إميل أمين
كاتب مصري
TT

أموال مشبوهة وعقول مغشوشة

عرفت القرون الوسطى المستشارين الناصحين والمشيرين للملوك والرؤساء بشكل فردي، غير أن مقتضيات الحداثة دفعت في القرن العشرين وما بعده لتجمع هؤلاء وأولئك في إطار ما بات يعرف بـ«مراكز الأفكار» أو الـ«Think Tanks»، والتسمية تعكس المهمة باقتدار، مهمة القوى الضاربة لطرح البدائل الفكرية أمام صانع القرار بنوع خاص، عطفًا على التأثير على الرأي العام بدرجة أو بأخرى.
وباختصار غير مخلٍ، فإن مؤسسات الفكر والرأي هي جهات بحثية مستقلة، تم إنشاؤها لهدف إجراء الأبحاث، وإنتاج معارف متصلة بالسياسة، وهي تسد فراغًا في غاية الأهمية بين العالم الأكاديمي من جهة، وعالم الحكم من جهة ثانية.. ما الذي يدفعنا لفتح هذا الملف الآن ومن جديد؟
هذا ما كشفت عنه وسائل الأعلام الأميركية الأيام القليلة الماضية من فضائح تتصل بدور رأس المال، في إفساد الضمائر وغش العقول، وتحقيقًا لمآرب خاصة بالشركات والمؤسسات المالية والصناعية، بل وهذا هو الأهم العسكرية الكبرى، وهذا أمر ليس مثيرًا أو مريبًا في أميركا «الكوربوراتورية»، أي أميركا التي تتحكم فيها الشركات الكبرى والعابرة للقارات والمتعدية، وكذا متعددة الجنسيات.
الـ«نيويورك تايمز» الشهيرة تحدثنا عن المراسلات الدائرة بين «معهد بروكنغز» أحد أشهر المراكز البحثية الأميركية، وبين مانحين للتبرعات المالية السخية، لا سيما من المجموعة المالية الشهيرة «بي جي مورجان»، ومن «كيه كيه آر»، أحد أكبر البنوك في البلاد، ناهيك عن شركات استثمار عالمية كبرى من نوعية «ميكروسوفت» و«هيتاشي».. ما الذي تكشفه تلك المراسلات؟
إنها تميط اللثام عن دور الوساطة الذي تقوم به مراكز الأفكار الأميركية، في تعريف أصحاب تلك الشركات من كبار رجال الأعمال ومليارديرات البلاد، بالمسؤولين الحكوميين الأميركيين، بل إن عقود التبرع المالي تنص على ضرورة إقامة فعاليات خاصة تضمن للمانحين مزايا في عيون أصحاب القرار الأميركي، انطلاقًا من القاعدة الرأسمالية العتيدة «من يدفع للزمار يحدد اللحن». النموذج الفضائحي لمعهد «بروكنغز» تمثل في الترويج لواحد من أكبر المشروعات الاستثمارية في مدينة سان فرانسيسكو، بولاية كاليفورنيا، رغم أنه يحتوي على أضرار بالغة بصحة الأميركيين.
ينبغي أن نشير هنا إلى أن ميزانية «بروكنجز» تضاعفت خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى 100 مليون دولار، فالأهم هو ضمان رواتب خيالية للباحثين في تلك المراكز، حتى لو كانوا من أصحاب العقول الغاشة والمغشوشة معًا، ومهما كلف الأمر من التحايل على عقول الأميركيين البسطاء، الذين لا دلالة حقيقية عميقة لديهم على الفهم الاستراتيجي لأبعاد المؤامرات الرأسمالية المرتبطة حتى النخاع بالحياة السياسية الأميركية.
الوقائع لا تتوقف عند معهد «بروكنغز»، بل تطال كثيرًا من المراكز البحثية الأميركية، مثل معهد «راند» ومقره كاليفورنيا، وتم تأسيسه بإشراف سلاح الجو الأميركي.
لا تقتصر مساهمات «راند» على تزويد القوات الجوية الأميركية بالحلول للمشكلات التي تواجههم، بل الأهم هو الترويج لصناع السلاح الأميركي من شركات «المجمع الصناعي العسكري الأميركي»، الحاكم الحقيقي والرئيسي في البلاد.
العقول المغشوشة طالت كذلك «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» في واشنطن، الذي لعب أخيرًا دورًا مثيرًا لصالح شركة «جزال أوتوميكس»، تلك التي تروج للطائرات من غير طيار في أفغانستان والصومال والعراق، وغير ذلك.
على أن علامة الاستفهام الأهم في هذا المقام: «هل مراكز التفكير المغشوشة على هذا النحو تفيد أميركا ورؤاها الإمبراطورية؟ أم أن إخفاقاتها عادة ما تكون كارثية الأثر في الحال والاستقبال»؟
أفضل من قدم جوابًا عن هذا التساؤل فيليب دروز فنسان، عالم السياسة الفرنسي الشهير، الذي يدلل بحدث من أشهر وأخطر ما عرفه عالم تلك المراكز، ويقصد به الوثيقة الشهيرة «PNAC» التي عرفها العالم والأميركيون كإعلان مبادئ في يونيو (حزيران) من عام 1997، وتتحدث عن مشروع القرن الإمبراطوري الأميركي، أي صبغ المائة عام المقبلة بصبغة أميركية مطلقة.
الوثيقة هذه وقع عليها كل من دونالد رامسفيلد، وديك تشينى وبول وولفوتيز ولويس ليبى، وذلك ضمن فعاليات فكرية أوسع للمعهد الأميركي للدراسات السياسية، وبقية القصة معروفة للجميع، حيث صار هؤلاء القوة الضاربة لسياسات جورج بوش، في العراق وأفغانستان، التي شكلت ولا تزال مستنقعًا ماديًا وأدبيًا للسياسات الأميركية.
فضيحة ارتباط مراكز الفكر الأميركية بالمؤسسات المالية، مرشحة للتصاعد، وقد تكشف الأيام عن وجود ممولين غير أميركيين، في بلد ديمقراطيته معروضة للبيع، وهو ما يحدث عبر التمويلات الخاصة بالانتخابات السياسية الداخلية، بدءًا من أصغر عمدة في قرية نائية، وصولاً إلى مقعد البيت الأبيض.