أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

بريطانيا وأوروبا: مطاردة وهم الانفصال

هيمنت على عناوين وسائل الإعلام هذا الأسبوع حالة من الصراخ، تخبرنا بأن «المملكة المتحدة ترحل عن الاتحاد الأوروبي» أو أن «بريطانيا تخرج من أوروبا».
وتشير العناوين إلى الاستفتاء الذي عقد الخميس الماضي داخل بريطانيا بخصوص الاستمرار أو الانفصال عن الاتحاد الأوروبي. وكما هو معلوم صوتت أغلبية قليلة لصالح الانفصال.
بيد أن هذا لا يعني أن المملكة المتحدة خرجت بالفعل أو حتى ستخرج يومًا من الاتحاد الأوروبي. ورغم أن دستور بريطانيا غير المكتوب لا يحمل بنودًا واضحة بخصوص الاستفتاءات، فإن هناك إجماعا على أن الاستفتاء لا يعدو كونه يقدم رأيًا استشاريًا.
والسبب وراء ذلك واضح، فبريطانيا نظام ديمقراطي تمثيلي يمثل في إطاره البرلمان سيادة الأمة ويسن القوانين. ومن أجل أن تصبح نتيجة الاستفتاء أكثر من مجرد استطلاع رأي رسمي، يجب أن يتحول لقانون. ويعني ذلك عملية تبدأ من إقرار مجلس الوزراء نتيجة الاستفتاء، الأمر الذي لم يحدث، ولن يحدث في ظل حكومة ديفيد كاميرون.
وبمجرد تشكل الحكومة الجديدة، الأمر المفترض حدوثه في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، من الممكن أن يقر مجلس الوزراء حينها نتيجة الاستفتاء، لينتقل إلى المرحلة الثانية من العملية عبر إعداد مسودة قانون لعرضها على مجلس العموم.
في ظل مجلس العموم الراهن، لا يملك مؤيدو الانسحاب من الاتحاد الأوروبي الأغلبية. وبالتالي، فإن أي قانون سيطرح على المجلس بهذا الخصوص لن يثمر شيئا يذكر.
على أي حال، سيصبح الطريق مفتوحًا أمام المرحلة الثالثة وهي تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة، التي تسمح لأعضاء الاتحاد الأوروبي بالتفاوض حول الانسحاب.
إلا أن رئيس الوزراء الجديد قد يشعر بأنه ليس بإمكانه تفعيل المادة 50 من دون تفويض واضح من الناخبين، الأمر الذي ربما يعني إجراء انتخابات عامة ج4ديدة، ربما في مايو (أيار) المقبل، وهو أقرب موعد ممكن من الناحية الواقعية.
ويعني ذلك الدخول في منطقة مجهولة، فمن المحتمل للغاية أن تثمر الانتخابات نسخة جديدة من البرلمان الراهن، لا يملك فيه أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي أغلبية.
في الواقع، لقد أوضحت كثير من الأحزاب، على رأسها الحزب الوطني الاسكوتلندي والحزب الليبرالي الديمقراطي، أنها ستشارك في أي انتخابات جديدة ببرنامج مؤيد للبقاء داخل الاتحاد الأوروبي.
وبحلول ذلك الوقت، ربما يصبح لدى حزب المعارضة الرئيسي - حزب العمال - زعيمًا جديدًا ليعاود اتخاذ موقفه المؤيد بشكل تام الاتحاد الأوروبي، مثلما كان الحال منذ عام 1975.
الملاحظ بوجه عام أن الاستفتاءات الشعبية نادرًا ما تفلح في إطار الديمقراطيات التمثيلية. ويكمن السبب في أن النظام الديمقراطي التمثيلي يربط كل قضية بجميع القضايا الأخرى لإنتاج هيكل كامل. في المقابل، نجد أن الاستفتاءات تركز على قضية واحدة، لتبالغ في أهميتها.
وبطبيعة الحال، نظرًا للطبيعة المتنوعة للنظام الديمقراطي التمثيلي، يشعر كثيرون بإغراء من جانب «الديمقراطية المباشرة» التي تمنح وهم القوة لمن يشعرون بأنه لا حيلة لهم. ويسمح الاستفتاء للمواطن الذي يشعر بالعجز أن يقف متصلبًا في وجه النخب القوية وإظهار أن رأيه هو الآخر له أهميته.
ويعتبر هذا أحد الأسباب التي دفعت قرابة 17 مليون بريطاني لتجاهل جميع التحذيرات الصادرة عن «خبراء» ومندوبين أجانب، وتقريبًا جميع الأحزاب السياسية ضد التصويت بالموافقة.
دعونا نعد إلى العملية، فإنه بمجرد أن يصرح البرلمان للحكومة الجديدة بالدخول في مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي، سيصبح أمام الجانبين عامان على الأقل لصياغة الاتفاق. إلا أن هذه الفترة يمكن تمديدها بناءً على طلب أي من الأعضاء الـ27 المتبقين بالاتحاد. وعليه، فإنه مع افتراض عدم وجود عقبات بالطريق، من الممكن أن تستمر إجراءات طلاق بريطانيا والاتحاد الأوروبي حتى عام 2019 أو 2020.
وحتى بحلول ذلك الوقت، فإن انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي أمر، وانسحاب الاتحاد الأوروبي من المملكة المتحدة أمر مغاير تمامًا.
على مدار العقود الأربعة الماضية، ألزمت المملكة المتحدة نفسها بأكثر من 22 ألف قانون وقاعدة وتنظيم يخص الاتحاد الأوروبي تؤثر على مختلف مناحي الحياة. ورغم أن بعض البريطانيين تأثر سلبًا بهذه القوانين، فإن غالبيتهم انتفعت بها. وبمجرد أن تدرك الغالبية الخسائر المترتبة على إلغاء هذه القوانين والتنظيمات، فإنها قد تعيد النظر في الأمر برمته.
على سبيل المثال، يستفيد العمال البريطانيون من أكثر القوانين المتطورة اجتماعيًا فيما يخص التوظيف والمتمثلة في تلك التي «يفرضها» الاتحاد الأوروبي، رغما عن أنف الحكومات البريطانية التابعة لحزب المحافظين.
من ناحية أخرى، فإن أي شخص لديه دراية حقيقية بالمشهد السياسي البريطاني يعي تمامًا أنه ليست هناك أغلبية كبيرة مؤيدة للانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وحتى لو كان هذا الحال قائمًا، فإن النخبة السياسية بدءًا من رئيس الوزراء كاميرون من الممكن أن تعيد ببساطة سن جميع القوانين والتنظيمات الخاصة بالاتحاد الأوروبي، عبر مشروع قانون واحد ثم الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، مع التعهد بتعديل أو إلغاء، إذا استدعت الضرورة ذلك، أي قانون أو تنظيم يعتبر مضرًا بالمصالح الوطنية البريطانية. وقد كان هذا هو السبيل الذي سلكته غرينلاند، المنطقة المتمتعة بحكم ذاتي في الدنمارك، لتصبح أول عضو بالاتحاد الأوروبي ينفصل عنه.
كما أن حقيقة أن «النخبة» الاجتماعية التي أيدت الانفصال عن الاتحاد الأوروبي بدأت الآن تبدي تراجعًا عن موقفها، وتكشف أنها لا ترغب حقًا في الانفصال عن الاتحاد، بل حتى غوف أحد نجوم حملة الانحساب من الاتحاد الأوروبي، أصبح يتحدث الآن عن إقرار تسوية مع الاتحاد الأوروبي على غرار ما أبرمته النرويج. يذكر أن النرويج وسويسرا دولتان كاملتا العضوية في الاتحاد الأوروبي وتنصاعان لقواعده وقوانينه، وتسددان رسوم العضوية، وتقبلان بمبدأ حرية التنقل لمواطني الاتحاد، لكنهما لا تشاركان في آليات صنع القرار داخل الاتحاد، ولا تشاركان في التصويت داخل مؤسساته.
وسيعني إقرار مثل هذه التسوية ضمان المملكة المتحدة استمرار دخولها للسوق المشتركة، مع قبولها مبدأ حرية التنقل، الأمر الذي يسمح لمواطني دول أخرى بالاتحاد الأوروبي بالاستقرار في بريطانيا.
أما التغيير الوحيد فسيكمن في أن بريطانيا ستفقد حقها في التصويت على قوانين الاتحاد الأوروبي وتنظيماته، الأمر الذي قد يبث بعض الارتياح في بعض النفوس المغرورة والمجروحة من مسألة وجودها في منظومة تحظى في إطاره بريطانيا ومالطا بصوت واحد لكل منهما. وبذلك، فإنه على أرض الواقع ستكون المملكة المتحدة خارج الاتحاد الأوروبي، من الناحية الاسمية فحسب.