ديانا مقلد
كاتبة واعلاميّة لبنانيّة
TT

سوريو القبعات البيض

يقال إن العقل البشري مبرمج على فهم القصص وحفظها على نحو أعمق وأدق مما يفعل حيال الأرقام والحقائق. حتى الصور والكلمات مهما كانت بسيطة، فمن الصعب أن تثبت في الدماغ ما لم تكن مشبعة بحكايات تساعد عقلنا على فهمها ووضعها في سياق محدد.
هذا هو السبب البسيط والعقلاني الذي يجعل الصحافة، مهما تشعبت مجالاتها وتطورت تقنيًا، حقلاً قائمًا بالدرجة الأولى على القصة والتجربة الإنسانية قبل أي حقيقة أخرى، لأن القصة ببساطة تلائم تركيبة دماغنا وتصل إلى أعماقنا فتترسخ فيها. ولعل تعلقنا الفطري بالحكاية، خصوصًا حين تكون مفرطة في واقعيتها القاسية، هو ما ساعد في تأمين ذاك الاحتضان الإعلامي العالمي لمتطوعي الدفاع المدني السوري، الذين بتنا نعرفهم برجال القبعات البيض.
لم تنل منظمة القبعات البيض جائزة نوبل للسلام كما كان مأمولاً، رغم كل الدعم الذي حظيت به من وسائل إعلام كبرى ومن نجوم ومشاهير ونشطاء ومؤسسات حقوقية من حول العالم. لكن عدم حصول «القبعات البيض» على جائزة نوبل لم يحد من انجراف الرأي العام العالمي، وليس العربي فقط، عاطفيًا وأخلاقيًا خلف حكايات هؤلاء المتطوعين، حتى أن هناك من بارك لهم نيلهم جائزة نوبل الشعبية وليس الرسمية، فلماذا هذا التعاطف؟ كيف لا؟
من منا لم تهزه حتى العمق دموع المسعف خالد وهي تنهمر لحظة إنقاذه رضيعًا من تحت مبنى دمره القصف السوري الروسي وأمضى ساعات لإماطة الركام عنه؟ إنه حتمًا شعور لا يوصف.
ومن لم تهزه صرخات الأطفال حين يجري سحبهم أحياء من تحت الأنقاض؟ ومن منا يمكنه أن ينسى حكايات المسعفين، وكيف بات بإمكانهم تقدير مستوى شراسة القصف ونوعية القتل والدمار الذي سيحصل بمجرد سماعهم صوت الطائرات؟
لا يزال أقوى تلك الأفلام أثرًا هو الذي أنتجته شبكة «Netlix»، والذي عرض بشكل واقعي بالغ الحرفية حكاية عدد منهم. لقد قدم الفيلم الوعاء العاطفي والأخلاقي لحكايات المتطوعين ومحنة السوريين العالقين تحت قصف النظامين السوري والروسي الوحشي، الذي شهد تصعيدًا خطيرًا في الأسابيع الماضية.
الواقع المرعب حين ترويه حكايات متطوعي «القبعات البيض» جعل الناس من حول العالم تشعر بأنها معنية بالوضع السوري، وببطولات هؤلاء الشبان الذين نفذوا عمليات إنقاذ شجاعة، ومنهم من دفع حياته ثمنًا لها.
ليس هذا الفيلم وحده، بل هناك الفيديوهات التي يواظب هؤلاء المتطوعون على التقاطها خلال عمليات الإنقاذ التي يقومون بها رغم الأخطار والدمار.
صحيح أن حملة مضادة خيضت لربط هؤلاء الشبان بالتنظيمات المتطرفة والتشكيك في مصادر تمويلهم، وفي كل حملة التضامن معهم. لكن الواقعية الشديدة التي ميزت عمليات الإنقاذ المصورة والحكايات الكثيرة لهم وللناجين، جعلت الخوذات البيض واحدة من أكثر الحكايات إلهامًا وتأثيرًا من بين القصص التي نتجت عن الحرب في سوريا.
من هنا كان من الطبيعي، بل ومن الضروري أن تلقى الدعم والمساندة.
لم ينل متطوعو «القبعات البيض» جائزة نوبل للسلام كما كان الطموح، لكن الحملة الكبرى التي رافقت ترشيحهم جعلتهم والسوريين المدنيين من أمثالهم يستعيدون موقعهم حين خرجوا قبل ست سنوات يطالبون بإسقاط نظام قاتل قبل أن ينزل بهم ألم عجز العالم عن وقفه.

[email protected]