د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

رجلٌ حكيم وسخي ورائع

لعلكم تتساءلون عن هذا الرجل الحكيم والسخي والرائع، ومن يا ترى يكون؟
لن أطيل عليكم في إثارة الفضول: إنّه الشّاعر الكاريبي ديريك والكوت، الحائز جائزة نوبل للآداب، الذي وافاه الأجل المحتوم يوم 17 من الشهر الحالي.
هكذا تحدث عنه أندرو موش، موجهاً تحيّة إليه، ولم أجد ما يمكن أن يعبر عن الراحل ديريك والكوت مثل هذا التوصيف البسيط، العام في ظاهره العميق الخاص في باطنه.
هذا الشاعر لم أقرأ له فقط، ولم أعجب بكتاباته الشعريّة، خصوصاً ملحمته الشهيرة «أوميرو» التي ترجمت إلى كل اللغات تقريباً، والتي قدم فيها تمثلاً جديداً مدهشاً للملحمة الأوديسية الإغريقية، فحسب... بل إني حظيت بشرف التواصل معه، والالتقاء به في مدينة بيسكارا الإيطالية، في بداية الألفية، حيث كان ضيف الشرف في مهرجان شعري كبير كنت من المشاركين فيه.
ما لفت انتباهي هو تواضعه الجم، وقلة كلامه، وحرصه الدائم على الجلوس على الشاطئ في البحر الذي كان قبالة النزل الذي كنّا فيه... كان كثير الشرود، صامتاً، يفضل محاورة الموج والرمال والإنصات أكثر من الكلام.
لم تغير فيه جائزة نوبل أي عادة من عاداته، كما صرح لي في حديث جانبي، وكان لا يعطي أي أهمية تذكر للبهرج ولبريق النجومية، ولا يعطي لأي شيء أكثر من قيمته الحقيقية.
قد يتساءل البعض: هل ارتأيت التحدث عن ديريك والكوت فقط تحية لشاعر كبير فاز بأعلى جائزة عالمية للشّعر، هي جائزة نوبل للآداب؟
لا أظن ذلك. هناك نقطتان مهمتان في تجربة هذا الشاعر يمكن أن نستفيد منهما؛ النقطة الأولى مقاربته لعلاقة الشاعر بالجمهور، وهي مسألة تبدو لي مفصلية ومهمة جداً. والنقطة الثانية تتمثل في تركيزه على الهوية الكاريبية، والوجع الكاريبي، وكل ما يمثله الكاريب من جمال وانقسامات كانت محلّ اهتمامه، أي أنّه مثال للتجربة المنكبة على الخصوصية، ومنها حقق العالمية، ولفت أنظار العالم.
لنأتِ إلى المسألة الأولى الخاصة بعلاقة الشاعر بالجمهور: في مقابلة مطولة أجريتها معه أثناء الالتقاء به في مهرجان شعري بمدينة بيسكارا الإيطالية، عام 2004، قال لي إن الشاعر ليس نادلاً في مقهى الجمهور، وهو الفاعل الرئيس في عملية التلقي الشعري، وهو من يحدد بنود العقد الشعري، لا الجمهور.
وفي الحقيقة، هذه المقاربة لاقت في نفسي هوى لأنها ضربة موجعة لنظرية «الجمهور عايز كده»، وصفعة رمزية مؤلمة للشعراء الذين يعتبرون الجماهيرية هي معيار تحديد الجودة الشعرية.
بمعنى آخر: الشاعر ليس نادلاً يستجيب لطلبات الزبون في مقهى، بل هو صانع الحاجات وضابطها ومؤطرها. أليس الشاعر هو المدافع عن الحلم والقيم، وما يجب أن يكون ضد ما هو كائن؟ أليس الشاعر هو نصير الإنساني وكل ما هو جميل ويمثل دليلاً على إنسانية الإنسان؟
فأن يكون الشاعر نادلاً في مقهى الجمهور، هذا ينفي عنه صفة الشاعر، ويحوله إلى شخص آخر باستثناء الشاعر. ذلك أن للشاعر وظيفة النضال من أجل واقع يكون أقرب ما يكون إلى أحلام الإنسان إبان طفولته؛ هو ينشئ عالماً على أنقاض العالم الواقع.
وما نلاحظه اليوم في الحقل الشعري العربي أن هناك فريقاً من الشعراء يلعبون لعبة النادل بشكل فيه مزايدة على من اختاروا أن يكونوا شعراء، إضافة إلى التشويش على عملية التلقي، وإرباك الفعل النقدي ذاته الذي أصبح يجمع بشكل هجين بين صورتي الشاعر والنادل في تقييم الإنتاج الشعري. ولعل المسابقات الشعرية التي ننفق عليها ملايين الآلاف في قنواتنا دليل الانتصار الإعلامي الهائل لنظرية الشاعر النادل، عوض تسخير تلك الأموال والاستوديوهات للانتصار للشعر المؤسس الذي يحاول نحت إنسان عربي بأقل ما يمكن من مركبات وعقد.
الدرس الثاني في تجربة الراحل الرائع الحكيم والكوت أنه سخر حياته للكتابة، مسرحاً وشعراً، عن الكاريب وتفاصيلها، والهوية الكاريبية، وما يميز المجتمع هناك من جمال ومطبات، وكتب عن كل شيء: عن الحب والمرأة، والفراغ والسعادة، والوحدة واليأس والأمل، والبحر والطبيعة، والماضي والغد... ولكن بروح الكاريب وعينها ورأسمالها الرمزي الثقافي. لقد غاص ديريك والكوت في هويته، وفي خصوصية المجتمع والجغرافيا والتاريخ والواقع الذي ينتمي إليه، فجلب له أنظار العالم وإعجابه واهتمامه، إنه مثال جيد يدعم فكرة أن الخصوصية هي الطريق المثلى للعالمية.
وأعتقد أن مثل هذا الدرس يحتاج إلى تمعن وتأمل مخصوصين من المبدعين في العالم العربي الذين سقط البعض منهم في فخ أن العالمية تقود إلى العالمية، والذين أسقطوا من اعتبارهم ورأسهم ووعيهم ولا وعيهم كل ما يمت بصلة إلى شيء اسمه الخصوصية.
أعرف أن جائزة نوبل لم تعط لمحمود درويش مثلاً، الذي كتب فلسطين الأرض والذاكرة والوجع، وكذلك سميح القاسم، ولم تلتفت لهما لجنة جائزة نوبل للآداب، ولكن يجب ألا يكون ذلك سبباً يجعل من البعض من شعرائنا يختار موقع النادل في مقهى لجنة جائزة نوبل للآداب.
يقول ديريك والكوت، صاحب البشرة الداكنة والعينين الفاتحتين، في إحدى قصائده: «أحمل في داخلي الهولندي الزنجي الإنجليزي: إما أنني لا أحد أو أنني أمة بأكملها».