أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

القيصر في انتظار ترامب

الانتصار الذي حصل في حلب يسجل لصالح الروس وحدهم. وهذا النجاح في وضع يدهم على أكبر المدن السورية يعتبر الأول لهم خارج روسيا منذ هزيمتهم المخزية في أفغانستان نهاية ثمانينات القرن الماضي. ويسجل لبوتين أنه الرجل الذي أعاد لروسيا هيبتها أمام الغرب الذي ضيّق عليها وأهانها بالعقوبات بسبب أوكرانيا. دعكم من تهليل نظام بشار الأسد وتوزيع الإيرانيين الحلوى للمشاة في مناطقهم، وتبختر الجنرال قاسم سليماني في حلب، كل ذلك مجرد دعاية لعزو الانتصار للحضور الإيراني. وأول من سيدفع ثمن هذا الانتصار هم الإيرانيون أنفسهم بعد أن تصبح روسيا هي صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في إدارة الشأن السوري سياسيا وعسكريا.
جيش الأسد النظامي حاول مقاومة الثوار منذ بداية الثورة في مارس (آذار) 2011، وحينما عجز عن كبت تمددهم استعان بحليفه الإيراني و«حزب الله» الذين دخلوا على الخط في 2013، كان الجيش الحر متفوقًا لأنه يملك القوة المعنوية والعسكرية، حتى أن الأسد فقد الثقة في جيشه الذي انشق كثير من عناصره ومنهم من ذوي الرتب العالية وانضموا للجيش الحر. فاستنجد الإيرانيون بالروس الذين تجاوبوا ودخلوا بطائراتهم في 2015. سلسلة من الأحداث تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الأسد بجيشه و«حزب الله» والحرس الثوري وميليشياته الأفغانية والعراقية واللبنانية فشلوا فشلاً ذريعًا في إيقاف أو هزيمة المعارضة السورية، لولا التدخل الروسي.
حتى تركيا، المجاورة التي تخشى من تمكين الأكراد في الشمال السوري، ولها امتدادات تاريخية واقتصادية، والتي استماتت للمشاركة في معركة تحرير الموصل نصرة للسنة، لم تستطع التدخل في معركة حلب لئلا تغضب بوتين الذي بالكاد رضي عنها بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية قبل نحو عام. والحقيقة أننا يجب ألا نحمّل الأتراك أكثر من طاقتهم، فالرئيس التركي رجب طيب إردوغان كان بين خيارين؛ إما أن يتدخل عسكريا تحت مظلة الناتو التي ستحميه وتدعمه، وهو الأمر الذي لم يحصل، أو أن يتدخل فرديًا بجيشه، وهذا أيضًا لم يحصل باعتراف الأتراك أنفسهم الذين أقروا بأنه لا طاقة لجيشهم بجيش روسيا، كما أن الجيش التركي نفسه ليس محط ثقة من إردوغان الذي لا يزال يبحث بالإبرة في كل مؤسسات الدولة عن أتباع فتح الله غولن المعارض العتيد الذي تتهمه أنقرة أنه وراء الانقلاب الفاشل الصيف الماضي. وحتى عندما استهدفت طائرات بشار الأسد الجنود الأتراك في شمال سوريا الشهر الفائت وقتلت ثلاثة منهم، هرع إردوغان إلى بوتين في مكالمة ليلية متأخرة يشكو إليه ما فعله نظام الأسد، فأجابه بوتين بأن روسيا موجودة على الأرض السورية بدعوة من حكومتها الشرعية، أما أنتم فوجودكم غير شرعي، وبالتالي من حق النظام الدفاع عن نفسه! بعدها أطلق إردوغان تصريحًا بأن القوات التركية موجودة في الشمال للقضاء على بشار الأسد، لكن ما لبث أن أجبره الروس على تغيير تصريحه وبالفعل خرج بعد يومين يؤكد أن تصريحه فهم في غير سياقه وأنه كان يعني القضاء على المتطرفين الموجودين بمحاذاة الحدود التركية! تصريحات إردوغان كان يستهدف بها العرب والخليجيين خاصة الذين يظنون أنه قوة جبارة مكينة، للحفاظ على ماء وجهه بعد الخسارة التي مني بها الجيش الحر الذي تدرب في تركيا، لكن الواقع أن تركيا لن تستطيع الدفاع عن السوريين أو مناكفة الروس وحدها، ما لم يدعمها الغرب. ونفهم من ذلك الدرس القديم أن الخطب والشعارات لا تسد جوعًا ولا تؤمّن من خوف.
كل ما استطاع أن يطلبه إردوغان من بوتين أن يسمح بإجلاء المعارضة خارج حلب، وهو ما ينوي فعله، حيث سيدفع بهم إلى إدلب، في شمال غربي سوريا، لتكون المدينة الثانية بعد حلب.
وإدلب لها أهميتها كونها معقل المعارضة المسلحة الإسلامية وخاصة فتح الشام (جبهة النصرة سابقًا)، التي وبكل أسف حظيت بدعم لوجستي وإعلامي، أثرت بشكل كبير على السمعة الدولية للمعارضة السورية، وظهرت تداعيات هذا الدعم من خلال تنافس الفصائل المسلحة على المساحة والمواقع، فنشبت بينها معارك باسم الدين وتكفير أحدها الآخر، اقتتال ظاهره الدين وباطنه الطمع والهيمنة، فجعلت من المعارضة المعتدلة ضحية، ووضعتها تحت المظلة نفسها، وكانت ذريعة للغرب بالامتناع عن تزويد المعارضة بأسلحة نوعية، خاصة مضادات الطائرات التي كانت ستغير واقع المعارك لصالحهم.
تظهر قوة بوتين اليوم بعد انتصار حلب من خلال تحكمه حتى في الحل السياسي والتفاوض حوله، وقد قرر تحييد الغرب ومشاركة تركيا وإيران في العملية السياسية أمام المعارضة الممثلة بالائتلاف الوطني، وسيكون عليه كذلك حماية منجزه في حلب للحفاظ عليها من السقوط ثانية في يد المعارضة المسلحة.
أما «داعش» فقد فر عناصره مبكرًا من حلب وتوجهوا إلى تدمر التي احتلوها بعد ثمانية أشهر من استعادتها من النظام السوري، ويحاول الروس ترويع المسيحيين في العالم بأن الدواعش سيبدأون بتدمير معالمها التاريخية وإرثها الثقافي ليظهر بوتين بأنه محرر المدينة التي تحمل جزءًا من تاريخ المسيحيين من «الإسلام المتطرف».
سوريا يتحكم بها الروس، وسيظل هذا الوضع قائمًا ما لم تتدخل الولايات المتحدة وحلفاؤها في الخليج وأوروبا. والحقيقة، أن الانتصارات الروسية محرجة لواشنطن التي أراد لها باراك أوباما أن تنأى بنفسها عن هذا الصراع، وسمحت بأن يتوج فلاديمير بوتين قيصرًا على أحد أكبر البلدان العربية.

[email protected]