هزم الجنرال التركي مصطفى كمال في الحرب العالمية الأولى. لكن نجا من الموت. فقد استقرت رصاصة طائشة في ساعة الجيب التي يحملها. عاد الجنرال إلى بلده، ليقود شعبه في نضال بالسلاح الأبيض، ضد الغزاة: القوات البريطانية التي نزلت بعد الحرب على شاطئ غاليبولي، معتزمة الزحف إلى إسطنبول لاستعادة عاصمة الإمبراطورية البيزنطية! والميليشيات اليونانية التي نزلت على البر! وفي عزمها استعادة ألق الحضارة الهيلينية (الإغريقية) التي ازدهرت في هضبة الأناضول، قبل وصول القبائل التركية منذ نحو ألف سنة، لتجعل من الهضبة وطنًا قوميًا لها.
نجح الأتراك في تحرير وطنهم، فيما أخفق العرب بعد تلك الحرب، في تحرير وطنهم من الاستعمارين الأوروبي والصهيوني. لأنهم لم يكونوا على استعداد للتضحية بالروح والدم، كما فعل الأتراك الذين قضوا على الميليشيات اليونانية. ثم انقضوا على خنادق الإنجليز في غاليبولي. فذبحوا 60 ألف جندي، فيما قتل ربع مليون مناضل تركي.
أصبح مصطفى كمال أبًا للأتراك (أتاتورك). وعكف على بناء تركيا دولة حديثة. فأصاب وأخطأ: ألغى الحرف العربي. ففقد الأتراك ذاكرتهم. وعجزوا عن قراءة تاريخهم. ألغى الإمبراطورية العثمانية. وحوَّل مساجد إسطنبول إلى متاحف. قطع علاقته مع العرب. ووصلها مع أوروبا. فقبلت أوروبا تركيا جنديًا يدافع عنها في حلف الأطلسي. ورفضت قبولها عضوًا في الاتحاد باعتباره «ناديًا كنسيًا».
أدمن أتاتورك شرب كأس نصره. فمات باكرًا (1938). ورثت الأحزاب القومية العلمانية الكمالية. واعتبر الجيش نفسه حارسًا لها. وقام بسلسلة انقلابات عسكرية على مدى أربعين عامًا. أعدم في أولها رئيس الحكومة عدنان مندريس بتهمة الفساد (1960). وأقصى في آخرها حزب «الرفاه» الإسلامي الذي يقوده نجم الدين أربكان عن الحكم (1997).
لكن زعيمًا آخر أقل ارتباكًا من أربكان ظهر فجأة على المسرح. استطاع رجب طيب إردوغان أن ينفض الغبار عن حزب «الرفاه». ويجدده في حزب إسلامي آخر (حزب العدالة والتنمية). فكيَّف الدين مع العصر. قبل بمبدأ التناوب والتنافس على السلطة، عبر صندوق الاقتراع.
هنا يخسر العرب معركة الحرية التي يكسبها الأتراك للمرة الثانية. فقد ظل الإسلام العربي (الإخواني) حاملاً سيف المنبر الخشبي. معتبرًا حاكميته (الإلهية) السلطة الشرعية الوحيدة. ولم ينتبه لخطأ الإخوان وجموديتهم، سوى حزب «النهضة» التونسي الذي خرج من المسجد الديني إلى المسرح السياسي، معتبرًا نفسه حزبًا ديمقراطيًا، مقتديًا بتجربة الإسلام التركي.
وعى إردوغان ألم فقر أسرته الريفية المتواضعة. فظل لصيقًا بالفقراء والبسطاء. وحتى في مواكبه الرسمية يجد الوقت الكافي، ليجالس إنسانًا في الشارع يتناول معه كوبًا من الشاي. طلق إردوغان الكرة التي أصبح من لاعبيها البارزين، كي لا تشغله عن طموحه السياسي، ليستقر ويتزوج فتاة تركية من أصل عربي.
كانت رئاسة بلدية إسطنبول أول تجربة إدارية وسياسية لإردوغان وحزب العدالة والتنمية. لكن الكماليين استطاعوا أن يزيحوه. بل ويسجنوه بتهمة العداء للعلمانية. غير أن القضاء أنصفه. وأعاد له حريته السياسية. فشق طريقه إلى رئاسة الحكومة عبر نصره الساحق في الانتخابات (2003). ثم في كل انتخابات منذ ذلك الحين إلى الآن.
حقق إردوغان استقرارًا في تركيا. فاجتذب استثمارات عربية وغربية. وكانت دراسته الجامعية للاقتصاد سببًا لاهتمامه بالتنمية. وبالمشروع الاقتصادي الحر. ووجدت الشركات التركية العمل والربح عند الجيران، بدءًا من إيران. وكردستان. والعراق. وسوريا. والأردن. وصولاً إلى دول الخليج.
نزاهة إردوغان ضمنت للمشروع الاقتصادي الحر ثقة المستثمرين العرب والأجانب بالكفاءة التركية الجادة في العمل. الأرباح التي تدفقت صعدت بطبقة البروليتاريا إلى مستوى الطبقة الوسطى. وبات الاقتصاد التركي ثامن اقتصاد أوروبي، من حيث الإنتاج. والأرباح. وتأمين العمل للشباب.
أما في عمله السياسي، فقد تميز إردوغان بقدرة فائقة على المناورة. والمبادرة. وعقد التحالفات السريعة. وتفكيكها بسرعة أكبر. وكان أهم هذه التحالفات مع الداعية الغامض فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة. ويملك نفوذًا في القضاء والجيش في تركيا. وربما علاقة «أمنية» مع أميركا. لكن إردوغان اختلف معه. وفي المحاولة الانقلابية الأخيرة، اتهمه بأنه كان وراءها.
طموح إردوغان السياسي لاستعادة مجد الإمبراطورية العثمانية دفعه إلى اعتماد النظام الرئاسي في الحكم، بدلاً من النظام النيابي. من هنا نشأ اتهام الأحزاب القومية والكمالية له، بالتعالي على تواضعه السابق، مستشهدين بالتضييق على الصحافة. واستقلال القضاء.
بإرادته الصلبة، تمكن إردوغان من تحييد الجيش «الكمالي». ومنعه من التدخل في الحياة السياسية. وتهديد الديمقراطية. وبفن المداهنة السياسية، أوصل إلى قمة القيادة العسكرية ضباطًا أكثر اعتدالاً. وأقل طموحًا. وأوسع تجاوبًا. وقبولاً لزعامته. وسياساته. وبعد فشل الانقلاب الراهن، سيكون إردوغان أكثر قدرة على تصفية الجنرالات الكماليين والقوميين المتعصبين. وإعادة بناء القوات المسلحة كجيش محايد سياسيًا، تمامًا كما الجيوش الغربية الخاضعة للقيادات المدنية المنتخبة شعبيًا.
كتبت هذا الموضوع في «الويك إند»، قبل أن تتضح تفاصيل وملابسات الانقلاب الفاشل. وأود أن أنوه إلى أن ظهور إردوغان المفاجئ بعد إعلان الانقلابيين استيلاء الجيش على السلطة، ودعوته الشعب إلى النزول إلى الشارع، كل ذلك دلل على معدنه الصلب. وتجربته السياسية الواسعة.
تجاوب الشعب مع شجاعة إردوغان. فتم تحييد الدبابات. فلم يستطع الانقلابيون مواصلة قتل المدنيين. أو الإغارة على مقر إردوغان في إسطنبول. وكان هناك تخوف من انقسام الجيوش التركية. بدليل أن القتال استمر بشكل غامض في العاصمة أنقرة التي لم يستطع إردوغان الانتقال سريعًا إليها.
كان الانقلاب التركي بمثابة تحدٍ شعبوي مسلح ضد الليبرالية الديمقراطية (راجع موضوع الثلاثاء الماضي). تأخرت الديمقراطيات الغربية في إدانة الانقلاب. والدفاع عن الديمقراطية. ولم يتأخر إردوغان في إدانة التأخير. وكان عذر أميركا وأوروبا كونهما مشغولتين برثاء المجزرة الرهيبة على الشاطئ اللازوردي في جنوب فرنسا.
أدان إردوغان التقصير. لكن تلفزيون حليفته قطر نقل صورة مبكرة لما حدث في تركيا إلى العالم، قبل التلفزيونات الغربية، ونجاح إردوغان في إحباط الانقلاب، مع نزول الشعب إلى الشارع تحديًا للانقلابيين.
هل يتغاضى إردوغان عن الحملة الأميركية الإعلامية الرسمية التي وصلت إلى الذروة في الأسابيع القليلة الماضية، بحيث وصفته «نيويورك تايمز» بأنه بات في «عزلة». أم تدخل العلاقة التركية / الأميركية عنق الزجاجة الضيق، نتيجة انحياز إدارة أوباما للأكراد؟
خيبة الشماتة الأميركية بإردوغان بدت واضحة في تعليقات ضباط المخابرات الأميركية «المتقاعدين» في محطات التلفزيون، عن استغرابهم لعدم مبادرة الانقلابيين إلى تصفية إردوغان، قبل أن ينتزع المبادرة منهم. يبقى أن يتعلم بشار الذي أطلق من قصره في دمشق رصاص الابتهاج المبكر بالانقلاب التركي، درسًا في أن الشماتة المستعجلة حماقة لا يرتكبها من يمارس فن السياسة.
8:2 دقيقه
TT
خيبة الشامتين بإردوغان
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة