سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

حال المثقفين

في كل مرحلة سياسية أو وطنية عصيبة، يتدافع الناس إلى طرح سؤال واحد: «أين هم المثقفون العرب»؟ لم يخطر في بال أحد أن يطرح في المقابل السؤال: من يحمي المثقفين العرب؟ ومن يقف، أو وقف، معهم؟ وكيف تميل الناس إلى نسيانهم في سرعة محزنة ولا تعود تتذكرهم حتى في المقالات أو الأندية. من أجل أن يكون هناك مثقف عربي، يجب أن يكون هناك جمهور عربي، بمعنى الثقافة والالتزام والصمود الأخلاقي في القضايا التي يطرحها المثقفون.
يقول شاعر كبير إن المثقف العربي يشمت لاضطهاد مثقف آخر، في حين أن الثقافة في البلدان الأخرى نضال دائم من الفريقين، المثقف وجمهوره. وإنني أتحاشى دائمًا استخدام كلمة نضال لشدّة ما أصبحت بالية وهراءً. فلم يبقَ مدعٍ إلا وتلحّف بها، عن حق أحيانًا قليلة، وعن باطل معظم الأحيان. من أجمل ما قرأت في هذا الباب كلمات ألبير كامو: «إن المرء إما أن يخدم الإنسان بكلّيته، وإما ألا يخدمه على الإطلاق. وإذا كان الإنسان في حاجة إلى الرغيف والعدالة، وبالتالي، فما يجب أن نفعله هو العمل من أجل تأمين ذلك، فإنه في حاجة أيضًا إلى روحيات الجمال التي هي رغيف قلبه. المرء أمران: شجاعة في حياته وموهبة في عمله».
لا أعتقد أن هناك أي قيمة لأي عمل في أي حقل، إذا لم يحمل موقفًا أخلاقيًا في الأساس، ولست أعني من الموقف الأخلاقي الخطابيات المفرغة من معانيها الإنسانية، وإنما الموقف الذاتي الدائم من قضايا الإنسان والعدالة والإنصاف والأمان والحق الجوهري في حياة أفضل. المؤسف أن أعمال المثقفين العرب، اختلطت أحيانًا كثيرة، بأسر التيارات والآيديولوجيات المغلقة، ولم تنفتح على القيم البشرية بصورة عامة وأكثر عمقًا. ولذلك، غالبًا ما انتهت مواقف الآيديولوجيين بانتهاء الانتماءات التي احتضنوها واحتضنتهم. وبدل أن يكون الصراع الثقافي في سبيل عدالة متفق عليها، تحول إلى صراعات بين الاتجاهات المتضاربة، التي اتخذت أحيانًا صيغة العنف الدموي، وغالبًا سمة العنف اللفظي الذي استعرناه من ثقافات الخارج، أو أضفنا إليه مما لدينا من نزعة غرائزية إلى اعتبار العنف هو الحل وإلغاء الآخر هو الوسيلة.
جميعنا نبحث عن المثقف العربي اليوم، أين هو؟ أين صوته؟ أين أثره في هذا الضياع القاتل عبر حدود الأمة؟ وهل من يصغي إليه بين ضجيج الركام وصخب الموت والجراح والجوع والتشرد والظلم اللاحق بالجميع؟ لا حاجة إلى الجواب بالطبع. المثقف، مثل المواطن العادي، صامت أمام هذه الآلة الطاحنة التي حوّلت المنطقة إلى الساحة الأكثر دموية وفظاظة في تاريخها. أعود إلى قول الشاعر عن شماتة المثقف بالمثقف، لأنتبه إلى شماتة الحي بالحي، والحارة بالحارة، والمدينة بالمدينة، والموت بالموت. ليس أين المثقف العربي، وإنما أين الإنسان العربي.