عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

سوريا في المعادلة الأميركية ـ الروسية

لم يكن غريبا أو مفاجئا أن تنهار الاتصالات الأميركية - الروسية بشأن الأزمة السورية، وأن يعود الطرفان إلى لغة التلاوم وتبادل الاتهامات. فالكلام عن الهدنة وعن تفاهم بين واشنطن وموسكو للتنسيق في جهود تثبيت وقف النار وتهيئة ظروف تحقيق التسوية، كان محكوما بالفشل منذ البداية، والشواهد كانت ماثلة أمام كل من كان يقرأ الصورة على حقيقتها البشعة والمؤلمة.
ليس هناك استراتيجية واضحة، ولا أرضية واحدة أو رؤية مشتركة حول الهدف النهائي. الحسابات متباينة، بل ومتعارضة، وسوريا تدفع ثمن الشدّ والجذب بين واشنطن وموسكو، في ظل عودة أجواء الحرب الباردة والواقع الدولي الراهن الذي تراجع فيه أميركا حساباتها، وتتحسس خطواتها، مع بروز أقطاب جدد ينافسونها ويتحدون هيمنتها عسكريا وسياسيا واقتصاديا. منذ اندلاع الأزمة قبل أكثر من خمس سنوات، كانت أميركا في حالة تراجع على الصعيد الخارجي بعد أن شعرت بضغط الكلفة الباهظة لحربي أفغانستان والعراق. باراك أوباما دخل أصلا إلى البيت الأبيض وفي مقدمة أولوياته إعادة القوات الأميركية من أفغانستان والعراق، وضمن استراتيجيته عدم قيام أميركا بدور شرطي العالم. لذلك لم يكن واردا في حساباته منذ البداية التدخل عسكريا في سوريا، رغم ضغوط الحلفاء والأصدقاء.
روسيا فلاديمير بوتين كانت تعرف ذلك، وكانت في الوقت ذاته تبحث عن استعادة مكانتها بعد التقزيم الذي أصابها مع تفكك الاتحاد السوفياتي، وتريد فرد عضلاتها في مواجهة الغرب الذي تمدد إلى حدودها وضم تحت أجنحته دول فلكها الأوروبي القديم. لذلك شكلت سوريا ساحة مناسبة لبوتين للرد وإظهار قدرة موسكو على التحرك بعيدا عن حدودها لمشاكسة الغرب، أو لمنع سقوط نظام حليف، أو لفرض وجودها على الساحة الدولية.
في ظل هذه الأجواء لم يكن متوقعا أن يصمد «التفاهم» الأميركي - الروسي، ولا اتفاق الهدنة الأخيرة، ناهيك عن أن يصدق أحد التصريحات عن توفير أجواء مؤاتية لتسوية الأزمة. فروسيا تعرف، كما يعرف النظام السوري وحلفاؤه، أن أميركا تعيش حالة «بيات انتخابي»، وأن إدارة أوباما التي لم يتبق لها في البيت الأبيض سوى مائة وستة أيام، لن تقدم على أي تصعيد ولن تبدل فجأة في استراتيجية «الانكفاء» التي انتهجتها حتى الآن، كما أن أي إدارة جديدة سوف تستغرق وقتا قبل أن تلتفت جديا إلى الأزمة السورية. من هنا فإن روسيا ونظام الأسد ينظران إلى هذه الفترة كفرصة مواتية للتصعيد لا للتهدئة.
بعض الدوائر الأميركية ترى أن سياسة «القفاز الناعم» والنفس الطويل التي انتهجها وزير الخارجية جون كيري مع موسكو لم تحقق أي نتائج، بل وفرت غطاء لموسكو للمماطلة الدبلوماسية وكسب الوقت لتعزيز الدعم لنظام الأسد وحلفائه لانتزاع المزيد من المواقع من المعارضة. الواقع أن كيري لم يكن يملك غير الدبلوماسية المكوكية، في ظل موقف رئيسه الرافض «للدبلوماسية العسكرية». وبعد فشل الجهد الأخير، تعالت بعض الأصوات التي تطالب إدارة أوباما بالنظر في خيارات أخرى وتوفير أسلحة متطورة للمعارضة، بينما يرى آخرون مثل الجنرال المتقاعد ديفيد بترايوس المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية أن واشنطن يجب أن تكون مستعدة لتوجيه رسائل قوية لموسكو، وأن تتحرك في هذا الإطار لإنشاء منطقة حظر جوي في سوريا.
هذه الأصوات تبدو مجرد تعبير عن الإحباط إزاء سياسة العجز والتخبط التي ميزت تعامل إدارة أوباما مع أزمة خلفت واحدة من بين أكبر الماسي الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. فليس هناك من يتوقع انقلابا في نهج واستراتيجية إدارة أوباما في هذا الوقت المتأخر من عمرها، أو اتخاذ خطوات مثل فرض الحظر الجوي من شأنها أن تؤدي إلى مواجهة غير مضمونة العواقب مع القوات الروسية في سوريا. فأوباما رفض هذه الخيارات مرارا قبل ذلك ومن الصعب رؤية تزحزحه في أواخر أيامه بالبيت الأبيض عن عقيدته التي تحدث عنها بإسهاب في مقابلته الشهيرة مع مجلة «أتلانتيك» الأميركية العام الماضي، وأكد فيها اعتزازه بأنه لم يستجب لأصوات التدخل العسكري في سوريا، معلنا أن الشرق الأوسط لا يمكن علاجه من مشاكله.
العودة إلى تفعيل دور «المجموعة الدولية لدعم سوريا» هي الخيار المطروح الآن من قبل واشنطن أو موسكو، لكن الأمر لن يعدو أن يكون مجرد شراء للوقت، ومحاولة إظهار أن العالم يفعل شيئا من أجل السوريين. فالظروف والملابسات التي أفشلت كل مساع للحل في السابق، ما تزال ماثلة، بل تزداد تعقيدا في ظل أجواء الحرب الباردة دوليا، والساخنة إقليميا. الانتخابات الأميركية لن تعني تغييرا سريعا، خصوصا إذا انتخبت هيلاري كلينتون. أما إذا حدث زلزال سياسي يدفع بالغوغائي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فإن كل شيء يصبح واردا بما في ذلك إزاء الأزمة السورية.