أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

تركيا.. صراع حزبين من الماضي

مع استمرار الدراما التركية الحالية، من المهم في ذلك السياق أن نضع في اعتبارنا أمرين عند محاولة تحليل الموقف.
الأمر الأول هو أن تركيا دولة كبيرة ذات دور حيوي وحاسم تلعبه في ما تُعرف الآن بأنها أكثر المناطق غير المستقرة وبشكل خطير على مستوى العالم. وتركيا المستقرة، وحتى تلك التي لا تتناسب مع النموذج المثالي للديمقراطية لدينا، تعد من الضرورات الملحة لبناء هياكل جديدة من الاستقرار في الشرق الأوسط ومنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط.
وبالتالي، فمن الأهمية بمكان كبح مشاعرنا عن أي إغراءات تتصل بالشماتة. ولهجة الابتهاج التي تبنتها صحيفة «كيهان» الإيرانية اليومية، والتي تنشر تحت إشراف المرشد الإيراني الأعلى، في تغطيتها للأزمة التركية الحالية، ليست من التصرفات الراقية، ولا مكان لها في عالم الصحافة المحترمة.
والأمر الثاني الذي ينبغي أن نأخذه في الاعتبار هو أن تقليص الأزمة برمتها في مناسبة شنّ المزيد من الهجمات على شخص الرئيس رجب طيب إردوغان قد يعني فقدانًا متعمدًا للأسباب العميقة والحقيقية للأزمة الحالية.
ليس هناك من شك في أن إردوغان يحمل قدرًا كبيرًا من المسؤولية عن الوضع الراهن في بلاده؛ فهو شخصية سريعة الغضب ومتسرعة، وقد أغضب بتصرفاته كثيرين من الذين لم يكن في حاجة لأن يكونوا من خصومه السياسيين. وفي الوقت نفسه، فإن سعيه الغريب للغاية لإحياء الخلافة العثمانية في شكل جديد يسبب الكثير من الإزعاج والضيق، إذ إن محاولة بناء المستقبل بوصفات من الماضي هي على الدوام من قبيل السياسات السيئة.
وليس سرًا أيضًا أن إردوغان كان يستعد لشن حملة تطهير موسعة على خصومه الحقيقيين أو المتوهمين داخل المؤسسة العسكرية، والقضاء، والخدمات العامة، منذ عام 2013 على أدنى تقدير.
كما أن الرجل معرض دائمًا للانتقادات، بسبب حملته الشعواء على وسائل الإعلام ودعمه الضمني، على الأقل، للممارسات الخفية لصالح رفاقه ومؤيديه.
ويفاخر حزبه الحاكم، حزب العدالة والتنمية، بأنه «الحزب الأبيض»، ولكن إردوغان ليس ملاكًا على أي حال من الأحوال.
ويتحمل إردوغان الجانب الأكبر من المسؤولية عن التصدعات التي ظهرت في جميع قطاعات نظام الحكم التركي تقريبًا. فلسانه اللاذع تجاه خصومه وتفوهاته اللفظية العنيفة في المجال العام هي من السلوكيات غير المتوقعة ولا المنتظرة من زعيم ديمقراطي، كما يقول.
في الأسبوع الماضي، على سبيل المثال، حوّل جنازة ضحايا الانقلاب الفاشل إلى مظاهرة سياسية، وكان ذلك من قبل الذوق غير المقبول. وكان من سوء التصرف أيضًا وصفه لخصومه بأنهم «فيروسات تنشر السرطان» (وبالمناسبة، فإن السرطان لا تسببه الفيروسات)!
كما لا ينبغي علينا الاندهاش من قاعدة إردوغان الشعبية. فهو يحظى من دون شك بدعم وتأييد كبيرين في جميع قطاعات المجتمع التركي، وهو الدعم الكافي لدرجة مساعدته على الفوز في أربعة انتخابات عامة على التوالي. ومع ذلك، فإن عدد الأصوات التي حصل عليها كانت تحوم حول نصف عدد الناخبين الأتراك ليس إلا. وحتى ذلك الحين، ليس كل الذين صوتوا لصالح حزب العدالة والتنمية خلال السنوات العشر الماضية، أو نحوها، يتفقون حول أجندة إردوغان أو حزبه أو يتقبلون ويستسيغون أسلوبه في الحكم.
ولكن علينا ألا ننسى أن إردوغان على رأس حكومة تدين بشرعيتها إلى انتخابات تعددية ونزيهة بدرجة معقولة، ولا يجب إزاحة هذه الحكومة من الحكم إلا من خلال انتخابات أخرى، وليس عن طريق الدبابات التي تسير على جسر البوسفور. يمكن تبرير الانقلاب العسكري فقط في حالة أن نظام الحكم القائم يعرقل ويطيح بجميع احتمالات إجراء الانتخابات الحرة والنزيهة. على سبيل المثال، كان ذلك هو الحال في عام 1974 عندما تحرك الجيش البرتغالي لإسقاط ديكتاتورية نظام سالازار. وفي المقابل، كان «انقلاب العقداء» في اليونان في عام 1967 ليس إلا عملاً من أعمال الخيانة للبلاد.
إردوغان هو لاعب سياسي، وإن كان من أهم اللاعبين الحاليين في نظام حكم ممزق بشكل عميق. والوقوف على تلك التصدعات ومحاولة تجسيرها ينبغي أن يكون في قلب جدول الأعمال السياسي التركي.
يقسم المراقبون الخارجيون تركيا إلى معسكرين رئيسيين؛ المعسكر العلماني والمعسكر الإسلامي. ولكن هناك العديد من التقسيمات الفرعية كذلك لدى كل معسكر منهما.
ومع نهاية القرن الماضي، نجح الإسلاميون الأتراك في تشكيل ائتلاف موسع، عندما وافقت 17 جماعة مختلفة على الاندماج والتوحد تحت لواء حزب العدالة والتنمية. وكانت الذراع التركية للإخوان المسلمين إلى جانب حركة «خدمة» بقيادة فتح الله غولن قد لعبا دورًا حيويًا وحاسمًا في قيادة الحزب نحو سلسلة من الانتصارات الانتخابية المتكررة.
ولقد تفكك هذا الائتلاف وانحل، ويرجع السبب في ذلك جزئيًا إلى العداء الشخصي ما بين إردوغان وغولن. وحتى في داخل أروقة حزب العدالة والتنمية، تخشى العديد من الفصائل إلى جانب بعض الشخصيات المؤثرة، أمثال عبد الله غل، وعلي باباجان، وجميل جيجيك، وأحمد داود أوغلو أن يؤدي الاندفاع غير المتبصر نحو الأسلمة إلى عرقلة مستقبل تركيا مع الاتحاد الأوروبي. وليس مؤكدًا على الإطلاق أن يكون إردوغان قادرًا على قيادة الأغلبية حتى داخل المعسكر الإسلامي بغية تثبيت أركان نظام حكمه الاستبدادي، كما يزعم منافسوه. كما أن المعسكر العلماني يعاني من انقساماته كذلك.
لا يزال حزب الشعب الجمهوري متمسكًا بخيوط النزعة الكمالية والاشتراكية. ولكن قاعدة الناخبين المدنية من الطبقة المتوسطة يبدو أنها تبحث عن قراءة جديدة - ليبرالية - للنزعة الكمالية القديمة. والقوميون، وأنصار العرق التركي إلى جانب المحافظين المعتدلين يعملون أيضًا على إعادة تعريف الأجندة العلمانية الموسعة، ولكن من دون قبولهم للنسخة الأبوية التي طرحها أتاتورك من قبل.
أما الطائفة العلوية، وعلى الرغم من أنها أقلية دينية في تركيا، فقد وقفت على الدوام إلى جانب الأحزاب العلمانية خوفًا من أن يزيد نظام الحكم الذي يهيمن عليه الإخوان المسلمون من تقييد حرياتهم، وهو الأمر الذي ظل يحدث طوال عهد إردوغان.
والأكراد، الذين يشكلون نسبة تصل إلى 15 في المائة من تعداد السكان، يعانون من الانقسام أيضًا. وهناك الانفصاليون الذين يحلمون بالدولة الكردية، ويسعون إلى مستقبل لهم في الاتحاد الأوروبي. ثم هناك القوميون الأكراد الذين يحلمون بحشد جميع الناطقين باللغة الكردية في المنطقة تحت راية واحدة في ظل دولة واحدة مستقلة. ومرة أخرى، هناك الأكراد الذين يريدون لأنفسهم دولة كردية شيوعية.
والطائفة العرقية الرئيسية الأخرى في البلاد، وهم العرب، يعانون من انقسام عميق بين أولئك الذين يرون مستقبلهم مع تركيا الحديثة والديمقراطية، وأولئك الذين يحلمون بالانفصال عن الوطن. هذا إلى جانب وصول أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري إلى تركيا، وبعضهم سوف يبقى في تركيا إلى الأبد، ومن المرجح لهم أن يضيفوا طبقة جديدة من عدم اليقين على الوضع التركي الداخلي الغامض.
حاول قادة الانقلاب الفاشل استلهام وصفة من وصفات الماضي، من حيث استخدام المصطلحات التي لم تجاوز عقد الستينات من القرن الماضي. وبهذا المعنى، لم يكونوا أكثر من صورة طبق الأصل من إردوغان نفسه، الذي يتطلع بدوره إلى ماضٍ مُتصوّر وليس محتملاً تكراره في مستقبل البلاد.
ليس بمقدور أي من الحزبين الماضيين أن يتحمل مسؤولية التعامل مع الأزمة التركية الحالية ناهيكم بالتحديات المستقبلية المقبلة. ويجب على كل حزب منهما، رغم كل شيء، أن يكون جزءًا من الحل وليس من المشكلة. أما أصدقاء تركيا، وشركاؤها، وحلفاؤها، فينبغي عليهم المساعدة بدلاً من إلقاء المحاضرات الخاوية عديمة القيمة.
والسؤال الذي تواجهه تركيا والشرق الأوسط وروسيا وأوروبا بسيط للغاية: كيف يمكن لمّ شمل المجتمع المنقسم بشدة مرة أخرى؟