، لكن في حالة التعرض الدائم لمثل هذا القلق فإن الطلاب تتأثر مستويات النوم لديهم، وهو الأمر الذي يؤدي بالسلب على أدائهم الدراسي. وجدير بالذكر، أن الدراسات السابقة التي تناولت العلاقة بين العنف وضعف الأداء في الاختبارات المدرسية لم تكن قادرة على معرفة السبب الذي يؤدي إلى ذلك، بينما تمكنت هذه الدراسة من إيجاد الرابط بينهم.
قام الباحثون في عام 2012 بتتبع 82 من الطلاب الذين تتراوح أعمارهم بين 11 و18 عاما. وهذه العينة كانت نسبة الذكور بها 51 في المائة والإناث 49 في المائة من المدن الأميركية المعروفة بتعدد الأعراق والمستويات الاقتصادية والأصول الأفريقية واللاتينية. وقام هؤلاء الطلاب باستكمال بيانات يومية لمدة أربعة أيام متتالية كما ارتدوا جميعا ساعات تقوم بمتابعة النشاط، وكذلك كمية النوم activity - tracking watches، وأيضا تم فحص اللعاب لديهم 3 مرات على مدار اليوم لمعرفة نسبة الكورتيزول.
كما قام الباحثون أيضا بجمع معلومات عن الجرائم والأحداث العنيفة التي وقعت في كل منطقة ينتمي لها الطلاب (يمكن أن يكون حادث العنف في منطقة مجاورة وليس بالضرورة في نفس البناية أو الشارع) أثناء الدراسة من خلال سجلات البوليس في كل مدينة. وبعد ذلك، عقد الباحثون مقارنة بين مستويات النوم في الليالي التي تلت حادثة العنف والليالي العادية قبل حدوثها، وقام الباحثون أيضا بعمل المقارنة نفسها بين نسبة الكورتيزول في الليلة التي تلت الحادثة والمستوى في الليالي العادية من دون حوادث.
ازدياد التوتر
ووجد الباحثون، أن الطلاب ذهبوا للنوم في ميعاد متأخر عن المستوى المعتاد الذين يأوون فيه الفراش في الليلة التالية للحادث مباشرة، وبالتالي قلت ساعات النوم في المجمل، كما أن مستويات الكورتيزول في الصباح التالي للحادثة كانت أكبر من الأيام العادية، وهو ما يعني أن الجسم يكون مشاركا بشكل ما في الأحداث المقلقة التي تحدث حوله؛ مما ينعكس في شكل زيادة إفرازات هرمونات القلق stress hormones، وبخاصة أن الباحثين وجدوا أن مستويات الكورتيزول وقلة النوم كانت تزيد في حالة وقوع جرائم القتل على وجه الخصوص، وكانت متوسطة في حالات الاعتداءات الجنسية والسرقة بالإكراه، ولم تتأثر في حالة السرقة العادية (من دون إكراه) للمتاجر، هو ما يشير إلى أنه كلما زاد حجم العنف زاد التوتر والأرق.
وأوضح الباحثون، أن هناك آليات عدة تؤدي إلى تأثر القدرات الإدراكية والتحصيل الأكاديمي للأطفال والمراهقين الذين يقطنون في المناطق التي تكون بها نسبة عنف وجريمة مرتفعة، ومنها التمتع بقدر أقل من النوم نتيجة لتعرضهم باستمرار للتوتر والقلق، وأن المدارس التي تكون موجودة في هذه الأحياء يجب أن تقدم يد العون للتلاميذ من خلال تأهيلهم ببرامج نفسية معينة لمساعدتهم في التغلب على القلق والمخاوف، وبالتالي مساعدتهم دراسيا، وبطبيعة الحال تقع مسؤولية كبرى على الحكومات في هذه الدول، حيث إنه تبعا للدراسات المتعددة عن العنف وجدت أن التوتر والقلق مثل حلقة مفرغة، إذ تجعل الأشخاص أكثرا ميلا للعدوانية ومهيئين أكثر للاستثارة؛ وهو الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى نمو دائرة العنف.
* استشاري طب الأطفال