أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

التكفير والتطبيع وسطوة المفردات

بعد موجة عمليات القتل التي ارتكبها تنظيم القاعدة في نهاية التسعينات، وارتفع مداها بهجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001. اختلف المنظرون حول ماهية كلمة الإرهاب التي كانت تستخدم على نطاق محدود كما حصل مع الفنزويلي كارلوس، وهل كل قتل يعد إرهابا؟ اللغويون كان تفسيرهم بعيدًا عما يراه السياسيون، اللغوي تعريفه للإرهاب يعتريه الجمود لأنه يفصّل في المعنى اللغوي فقط، أما السياسي فالإرهاب لديه ذو مفهوم مائع، يختلف بحسب الفاعل والمفعول به. بالنهاية وصلوا إلى طريق مسدود، اختفت القيمة اللغوية وظلت القيمة الظرفية التي يحددها السياسي، واكتفى الجميع بأحقية كل سياسي على وصم الجريمة والمجرم بحسب رؤيته التي تفرضها مصلحته.
ما أرجعني لهذه لسيرة هي الهجمات التي تعرضت لها أوروبا مؤخرًا، والموقف المتأني لكل دولة قبل الإعلان إن كان العمل إرهابيًا أم جنائيًا، وهذه العبارة الأخيرة وردت نصًا من متحدث باسم رئاسة واحدة من هذه الدول. فإذن الأحداث الراهنة تعيد صياغة مفهوم الإرهاب مستخدمة الخطاب الإعلامي الذي بتكراره يتحول إلى عرف ثقافي. وما يمكن فهمه من هذا الخطاب أن نية مرتكب الفعل هي التي تحدد إن كان العمل إرهابيًا أم لا وليس نوع الضحية. لي هارفي أوزوالد الذي اغتال جون كيندي لم يسم على شاشات التلفزة الأميركية إرهابيًا، وسرحان سرحان قاتل شقيقه روبرت كذلك، لم تكن مفردة إرهاب قد راجت بعد، حتى العمليات التي كنت تنفذها الفصائل العربية اليسارية ضد أهداف إسرائيلية كان الإعلام يسميها عمليات انتحارية أو هجمات مسلحة. وبهذا المعنى لو استقل رجل شاحنة ودهس 120 شخصًا في تجمع، بقصد استهداف فرد واحد للانتقام الشخصي فلن يسمى إرهابيًا، بل قاتلاً، ولو فعلها وهو يردد عبارات آيديولوجية، وتحديدًا دينية، فهو إرهابي. الإرهاب إذن جريمة سياسية وليست جنائية.
والخوض في بحر المفردات ومهارات تطويعها لا ينتهي، ولكن بحكم الظروف، هي للأسف تمثل في عالمنا اليوم مصدر النوائب والعلل. خذ مثلاً صفة التكفير التي يلقى بها عبثًا في المناكفات والجدالات بين الخصوم، وكيف رغم معناها العظيم باتت هيّنة تقال كالشتيمة. والتكفير كونه ينطوي على معنى ديني، هو أهم ما ترتكز عليه الجماعات الدينية المتطرفة، لأنه رخصة بإباحة دم الضحية، وإن أصبح الدم مستباحًا فهو عرضة للموت سواء من جهة تكفيره أو من العوام الذين قد تأخذهم الحمية والحماسة. والأصل كما يقول العلماء الربانيون أن التكفير ليس أمرًا هينًا ولا يحكم به إلا ذوو العلم الراسخ، ولكنه اليوم أصبح مستساغًا مرافقًا لمشاعر الحقد وتصفية الحسابات. والأكيد أن مقام القائل بالكفر هو المتحكم في آثاره السيئة والمسؤول عنها، نلحظ مثلاً بعض المتدينين من السنة أو الشيعة الذين يوصم كل طرف منهم الآخر بالكفر، بالنهاية المنطقة اليوم غارقة في دماء مسلمين تورطوا في حرب مفردات.
لكن الحقيقة أن الحكومات لها دور كبير في درء هذا السرطان الذي يستفحل، من خلال تجريم ولجم الألسن التي تتطاول على ما في قلوب الناس وتتجرأ على علاقة الإنسان بربه، وهو ما تفعله الحكومات الخليجية التي تعاقب رموز التكفير بالسجن، مع ذلك لا تزال الحاجة قائمة لمزيد من المحاسبة، وهذا أمر ممكن، ولكن ما الحيلة إن كانت الحكومات نفسها، ولنقل السياسي نفسه، هو من يكفر الناس؟ هنا يكمن الخطر العظيم، لأن السياسي اختار أداة الدين ليحصل خلالها على مكتسبات سياسية، والأكيد أنه اختار اللعب بالنار.
خلال سنوات مكافحة العالم للإرهاب، كانت الدولة الوحيدة التي تكفر خصومها هي إيران، تهاجمهم وتعتدي عليهم تحت شعارات دينية ولأهداف دينية. فكانت إيران مقابل الجماعات الدينية كـ«القاعدة» و«داعش» وجبهة النصرة الذين يقاتلون تحت عبارات دينية. بكل أسف انضم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى القيادة الإيرانية في منهجها، ففي خطابه مؤخرًا أمام جمهور كبير من مؤيديه وصم خصومه الأكراد بـ«الكفر»، وأن ما قام به الانقلابيون هو «من أعمال الكفار»، وورد عن مستشاره أرتان آيدن في العام الماضي وصف العلاقة بين العدالة والتنمية والمعارضة بأنها «شبه علاقة المسلمين بمشركي مكة أو كفار قريش». كيف يمكن تحجيم الجريمة إن كان القتل يشرّع من على المنابر؟ هذا أشبه بالمستحيل.
عبارة التطبيع أيضًا أخذت منحى مختلفًا بعدما وضعت في ميزان الدين، فمنذ عقد الرئيس المصري الراحل أنور السادات اتفاقه مع إسرائيل بعودة العلاقة بين البلدين ومن خلاله استرد أرضه شبه جزيرة سيناء، أخذت كلمة تطبيع معنى دينيًا يرادف كلمة «موالاة»، وهي تعني النصرة مع المحبة. سوّقت الجماعات المتطرفة المصرية لهذه المفردة وانتهى الأمر باغتيال السادات في الحادثة المعروفة. هذه الجماعات هي من حددت المعنى وأطلقت الحكم، ونفذته، وفقًا لتفسير منظريها لمفردة تطبيع. مع أن التطبيع لا يفسر من جهة عاطفية بل من جهة مادية بحتة من خلال تحقيق المصالح ودفع الضرر، ومن ذلك أنه لولا تطبيع السادات مع إسرائيل لكان مصير سيناء مثل مصير القدس والجولان، تركة إسرائيلية منذ أكثر من أربعين عامًا. هؤلاء الذين نظروا ضد السادات، ينظرون اليوم مع إردوغان في تطبيعه مؤخرًا مع إسرائيل، ولا نقول سوى الحمد لله أن تقدموا خطوة إلى الأمام وتغيرت مفاهيمهم، وأدركوا أن لتركيا مصالحها الخاصة مع إسرائيل، وأنه يجب ألا يتدخل أحد في اتهام أو تبرئة من يقوم على مصالح دولة وشعب. المنهج نفسه الذي اغتال السادات يصفق اليوم لإردوغان، بلا سيناء ولا جولان ولا قدس، إنما تغيرت أهداف الناطق فتغير تفسير المنطوق.