بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

سباحة عكس التيار

مقولة ترددت منذ أزمان بعيدة، ولم تزل. لكن ملل المرء من تكرار سماع قول ما مرات عدة، أو الاطلاع عليه هنا وهناك، لن يقلل شأن القول ذاته، ولن ينفي اضطرار اللجوء إليه، عند الحاجة، بل الأرجح أن العكس صحيح، فكم من نفس تشعر بارتياح لمجرد استحضار بيت شِعر يقال إن الدهر أكل عليه وشرب، لكنه لم يصدأ ولم يَشِبْ، بل يتنفس مع أرواح بعض البشر، كأنه قُرِض يوم أمس. كذلك هو قِدَم القول الشائع، والمنبئ بخطر السباحة عكس التيار، عِوَض العوم الأسهل مع عوام الناس. الأسطر التالية قد تبدو لكثيرين تغريدًا خارج السرب، محاولة للسباحة بين أمواج التيار المعاكس. قبل الولوج للتفاصيل، لفتني أن ما يشبه الهيجان عبر العالم ضد قرار الرئيس دونالد ترمب منع رعايا سبع دول من دخول أميركا، لم يمنع بريطانيا من الاهتمام برحيل فنان مبدع هو الممثل سير جون هيرت. «صاندي تايمز» أفردت له صورة صفحتها الأولى مع العنوان التالي: «رجل متعدد الشخصيات». ومن قبل، كذلك كان سير لورانس أوليفييه، ورونالد ريغان، ثم كذلك هو أيضًا دونالد ترمب، ألم يلج عالم السياسة من دنيا «بزنس» التلفزيون ومسابقات ملكة جمال الكون؟ بلى.
فرق كبير بين زخم اعتراض عدد من كبار ساسة أميركا، على ضفتي الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، ومعهم حيتان مؤسساتها الاقتصادية، مثل «مايكروسوفت»، أو «غوغل»، وغيرهما، على قرار الرئيس ترمب، وبين احتجاج الآخرين. الحالة الأولى تعبّر عن وضع صحي داخل أميركا. الثانية تشكل نوعًا من التدخل السافر في شأن أميركي، مع الأخذ بعين الاعتبار ما ألحق القرار من أذى بعائلات أو أفراد. واقعيًا، ليس ضروريًا أن تتفق مع منطق المنع كي تدافع عن حق اتخاذ القرار. وبالمقابل، ليس موضوعيًا تجاهل حقيقة أن مجمل مواقف الرئيس ترمب، التي عبر عنها مرشحًا، منذ بدء مراحل الترشح الأولى، تعكس مواقف شرائح معتبرة من الشعب الأميركي، حتى لو بدت لكثيرين داخل أميركا وخارجها، تسبح في اتجاه معاكس لما اعتاده أغلب الناس.
حجم رد الفعل على قرار المنع يشكل تذكيرًا لمن بحاجة إلى تذكّر بضع حقائق غالبًا ما تُهمل، من منطلق أنها بديهيات، في مقدمها أن الأمر يتعلق بأميركا ورئيسها. شرح ذلك، باختصار، يقول إن منع دولة لرعايا غيرها من دخول أراضيها، أو حتى المرور عبرها (ترانزيت) هو قرار تتخذه دول عدة في العالم كله، إنه قرار سيادي، والمفارقة اللافتة في هذا السياق أن دولاً شمل المنع رعاياها مارست في السابق، وبعضها لا يزال يمارس منع جنسيات محددة من دخول أراضيها. أكثر من ذلك، ثمة دول كانت تمنح بعض البشر وثائق سفر تحمل اسمها، وتطلب من غيرها تسهيل مرور حامليها، ثم إنها لم تكن تجد حرجًا في أن تغضّ النظر عن احترامها، هي ذاتها، لتلك الوثائق، وتضع العائق الأمني تحديدًا، لتفسير منعها حملة وثائق سفرها من دخول أراضيها. لماذا لم يحصل من قبل، مُطلقًا، أن شهد العالم مثل هذا الهيجان إزاء قرار سيادي يتخذه رئيس دولة مُنتخب؟ ببساطة، لأنه الرئيس الأميركي، ولأن الدولة هي الولايات المتحدة.
من الحقائق المهملة التي يذكّر بها الموقف من قرار الرئيس ترمب، أيضًا، سطوة الإعلام الجديد. السطوة في حد ذاتها ليست جديدة، بالتأكيد، لكنها بلغت حدًا غير مسبوق، ثم هي لا تزال في صعود، ومن لم يزل بحاجة لدليل مقنع على تأثير ثورة الاتصالات عبر كل القارات، يكفيه تأمل كيف يجري تجييش ردود الفعل عبر العالم مع قرار، أو ضد آخر، ولو بالتضخيم أو التزوير أحيانا، كما لاحظت أمس أن صحيفة بريطانية محترمة نشرت مقالا لكاتب زعم فيه أن عقيدة ترمب هي «الحرب على الإسلام»، وهذا كلام غير دقيق على الإطلاق. يبقى التذكير بما يُفتَرض أنه لم يُنس بعد، وخلاصته أن دونالد ترمب ليس سياسيًا تقليديًا، كيف إذن يُتوقع منه السباحة في بحور السياسة وفق المُعتاد؟ على العكس من ذلك، ربما يغامر بغوص أعمق في مزيد من التناقضات، هل سيفاجئ الجميع بالعوم المعاكس في بحر الصين الجنوبي؟ ربما، ولعله يشعل حريقًا بزعم إطفاء حرائق. لا أحد يعرف إلى أي مدى يمكن للرئيس ترمب أن يذهب، وإذ كثر كلام المقارنة بينه وبين رونالد ريغان، فلنتذكر المقولة الأشهر للممثل والرئيس الراحل:
YOU AIN’T SEEN NOTHING YET
نعم، الأرجح أن عالم الرئيس ترمب لم ير شيئا، بعد.