جان ميشيل بول
TT

فرنسا والاضطرابات الاجتماعية

مع هذا الإقبال الكبير في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية يوم الأحد الماضي، فالشيء الوحيد الذي يعمل وبنجاح اليوم في فرنسا هو الديمقراطية. غير أن استطلاعاً أخيراً للرأي كشف عن أن 70 في المائة من الناخبين الفرنسيين يعتقدون بأن الديمقراطية لا تعمل بصورة جيدة في فرنسا. وهناك نسبة 11 في المائة فقط من الشعب الفرنسي يثقون بالأحزاب السياسية، ونسبة 24 في المائة يثقون بوسائل الإعلام المختلفة (مع استثناء الجيش والشرطة، مع اقتراب نسبة الدعم لهما من 80 في المائة). في هذا السياق، فإن السؤال الكبير الذي يواجه الرئيس الفرنسي المقبل هو ما إذا كان قادراً – حيث من شبه المؤكد أن يكون إيمانويل ماكرون – على المحافظة على السلام الاجتماعي في البلاد التي تهزها الانقسامات الشديدة، وذات التاريخ الطويل من نشر هذه الانقسامات في الشارع؟
تنتشر أمارات السخط الاجتماعي المكبوت في كل مكان. وتزعم نسبة 63 في المائة من الشباب الفرنسي أنهم على استعداد لتنظيم «ثورة واسعة النطاق». وحذر رئيس المديرية الفرنسية العامة للأمن الداخلي، في استماع أمام إحدى اللجان البرلمانية العام الماضي، من أن البلاد على وشك السقوط في «حرب أهلية». وعدد أيام العمل المفقودة بسبب الإضرابات العمالية هو الأكبر من بين البلدان المماثلة، وهناك ما يقرب من 40 ألف سيارة تضرم فيها النيران سنوياً في فرنسا، وأغلبها في الضواحي الفرنسية مترامية الأطراف. ونسبة الناخبين الفرنسيين الذين رفضوا العروض السياسية الرئيسية – وهم أكثر من 40 في المائة – هي أعلى مما كان عليه الأمر في أي وقت مضى في التاريخ السياسي الفرنسي الحديث؛ مما يكشف عن مستويات أعمق بكثير من السخط بأكثر مما قد اعترف به أي طرف من قبل.
وقد يكون الشعب الفرنسي أكثر عرضة من أي دولة أخرى تقريباً لأن ينقلوا مظالمهم إلى الشوارع؛ فهي البلاد المهيأة للثورة بأكثر من الملائمة للإصلاح، كما أشار ألكسيس دي توكفيل. ولكن في حين أن مصادر السخط والغضب في زيادة مستمرة، فإن مجال المناورة الحكومية صارت في تقلص مستمر أيضاً.
وفي حين أن ألمانيا وإسبانيا قد شرعتا بعض الإصلاحات في قوانين العمل ونظم التعليم بهدف تحسين المقدرة التنافسية، حافظت فرنسا وبشكل كبير على نظامها الحالي، والمعروف إعلامياً بنظام العمل لمدة 35 ساعة في الأسبوع. ولقد أسفر ذلك عن الانخفاض الكبير في الإنتاج الصناعي الفرنسي، بينما الإنتاج الألماني آخذ في التوسع (تسجل انخفاض بمقدار 15 في المائة في فرنسا منذ عام 2000 مقابل زيادة بأكثر من 20 في المائة في ألمانيا عن الفترة نفسها) ومستويات البطالة الفرنسية أعلى بكثير، عند نسبة 10 في المائة، وهي أعلى من ألمانيا التي سجلت معدل بطالة بنسبة 3.8 في المائة.
في الأثناء ذاتها، فإن التدفقات المستمرة للمهاجرين الفقراء وغير المتعلمين من أفريقيا إلى الداخل الفرنسي، التي تجذبها المستويات المرتفعة من المنافع والخدمات العامة المجانية، قد أدت إلى تكون طبقة اجتماعية تحتية قابلة للاشتعال في الضواحي الفرنسية. وفي حين أنهم يحملون الجنسية الفرنسية، إلا أنه لم يتم استيعابهم بشكل كامل كما حدث مع موجات المهاجرين الذين سبقوهم. وإذا كان المهاجرون عاطلين عن العمل بنسبة مرتين ونصف المرة مقارنة بالشعب الفرنسي، فإن الجيل الثاني من المهاجرين غير الأوروبيين يحتمل أن يعانوا البطالة ثلاثة أضعاف الجيل السابق عليهم. وأكثر من 40 في المائة من الشبان الأجانب عاطلون عن العمل، والكثير منهم يعيشون في أحياء الأقليات التي تنتشر فيها الجريمة والمخدرات.
ولقد حاولت الحكومات الفرنسية المتعاقبة شراء السلام الاجتماعي الداخلي من خلال المزيد من الإنفاق الاجتماعي. وبلغ مستوى الإنفاق الحكومي حتى الآن 57 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ويعتبر الإنفاق الاجتماعي الفرنسي هو الأعلى بين مجموع الدول المتقدمة بنسبة 31 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ولقد تم تمويل فورة الإنفاق الاجتماعي الفرنسي من الديون، التي بلغت الآن نحو 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن الضرائب الباهظة على العمال كذلك. والأسرة الفرنسية التي يعولها عائل واحد هي الآن من أكثر الأسر تعرضاً للضرائب المحلية بين مختلف البلدان المتقدمة.
ولقد أسفرت الأعباء الضريبية وقضايا القدرة التنافسية عما يرجح لأن يكون أكبر هجرة لرواد الأعمال الشباب والمواطنين الفرنسيين الناجحين منذ نزوح «هوغونوتيون» في عهد لويس الرابع عشر. والمواطن الفرنسي في العادة لا يميل إلى مغادرة الوطن، لكن وفقاً لمجلة الأعمال الفرنسية «كابيتال»، فإن خُـمس أغنى المواطنين في البلاد قد انتقلوا للعيش في بلجيكا. وفي لندن هناك من المغتربين الفرنسيين الوافدين ما يكفي لتأسيس مدينة فرنسية صغيرة على الأراضي الإنجليزية من حجم مدينة ستراسبورغ، أو ربما مدينة نيس.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»