خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

ديغول يحتذي بكليمنصو

ما كتبته عن وطنيات وسخريات الجنرال ديغول يذكرني بسياسي فرنسي آخر سبقه في هذا المضمار وربما ورث منه ديغول شخصيته، ذلك هو جورج كليمنصو الذي ترأس الحكومة الفرنسية أثناء الحرب العظمى وما تلاها. غير أنه لم يكن من العسكريين كما كان ديغول. لقبوه بالنمر بسبب ما تميز به من شراسة ونفسية هجومية والتزامه بسياسة راديكالية يدافع عنها كالنمر. رويت عنه حكايات كثيرة تعكس هذه الشخصية.
الحكومات العربية جديرة بتعلم الكثير منه. فقد كان حريصًا على محاربة التسيب في الإدارة. ومن ذلك أنه عندما كان وزيرا للداخلية، أمر جميع مديري الشرطة بعدم مغادرة أماكنهم إلا في نطاق الواجب.
بيد أن أحدهم حاول أن يستغل صداقته القديمة به فترك مكان عمله وجاء لزيارته في ديوان الوزارة. فبادره كليمنصو قائلا: «أهلاً وسهلاً بقائد منطقة السين (منطقة باريس)». استغرب الرجل من ذلك واعتبره مزحة ومداعبة. قال: «لا شك أنك تمزح». أجابه قائلاً: «لا مزحة في الموضوع، فأنا لا أعرف غير قائد شرطة واحد يحق له أن يكون في باريس من دون إذن رسمي، ألا وهو قائد منطقة السين».
«بيد أن لدي أسبابا اضطرارية حملتني على مقابلتك».
نظر كليمنصو لساعته وقال: «ليس ثمة وقت لعرضها. قطارك سيرحل بعد أربعين دقيقة».
لم يبق أمام ضابط الشرطة غير أن يتناول حقيبته ويرحل للحاق بالقطار. ما كاد يصل إلى مكتبه حتى رن التليفون. وكان المتكلم كليمنصو نفسه: «وصلت؟ لم يفتك القطار؟ حسنًا. سعدت مساء»!
بيد أن كليمنصو بدأ حياته العملية كصحافي. حاول أن يسدي بعض النصح للمسيو مانديل عندما دخل هذا في خدمة جريدة «العدالة» التي كان يديرها كرئيس تحرير: «الكتابة سهلة جدًا. فعل وفاعل ونعت». ثم أطرق مفكرًا لهنيهة وأضاف قائلا: «وعندما تريد أن تستعمل نعتًا فاستشرني أولاً»!
وإذا كان البعض قد لقبوا كليمنصو بالنمر، فالآخرون فضلوا أن يصفوه بالثعلب. والبعض الآخر، وأكثرهم من العرب، فضلوا أن يصفوه بالشيطان. احتدم النقاش ذات يوم بينه وبين النائب جوريس، في المجلس الوطني. صاح به كليمنصو «على أي حال فإنك لست بملاك». أجابه جوريس قائلا: «وأنت لست بشيطان». فرد عليه كليمنصو «وما أدراك»؟
كان عظيم الاهتمام بالفنون. وفي عهده أسندت بولندا وزارة الخارجية لعازف البيانو الشهير باديرسكي. التقاه بحكم عمله في مؤتمر الصلح في فرساي وسأله «هل أنت نفس ذلك الموسيقار الكبير؟» قال: نعم. وعاد فسأله ثانية «وأنت الآن وزير خارجية بلادك؟» قال: نعم. قطب كليمنصو حاجبيه ثم قال: «يا لهذا السقوط»!
وفي هذا المؤتمر التقى بالثعلب الآخر لويد جورج فوصفه رئيس الحكومة البريطانية قائلا: «كليمنصو مخلوق عجيب. ففي كل سنة تصغر سنه سنة من عمره وتزداد مخالبه مخلبا».
ولا عجب أنه عندما شعر باقتراب منيته أوصى بأن يدفنوه واقفًا على قدميه! طبعًا وبمخالبه كاملة!