سوسن الشاعر
إعلامية بحرينية تكتب في بعض الصحف البحرينية منها «الوطن» و«بوابة العين الإخبارية». عضو في مجلس أمناء «جائزة الصحافة العربية». كانت مقدمة لبعض البرامج التليفزيونية. خريجة جامعة بيروت العربية.
TT

من هنا دخلوا

ثغرتان لم نحصنهما فنفذ منهما الفيروس الذي خطف أبناءنا وجندهم لخدمة جماعات إرهابية؛ الثغرة الأولى «حصن المواطنة»، والثغرة الثانية «حصن الهوية»، وسد هاتين الثغرتين لا بد أن يكون مشروعًا تضعه الدولة على سلم أولوياتها الدفاعية المنوطة بها، وهو مشروع يعادل في أهميته تسليح قواتها المسلحة.
شبابنا الذين نجحت الجماعات الدينية في ضمهم لها لم يحصنوا ولم يؤسسوا وينشأوا «مواطنين» يعوا التزاماتهم تجاه الدولة، لأنهم لم يفهموا معنى الحدود السياسية والجغرافية للدولة أصلاً.
«الدولة» كإطار سياسي، غائبة عن مناهجنا الدراسية وغائبة عن إعلامنا وعن مؤسساتنا الشبابية وغائبة عن منظومتنا التشريعية، وغائبة عن إعلامنا الدعوي الديني، بل تجد «الأمة» حاضرة في ذلك الخطاب، ولكنك لا تجد «الدولة» إلا حين تتعرض «الدولة» للخطر، وذلك وقت متأخر وفائت، فأغلب أخطار الدولة جاءت من أبناء تعزز عندهم الانتماء لـ«الأمة» وغاب عنهم الانتماء لـ«الدولة»، فسهل التغرير بهم وتكليفهم بهدمها.
فرج فودة قتلته الجماعات المتطرفة لأنه قال: «المصري القبطي أقرب إليّ من الأفغاني..»، فالمصري ابن بلدي وابن دولتي أشاركه الانتماء الوطني، وذلك يأتي أولاً وقبل شريكي في الانتماء الديني، شريكي الذي أعرفه منذ الطفولة، جاري في الحي، زميلي في المدرسة، لعبنا في أحيائها، وجلسنا على قهوتها معًا، كبرت معه وأعرف أمه وأخته وأباه، إنما ذلك الذي يعيش آلاف الأميال بعيدًا عني ولم أره يومًا، كيف أبديه على أخي المصري؟
قتلته الجماعة لأنه يعرقل ويمنع قيام «دولتها» التي تعتمد على كسر الحواجز والحدود السياسية للدولة المدنية القائمة، وفتح الباب لاستقطاب الشباب من كل الدول، وهذا ما فعلته «القاعدة» في أفغانستان وفي البوسنة والهرسك، والآن في سوريا والعراق فعله «داعش».
لو كان حصن الانتماء للدولة قويًا لما تمكن شبابنا من خلعه ورميه بسهولة والتخلي عنه واستبدال حصن «الأمة» به، الممثل في دولة الإسلام التي رفع رايتها بن لادن والبغدادي.
تلك الثغرة الفارغة المفتوحة على مصراعيها، ذلك الحصن المهدوم بانعدام مفهوم ومغزى ومعنى وأساس قيام الدولة، هو الذي سمح للمواطن بأن ينسل ويتسلل من دولته، وينتمي لغيرها، ذلك الحصن الذي يعزز الروابط الوطنية بين الإنسان ودولته التي يحمل جنسيتها كان ضعيفًا خاويًا، لم تعمل دولنا الحديثة على تقوية أسواره بمشروع المواطنة، فلم تضعه حكوماتنا ضمن أجنداتها وبرامجها، لم تفكر بأهميته وخطورة تركه سائبًا ومفتوحًا هكذا بلا أبواب، فصحونا فجأة على تسلل الآلاف من أبنائنا إلى خارج ذلك الحصن من ثغرة سهلت عليهم إعلان البراء من دولتهم وإعلان الانتماء لدولة فتحت لهم أذرعها وعززت فيهم روح الانتماء لها!!
وعلى فكرة.. الانتماء للتنظيمات المقاتلة محصن جدًا بأنظمة وتشريعات وقوانين وبرامج تخاطب عقول المنتمين لها تمنعهم من الخروج والتسلل للعودة. إنك لتجد الوعي بأهمية «الدولة» حاضرًا عند فكر التنظيمات المسلحة أكثر من الوعي الموجود عند فكر معظم مؤسساتنا الرسمية وحكوماتنا بها!!
ومثل ثغر الانتماء للدولة الذي لم يعزز ولم يحصن، تركت الدولة ثغرًا آخر لا يقل عنه أهمية بلا تحصين، وهو «الهوية الخليجية».
نعم، لدينا هوية خليجية لها حق علينا أن نحميها وأن نفاخر ونعتز بها ونغرسها في نفوس أبنائنا ووجدانهم.
نعم، لدينا لباس ولهجة وتراث مشترك ولدينا روابط دم ولدينا كل مقومات الهوية الخاصة، لا يقف ولا يمنع ولا يحجب ولا يحول اعتزازنا بهويتنا الخليجية أمام امتدادنا العربي أبدًا، كما لا يحول هذا التفاخر بها بين انتمائنا لدين المسلمين، إنما العكس صحيح.
بمعنى أن الهويات العامة الكبرى الواسعة الشمولية كالقومية والدينية، وحتى الاشتراكية والشيوعية، لطالما فرضت علينا التخلي عن هوياتنا الخاصة من أجل الانصهار في البوتقة الكبرى، قومية كانت تلك البوتقة أو دينية أو يسارية، في حين أن هويتنا الخاصة أكدت ذلك الانتماء الكبير وفرضته جزءًا من المكون الخاص الذي شكلها.
من قاد الهويات الكبرى في عالمنا العربي جاء من شمالنا العربي، فتخلق الفكر القومي شاميًا، وكذلك البعثي، وتخلق الفكر الديني الشمولي مصريًا، وغيرها من آيديولوجيات شاملة بنيت كلها على نفي وإقصاء وإنكار أي خاصية لشعوب الجزيرة، فكان على الخليجي أن يخلع عقاله كي يقبل في رحاب تلك الانتماءات.
مرت مياه كثيرة تحت جسور تلك الانتماءات، وأثبتت دولنا الخليجية أنها بذاتها تستطيع أن تكون انتماءً ومقرًا ومهتدى، لا لأبنائها فحسب، بل للعرب العاربة والمستعربة، كيف لا ومن أجل الانتماء لخليجنا تخلى كثير من أبناء القوميات الأجنبية عن أصولهم رغبة في الانصهار والاندماج هنا معنا.
ثغرتان على الدولة أن تضع مشروع تحصينهما على سلم أولوياتها لتمنع تسلل أبنائنا منها وتصد عنها الهجمات التي جعلت من أبنائنا وقودًا لكل مهووس أسس له دولة، ثغرتا «حصن المواطنة» و«حصن الهوية».