سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

العصا والسكين

يُدَلَل صاحب الاسم «روبرت» في إنجلترا، بتصغير الاسم إلى «بوبي». وكان الشرطي اللندني يلقب «بوبي» بين الناس، نسبة إلى مؤسس الشرطة في المدينة روبرت بيلي (1829). وكان «البوبي» يعتمر قبعة من الفلين، ويحمل عصاً قصيرة، وممنوع عليه حمل أي سلاح. واستمر المنع إلى سنوات قليلة خلت، عندما تغير المجتمع تغيراً شديداً وتغير نوع الجريمة ونوع المجرمين.
لكن لندن لم تفقد صورتها كمدينة مؤدبة، وقانون متحضر. ولم تغير قوانينها بسبب تغير الجريمة. وبدل ذلك، قررت الهرب من المواجهة مع الاحتمالات الرديئة، فاختارت الخروج من أوروبا، والأبواب المفتوحة والنوافذ المشلعة. لكن الإرهاب لا يفهم لغة التمدن ومظاهر، أو أسباب، أو معاني التحضّر. قتل إرهابي وستمنستر، حارس البرلمان يوم الأربعاء بسكين حاد، لأن «البوبي» لم يكن يحمل مسدساً. بعد نيس وبرلين، ها هي السيارة المرعبة تصل إلى الجسر الذي تمر عليه أقدم ديمقراطية في العالم.
إنها لا تكلف صاحبها حتى التعلم على صناعة الحزام الناسف. قم إلى السيارة وادهس ما استطعت من النساء والرجال والأطفال. مهمتك أن تغير وجه العالم. أن تضع الحضارات في وجه بعضها البعض. أن تعيد البشر إلى عصور الموت والخديعة. أن تحوِّل رموز التعايش البشري والشراكة الإنسانية، إلى رموز للرعب والكره والحقد والترافض. مهمتك أن تلغي من البشر فكرة التراحم والشراكة وحضارة الوجود.
أما نحن، من يعنينا الاعتداء على لندن في صورة مباشرة، فالمسألة لا تحتمل هذه الفلسفة. نحن فقدنا ببساطة «البوبي»، الذي كان يدلنا على الطرقات والشوارع. والذي كنا عندما نراه يتمشى، نشعر بأمان المدينة ودفئها القانوني. لقد اقترع هذا الإرهابي الفاسق إلى جانب الذين يريدون إخراج لندن من صورتها المعلقة على الجدار، كعاصمة للجميع. كبلد يأتي الناس إليه من أجل أن يتعلموا التمدن، لا من أجل أن يقتلوه، التمدن.
الشرطي القتيل حَرَم أطفال المدينة من صورة «البوبي» ولطفه وكياسته ولهجته الريفية وبساطته، والعصا التي لا يستخدمها إلا لتفرقة المشاغبين. سوف يضطر بعد اليوم إلى حمل مسدس يرد به عن نفسه وعن محروسيه، طعن الغدر والجنون والهوس بالقتل. نوع جديد من الشرطة لنوع جديد من المجرمين: المجرم الذي لا يعرف ضحيته ولم يرَها من قبل ولا لماذا قتلها وأحزن أهلها وشرد أبناءها.
كان الدكتور راشد الغنوشي لسنوات عدة، لاجئاً هنا. يحرسه ويحميه «البوبي»، ويدافع عن حقه في اللجوء برلمان وستمنستر. هل ترى يستطيع الغنوشي استنكار مجزرة الجسر، أم أن ذلك لا يجوز؟ لا شك أن المسألة قيد الدرس.