ديفيد اغناتيوس
صحافي وروائي. وهو محرر مشارك وكاتب عمود في صحيفة "واشنطن بوست". كتب ثماني روايات، بما في ذلك "جسد الأكاذيب"
TT

ترامب يخفق في أول اختبار لسياسته الخارجية

بصرف النظر عما سيقوله المؤرخون في المستقبل عن التحركات المبكرة لسياسة السيد دونالد ترامب الخارجية، فمن المرجح أن يلاحظوا لمحات من عدم الانتظام، وفي مناح كثيرة؛ الطبيعة الانهزامية للتعاملات الأولية للرئيس الأميركي المنتخب مع الصين، وهي الدولة التي يضعها كثير من المحللين في موضع الدولة المنافسة الأولى، وعلى المدى البعيد، للولايات المتحدة.
صياغة الاستراتيجية الحصيفة لمواجهة، وربما تحدي، الهيمنة الصينية المستمرة في آسيا، يمكن القول إنها المهمة الأولى بالرعاية والاهتمام في أجندة السياسات الخارجية للرئيس الجديد. ولكن إذا كان ترامب يخطط لاتخاذ موقف أكثر حزما وصرامة، فلقد كانت الخطوة الأخيرة من الخطوات العشوائية لتنفيذ ذلك. إذ انزلق الرئيس المنتخب فيما وصف بأنه عثرة ما قبل التنصيب الرئاسي حين وجه الإهانات إلى بكين، الأمر الذي أدى إلى فقدان الاعتبار والمكانة من دون أن تكون لديه خطة مدروسة وواضحة المعالم لما يسعى لتحقيقه.
والأسوأ من ذلك، أن هجمات ترامب إزاء الصين جاءت في الوقت الذي تقوض فيه خطته بالانسحاب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي من موقف الولايات المتحدة حيال حلفائها في آسيا. وترامب، في واقع الأمر، يتنازل عن الأرضية الاقتصادية لصالح الصين في اللحظة نفسها التي يعلن فيها عن اتخاذه للمواقف الأكثر تشددا. فهل يمكن اعتبار هذا الأمر من قبيل الاستراتيجية المدروسة من جانب خبير إبرام الصفقات؟ إن الأمر برمته يبدو لي وكأنه أشبه بالفوضى العارمة.
لم يكن من الضروري للمكالمة الهاتفية التي أجراها السيد ترامب مع الرئيس التايواني مؤخرا أن تسبب هذه الأزمة. كان الجانب الصيني في أول الأمر مستعدا لأن يمنح الرئيس المنتخب «غير الخبير» فسحة من الوقت، ويوجهون اللوم بشأن المكالمة «التي لم يسبق لها مثيل» على المناورات التافهة من قبل تايبيه. واعتبرت بكين أن الوقت الراهن ليس بالمناسب لافتعال المشاكل أو الدخول في مواجهات جديدة، وكان حريا بالسيد ترامب أن يتبنى الموقف ذاته.
ولكن السيد ترامب، الذي يشعر بالتهميش بصورة واضحة، تسبب في تفاقم الأمر على نحو مفاجئ. فلقد شن عاصفة هوجاء على موقع «تويتر» بشأن اللاعب الصيني في العملات (وهي التهمة الوهمية إلى حد كبير التي ظل يكررها خلال حملته الانتخابية الأخيرة)، وتصرفاتها في بحر الصين الجنوبي (وهي المشكلة الحقيقية التي تتطلب القيادة الأميركية القوية والثابتة). ومن شأن الصين التي شعرت بحرج كبير أن تنزع إلى اتخاذ التدابير المضادة، والتي سوف تسبب المزيد من الإرباك في السياسة الخارجية الأميركية.
وتلك الحلقة تعزز من نقطتين مهمتين بشأن السيد ترامب: أولا أنه يعشق التملق والتزلف عن طريق المكالمات الهاتفية من جانب الزعماء الأجانب (بما في ذلك رؤساء الدول التي لا تعترف بها الولايات المتحدة على نحو رسمي). وثانيا أنه رجل شديد الحساسية ويتفاعل مع الانتقادات بقدر من الاستفزاز والاستثارة كما لو كان يجسد النسخة الأميركية من كيم جونغ أون زعيم كوريا الشمالية.
يضخم «تويتر» من ميل ترامب إلى اتخاذ ردود الفعل الشخصية المبالغ فيها. وفي عصر الأسلحة النووية، يمكن لهذا التذبذب الرئاسي غير المتوقف أن يكون شديد الخطورة على السلامة العالمية.
ولكي نفهم الموقف الأخير نحو الصين، يمكن تصوره من خلال عيون هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق الذي وضع أسس نموذج العلاقات الأميركية الصينية الحديثة. وكان السيد كيسنجر في بكين يقول بعض العبارات اللطيفة، بغرض التهدئة، حول السيد ترامب، وبعد ساعات قليلة، يلقي الرئيس المنتخب من نيويورك بقنبلة ذات رائحة كريهة جدا لنسف الصرح الذي شيده السيد كيسنجر قبل 45 عاما!
كان الرئيس الصيني قد رحب بالسيد كيسنجر في بكين بصفته وسيطا محتملا للسيد ترامب. وقال الرئيس الصيني: «نحن الآن في لحظة حاسمة. دكتور كيسنجر، كلي آذان صاغية لاستماع ما تقوله حول الموقف العالمي الحالي ومستقبل تطور العلاقات بين الصين والولايات المتحدة».
واقترح السيد كيسنجر أن ترامب، على الرغم من قلة خبرته السياسية، سوف ينتهج المسلك البرغماتي. وبعد اجتماعه مع الرئيس الصيني، صرح للصحافي فريد زكريا من شبكة «سي إن إن» الإخبارية يقول: «هذا الرئيس المنتخب، إنه الأكثر تفردا من الذين قابلتهم في معرض حياتي: إنه لا يملك أية أجندة على الإطلاق». وقال إنه على الرغم من مواقف ترامب التحريضية خلال الحملة الانتخابية، فلا ينبغي على المحللين الإصرار على حصره في المواقف التي أعلن عنها خلال الحملة الانتخابية والتي لا يصر عليها كثيرا.
ثم - وفجأة! - تأتي مكالمة تايوان، والتي أثارت التساؤلات حول متانة بيان شنغهاي الذي أعلنه كيسنجر في عام 1972 والذي حدد الإطار الأساسي لسياسة «الصين الواحدة».
وهذا التبارز بشأن تايوان لا ينبغي أن يثير هذا القدر من القلق، إذا ما كانت الجوانب الأخرى من سياسة الولايات المتحدة حيال آسيا رصينة وسليمة. ولكن تعهد ترامب بتمزيق اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي خلال الأيام الأولى من توليه المنصب الجديد قد دفع بالدول الـ11 الأخرى التي وقعت على الاتفاقية للبحث عن مأوى، مع بعض الكلام الدائر حول إبرام اتفاقيات جديدة مع بكين الراغبة وبشدة في ملء الفراغ.
وقال رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، وهو أوثق حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، خلال الشهر الماضي، إنه من شأن أعضاء اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي التفكير في الانضمام إلى اتفاقية تجارية منافسة تحت رعاية الصين والمعروفة باسم اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة. وقال السيد آبي عن ذلك: «ليس هناك من شك أنه سوف يكون هناك محور لاتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة إذا لم تمض اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي قدما في مسارها». ولقد أشارت كل من بيرو وأستراليا، وهما من الدول الموقعة على اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي، إلى أنهما قد تنضمان إلى اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة.
يقول مايكل فرومان، الذي يشغل منصب ممثل المكتب التجاري الأميركي منذ عام 2013 والذي هاجمه السيد ترامب بشدة ووصفه بالمفاوض التجاري غير القدير، في مقابلة شخصية: «إذا ما أردت الوقوف في مواجهة الصين، فإن آخر شيء ينبغي عليك فعله هو الانسحاب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي».
ولا بد من القول إن تهور السيد ترامب، ومناورات تدمير الذات الآسيوية التي أجراها خلال الأسبوع الماضي جعلت من السيد فرومان مثل المفاوض العبقري مقارنة بما وصفه به ترامب. لقد واجه ترامب لتوه أول اختبار حقيقي في عالم السياسة الخارجية من خلال العثرة في مكالمة الرئيس التايواني، ولقد فشل فيه بحق. دعونا نأمل أن يتعلم شيئا من أخطائه.

* خدمة «واشنطن بوست»