أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

الاستقرار.. الكلمة السياسية العصرية الجديدة

في عشاء لطيف إحدى الأمسيات الهادئة قال لنا المسؤول البريطاني الكبير مفسرًا: «أستطيع أن أقول لكم إن كل ما يحتاجه العالم الآن يمكن اختصاره في كلمة واحدة: الاستقرار!».
كانت تلك اللفتة تحمل قدرًا لا بأس به من اللطف في وقتها الراهن، نظرًا لأن الشعب البريطاني، الغارق حتى أذنيه في دوامة الاستفتاء الوشيك على عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي، يتحرك بأسره صوب كل شيء إلا الاستقرار. وبصرف النظر تمامًا عن نتيجة الاستفتاء المقبل، فلن يكون الطريق المفتوح أمام الشعب البريطاني معبدًا وممهدًا بحال. فإذا ما كانت النتيجة هي مغادرة الاتحاد، فسوف يكون من الصعب للغاية على ديفيد كاميرون الاحتفاظ بمنصبه، بالإشارة إلى الصراع البغيض داخل حزب المحافظين الذي يتزعمه. وإذا ما أقر الاستفتاء البقاء، فلسوف يتمزق الحزب منقسمًا على نفسه إثر عدم قدرته على استيعاب ذلك الكم الهائل من الغرور والصلف لتلك الأقلية الضئيلة التي تمثله في مجلس العموم.
والمثير للاهتمام في كل ذلك أن الاستفتاء المقبل كان من بين الأشياء التي وصفها السياسي القديم تاليران؛ إذ قال: «الخطوات غير الضرورية في مجال السياسة أسوأ من ارتكاب الأخطاء». وكانت وصية ذلك السياسي المخضرم الأولى للسياسيين هي عدم القيام بما ليسوا فعلاً بحاجة للقيام به.
لم يكن تاليران شغوفًا بإطلاق الأقوال الحصيفة والآراء الرنانة حتى يتذكره بها من بعده، بل كان يعكس جوهر الديمقراطيات الغربية الحديثة قبل وقت طويل من نضوجها على حالها الذي نعاينه اليوم. وفي مثل تلك الديمقراطيات كانت مهمة الحكومة تنحصر في القيام بالقليل من الأمور، ببطء وروية، مع الأخذ دائمًا في الاعتبار عدم التدخل فيما ليس من الضروري التدخل فيه.
وعلى أي حال، فهناك شيء واحد يقيني هنا: ليس للاستقرار مكان قط في مستقبل المملكة المتحدة القريب، أي ما يعني حتى ميعاد الانتخابات العامة المقبلة، المقرر انعقادها نظريًا في عام 2020.
ولا يبدو أن للاستقرار مكانًا، على الأرجح، في الولايات المتحدة كذلك، على أدنى تقدير، حتى انقضاء الانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وحتى ذلك الحين، وإذا ما حاز دونالد ترامب اللقب الكبير، فلن تشهد واشنطن استقرارًا على أي مسار جديد أو بأي سرعة انطلاق لعام آخر على الأقل.
إنني لا أشارك المتشائمين آراءهم تلك التي تسوي بين انتصار ترامب في الانتخابات، واقتراب أبواق جيش أريحا القديم. ومع ذلك، فإن ذلك الرجل سوف يخوض بنا جميعًا عبر طريق شديد الوعورة والألم.
المشهد السياسي الحالي في أوروبا ليس واعدًا بتحقيق الاستقرار على أي حال، ففي ألمانيا، تقف المستشارة أنجيلا ميركل، التي وصفت قبل عام واحد فقط بأنها «أقوى امرأة في العالم»، على رأس منحدر زلق وسط ازدياد المخاوف بأنها قد تضطر إلى الخروج من الحكومة في الانتخابات العامة المقبلة.
وفي فرنسا، لا يزال المتفائلون غير القابلين للشفاء يظنون أن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند لديه فرصة البقاء أو الوجود في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية المقررة في مايو (أيار) المقبل، فضلاً عن الفوز بولاية ثانية بالأساس.
وليست آفاق الاستقرار بأفضل حالاً في الدول الأوروبية الأخرى الأصغر حجمًا كذلك.
تجنب النمساويون بصعوبة وجود رئيس للبلاد من اليمين المعارض للاتحاد الأوروبي. ولكن الرئيس الحالي يجسد نمطًا آخر من أنماط الراديكالية السياسية باسم القضايا والمخاوف البيئية. ولقد تمزق الثنائي الهش من الديمقراطيين الاشتراكيين والديمقراطيين المسيحيين، الذي حكم البلاد منذ خروجها من الحرب العالمية الثانية، مما سبب فراغًا متسعًا في السياسة الداخلية النمساوية.
ولا تزال إسبانيا غير قادرة على تشكيل حكومة مع الأحزاب الهامشية التي تعبث بالماكينة السياسية الإسبانية قدر ما تستطيع. وفي اليونان، تحاول زمرة حزب «سيريزا» اليساري، وبشجاعة، الحيلولة دون غرق السفينة اليونانية المتهالكة. وفي دول الكتلة الشيوعية السابقة في أواسط وشرق أوروبا، الأحزاب الراديكالية من تياري اليمين أو اليسار، إما أنها على رأس السلطة، أو تحاول الاحتفاظ بالسيف المسلط على رؤوس الحكومات الضعيفة.
وفي بلدان الشمال الأوروبي القديمة، التي كانت تعد من قبل تيار اليسار السلس صورةً من صور الفردوس على الأرض، أنتجت الهجرات الجماعية، وارتفاع وتيرة كراهية الأجانب، وتقلص الخريطة الديموغرافية الأصلية، إلى جانب ردود الفعل من جانب اليمين واليسار على حد سواء، مزيجًا مشتعلاً؛ بل ومتفجرًا، ذلك الذي يمكن بالكاد اعتباره مفضيًا إلى أي نوع من أنواع الاستقرار.
أما بلجيكا، فهي تسدد الآن ثمن عقود من الاحتقان الطائفي الغبي بين المجتمع الفلمندي ومجتمع الوالون، في الوقت الذي تكتشف فيه وبمنتهى الرعب آثار الجالية المسلمة التي لم تتمكن البلاد من استيعابها بكل بساطة.
ومهما بحثنا عن الاستقرار، فلن نجده حتى في روسيا، على الرغم من أن شعبية فلاديمير بوتين تعززها قبضتاه الحديدية والذهبية، التين لا تزالان تثيران كثيرًا من الإعجاب. ومع انهيار أسعار النفط العالمية لمستويات متدنية لم يسبق لها مثيل، مما أدى إلى مشكلات في التدفقات النقدية، بدأت الطبقات الوسطى من المجتمع الروسي في الإحساس بالقلق حول مستقبلها، في حين أن الكرملين، الذي أنفق المبالغ الطائلة على المغامرات العسكرية في جورجيا وأوكرانيا، وفي الآونة الأخيرة، سوريا، بات يواجه الآن كميات هائلة من الفواتير الوطنية مستحقة السداد.
وماذا عن الصين؟ يمكننا القول بكل تأكيد إنه يمكن التنبؤ ببعض الاستقرار هناك. وقد يكون ذلك صحيحًا بعض الشيء. يستمر الحزب الشيوعي الصيني في الاستحواذ على صلاحيات وسلطات واسعة، وهي الصلاحيات الكافية، على أدنى تقدير، لسحق أي معارضة، بينما لا تزال جمهورية الصين الشعبية تتمتع بمعدل نمو اقتصادي سنوي تتوق أوروبا إلى تحقيقه بشدة. ومع ذلك، فإن المجال بأسره مليء بالتوتر في صورة الإضرابات والاحتجاجات الصناعية، وإعلانات الإفلاس، والأحزاب المتناحرة، وارتفاع وتيرة الهجرة من الريف إلى المناطق الحضرية داخل البلاد. فهي، في نهاية المطاف، ليست الصورة السريالية الجميلة للاستقرار على أي حال.
وبقاء روسيا والصين في مجموعة «بريكس»، التي أشيع أنها يمكنها أن تقود العالم، لا يعني أنهما من الدول الأعضاء في النادي التي لا تواجه المشكلات الاقتصادية أو السياسية، فلقد بدأت البرازيل مشوارها نحو المجهول بعد إقالة ديلما روسيف رئيسة البلاد من منصبها، مما استفز حزب العمال الذي تنتمي إليه وزعيمه الملهم «لولا» حتى مستوى التعهد بالإعداد لانتقام ساحق. ومن دول «بريكس» الأخرى لدينا الهند، التي تبدو تستمتع بقدر معقول من الاستقرار الهش في اللحظة الراهنة، وذلك بفضل جهود رئيس الوزراء ناريندرا مودي الذي لا يزال يتحرك في فترة السماح السياسية الحالية.
أما بالنسبة لجنوب أفريقيا، فإن رئاسة جاكوب زوما للأبد، وهو الشخصية الأكثر إثارة للجدل في سياسات ما بعد الفصل العنصري في البلاد، لا يمكن اعتبارها من الماضي بعد، وسط مزيد من الأقاصيص المثيرة حول الفساد وسوء الإدارة.
وفي مواضع أخرى من أفريقيا، هناك ما لا يقل عن 11 حربًا أهلية مستمرة على مختلف درجات ومستويات الشدة، وبعض من نتائج تلك الحروب يمكن ملاحظتها عبر صور من موجات لا نهاية لها من اللاجئين الذين يبلغون شواطئ البحر الأبيض المتوسط في ليبيا.
وماذا عن دول الكومنولث القديمة؟ حسنًا، يبدو أن أستراليا ونيوزيلندا تستمتعان بقدر من الاستقرار على هامش العالم البركاني المشتعل، بينما كندا، تحت حكم رئيس الوزراء الجديد، لا تزال تحاول العثور على سبيل لتنفيذ الأمور بطريقة مختلفة حتى إن لم تكن هناك حاجة إلى ذلك.
هناك بعض المواضع المستقرة على خريطة العالم، تلك التي تشكل أرخبيلاً من الاستثناءات: فهناك هولندا، ولوكسمبورغ، وسويسرا، وليختنشتاين، وأخيرًا وليس آخرًا، اليابان. وهي كلها من قبيل الاستثناءات على القاعدة السائدة في أقاليمها. وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط الكبير، ظهر ما لا يقل عن ست دول فاشلة مع اثنتين أخريين على المسار نفسه مع انعدام إشارات الاستقرار القريب. وحري بتلك الدول القليلة التي لا تزال تتمتع بقدر من الاستقرار أن تصون وتحفظ هذا الكنز بمنتهى العناية والحرص. ومع ذلك، فسوف يكون من الخطأ الفادح لتلك الدول اعتبار أن الركود يساوي أو يعني الاستقرار.
قبل عقد من الزمان كانت أكثر الكلمات الاصطلاحية شيوعًا في المعاجم السياسية العالمية، كلمة «التغيير». أما اليوم، فقد صارت الكلمة هي «الاستقرار»؛ حيث أدرك العالم أن «التغيير» ليس دائمًا أو بالضرورة جيدًا أو مفيدًا.. فهل يجب علينا الانتظار لعقد آخر من الزمان حتى ندرك النتيجة نفسها حيال «الاستقرار»؟