مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

كيف يرى العالم تركيا بعد الانقلاب؟

ماذا يعرف العالم عن تركيا بعد ليلة 15 يوليو (تموز)؟ وربما أهم ماذا كنا نعرف عن تركيا قبل الانقلاب؟
تركيا كانت تعاني من مشكلات كثيرة، معظمها داخلية تخص معادلة الحكم، ويقول الأتراك إن الانقلاب كان معدًا له منذ سنوات. وحديث إردوغان يوحي بأن مشكلته مع فتح الله غولن وحزبه ما زالت قائمة. هذا إضافة إلى المسألة الكردية والإرهاب والمشكلات العالقة. لكن أيضًا وفي نفس الوقت لا بد أن نقرَّ أن تركيا الانقلابات في الثمانينات، غير تركيا الآن. فلقد أصبح هناك مجتمع مدني مستقل عن الدولة بطبقة وسطى كبيرة، وربما لهذا السبب إضافة إلى أسباب أخرى واضحة، مثل أن الفئة الانقلابية لا تمثل الجيش كله إلى آخر الأسباب المعروفة، فشل الانقلاب.
لكن ماذا يعرف العالم عن تركيا الآن؟ أولاً: إن انقلابًا عسكريًا قد حدث من فئة من الجيش استطاعت السيطرة على البلاد في غضون ساعات، ثم فشلت في الاحتفاظ بالسلطة. وهذا أول ما يعني هو أننا أمام جيش به مشكلة حقيقية. جيش كبير ومهم وجزء من تحالف الناتو (حلف شمال الأطلسي)، ولكنه الآن مثار شكوك كبيرة، خصوصًا أن أول قرار اتخذته وزارة الدفاع الأميركية، هو مطالبة قواتها في تركيا بتعديل وضعها الميداني إلى الحالة دلتا لحماية القوات (force protection) وتوقف مهام عملها الأخرى. هذا يعني أن القوات الأميركية الموجودة على الأراضي التركية ضمن القواعد العاملة مع حلف الناتو، تتوقف عن أي مهمة كانت، وتقوم فقط بحماية قواعدها إن هاجمها خطر ما. إذن انتهت على الأقل على مستوى الانطباع العالمي والإقليمي فكرة الجيش التركي كجيش احترافي، إذ نحن أمام جيش تسيّس منه جزء لا بأس به، ويحتاج ترميمًا للمؤسسة والسمعة في الوقت ذاته. وقد يكون سبب العدول عن الانقلاب حديث قادة الناتو العسكريين للقيادات العسكرية التركية، لا أحد بالطبع يستطيع أن يجزم، ولكن فكرة أن الجيش التركي جزء من عمليات الناتو في الفترة المقبلة لن يعول عليها كثيرًا، أو في أحسن السيناريوهات سيكون محل شك كبير.
ثانيًا: كانت تركيا تقترب من التأهيل لدخول الاتحاد الأوروبي، وكان كل ما يقف بينها وبين دخول الاتحاد، قضايا تخص قيم المجتمع التركي وملف حقوق الإنسان، فمسألة الانقلابات العسكرية قد انتهت في التصور الغربي تجاه تركيا. أما اليوم وقد حدث الانقلاب فقد عادت رؤية الغرب لعلاقة الجيش بالدولة أو العلاقات العسكرية المدنية (civil - military relations) إلى نقطة الصفر مرة أخرى. هذا فيما يخص الجيش وصورته في الغرب والعالم.
نقطة أخرى مهمة، كشف الانقلاب أن تركيا تعاني من أزمة حكم، طبعًا كل هذا يحدث في سياق أوسع وهو الحرب على الإرهاب، وخصوصًا ما حدث في فرنسا خلال هذا العام من باريس إلى نيس. مهم أن نعرف أن الفرنسيين أنفسهم وقبل الانقلاب حذروا رعاياهم في تركيا، ومنعوهم من الاحتفال باليوم الوطني لفرنسا، وأغلقت السفارة الفرنسية أبوابها. النقطة هي أن الجيش التركي اليوم الذي كان صِمَام أمن واستقرار لتركيا، أصبح محل شك، حتى من الحلفاء في الناتو.
ثالثًا: العالم اليوم لديه انطباع بأن هناك أزمة حكم في تركيا أساسها الشرعية المنقسمة داخل المعسكر الإسلامي، بين رجب طيب إردوغان، وغريمه فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، وقد اتهم إردوغان، فتح الله غولن، علانية بأنه وراء الانقلاب وطالب أميركا بترحيله أو تسليمه لتركيا، وفتح الله غولن رجل مؤثر في الأوساط الإسلامية التركية، وهو الذي شكل وعي الشباب التركي من خلال مدارسه الإسلامية المنتشرة، ليس في تركيا فقط، وإنما في كثير من الدول الإسلامية.
وكما أن هناك عدم ثقة داخل المعسكر الإسلامي ذاته، هناك أيضًا أزمة معروفة بين الإسلاميين والقوى المدنية العلمانية، وهي أزمة ضاربة بجذورها بين رؤية أتاتورك لتركيا وطبيعة الدولة، ومدرسة نجم الدين أربكان التي خرج من رحمها إردوغان وحزبه.
أزمة الحكم هي التي تؤدي في الغالب إلى تآكل سريع في الشرعية، مما يؤدي إلى استقواء المؤسسات على بعضها بعضًا، وأزمة الحكم التي عانى منها نظام مبارك في مصر عامي 2009 و2010، هي التي أوصلت مصر إلى ما نحن فيه الآن. وتركيا ليست استثناء إقليميًا، وربما كان الفارق أن جيش مصر ظل متماسكًا، ولكن لا شك أن الجيش المصري مرَّ بالاختبار دونما انقسام، وهذا ما لم يحدث في تركيا. ومن هنا تكون تبعات أزمة حكم تركيا أسوأ بكثير من نظيرتها المصرية. أزمة الحكم في تركيا ستستمر لأعوام مقبلة قد تصل لعشر سنوات في أحسن تقدير، إن لم تحل المشكلات التي أدّت إلى هذا الانقلاب.
النقطة الرئيسية هنا هي أن العالم لن يعامل تركيا ما بعد الانقلاب، كما كان يعاملها قبل الانقلاب.
بالطبع هناك سيناريوهات متفائلة ترى أن تركيا خرجت أقوى ما بعد الانقلاب، وظني أن الاختيار الحقيقي هنا هو مدى تدفق استثمارات إلى تركيا من المتحمسين لرجلها القوي، وهل سيشتري هؤلاء أصولاً حقيقية على الأرض في إسطنبول أم لا، وهل سيشترون العملة التركية على أمل أن قيمتها ستزداد في الأسبوع المقبل؟
ظني أن رؤوس الأموال قد تهرب من تركيا للبحث عن أسواق أخرى، وأن السياحة لن تعود لتركيا كما كانت من قبل، فأولى مؤشرات الانقلاب كانت وقف الطيران إلى مطارات تركيا. نعم سيعود الطيران تدريجيًا، ولكن الشركات والسفارات وغيرها، كل ذلك سيأخذ حذره حتى تتبين طبيعة الأمور. الانقلاب انتهى على الأرض، ولكن تبعاته لن تكون كما يتصورها أنصار إردوغان.
وأنا أكتب هذا المقال اتصل بي رجل أعمال تركي غاضبًا من عبارة كتبتها في «تويتر» تقول بالإنجليزية إن تركيا لن تكون مستقرة لعشر سنوات مقبلة، وبعد نقاش طويل اقتربنا من وجهة نظري، عندما سألته هل سيشتري فندقًا في إسطنبول، وهل سيشتري العملة التركية يوم الاثنين، قال للآن لم تتضح الأمور. سألته أيضًا إن كان إردوغان سيصفي من يشك فيهم في الجيش والقضاء، فماذا سيكون ردّ فعل هذه الفئة؟ قال أنا فخور لأني خرجت إلى الشارع ضد الانقلاب، ومع ذلك الأمور لم تنتهِ بعد.
في تقديري أن إردوغان لن يكون أقوى بل أضعف مما كان عليه، لأن المعارضة التي أسقطت الانقلاب سيكون لها كلمتها في معادلة الحكم، لأنها هي التي أعادت إردوغان، وإذا ما بالغ إردوغان في قوته فسيكون مصيره مثل غورباتشوف بعد الانقلاب، فقط سنة واحدة ويغادر المشهد.
ومع ذلك تبقى القضايا البنيوية الخاصة بالمشكلات التركية المعروفة مثل المسألة الكردية والفساد وعلاقة غولن بإردوغان، كلها أمور لم تحل بعد وتبقى عالقة. في التحليل النهائي، العالم اليوم لا يرى تركيا كما كان يراها قبل 15 يوليو، لا سياسيًا ولا عسكريًا ولا اقتصاديًا. وبالطبع الأيام كاشفة.