د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

المستقبل في 2030

لا أدري ما سوف يكون عليه حال الدنيا في عام 2030، ولعلنا نعرف بعض الأشياء عن زيادة عدد السكان في الكوكب ربما مليارًا آخر، وسوف نعرف عما إذا كانت خطط البشر للتعامل مع حرارة الأرض سوف تنجح أو أن البشرية ستظل تسير في طريقها كالقدر المحتوم والقضاء النافذ، كما أننا سوف نشاهد اكتمال الثورة التكنولوجية الرابعة التي ستتعانق مع الثالثة الرقمية، دافعة إياها بالذكاء الصناعي وغيره إلى حالة جديدة للإنسان في حله وترحاله وغذائه، وهلم جرًا. أمور كثيرة لن تظل على حالها، ولعل الأفلام السينمائية وروايات الخيال العلمي لن تقصر في مدّنا بخيالات لما سوف يجري بعد ذلك من الصعب تخيلها من الآن لأننا بالفعل نشاهد، وعلى الأرض، وفي الواقع، ما تخيلته الروايات، وحلمت به الشاشات منذ عقود مضت.
الأمر الذي لا نعرفه من المؤكد هو كيف سيتصرف الإنسان في المستقبل، فرغم أحلامنا السابقة، ورغم خيالات التطورات التكنولوجية التي لم تعد خيالاً، فإن الصراع الإنساني، والتنافس البشري المميت، ظل على حاله. ذلك أن كل محاولات المعرفة المستقبلية ظلت في حدود التطورات المادية السلبية والإيجابية، وما يتغير في النفس الإنسانية فجورًا وتقوى ظل لغزًا كبيرًا. ومن يستطلع حال الدنيا الآن، والشرق الأوسط تحديدًا، فلن يعدم مشاهدة حالة موجعة من البؤس والحرب والصراعات الدائمة. وفي كل الأحوال فإن «المتشائمين» كُثر، استنادًا إلى ما نعرف ونشاهد، ومع ذلك فإن هناك أقلية من «المتفائلين» يشاهدون القضية بطريقة أخرى. كيشور ماهبوباني ولورانس سومرز نشرا أخيرًا في مجلة «الفورين أفيرز» الشهيرة مقالاً بعنوان «شيوع الحضارات» (The Fusion of Civilizations)، تحديا فيه ما ذاع قبل عقد من نهاية القرن العشرين من مقولة صامويل هنتنغتون عن «صدام الحضارة» (Civilizations of The Clash). ما جرى في الواقع أن الحضارات الكبرى في العالم تلامست وتقاطعت وتداخلت حتى باتت أهدافها متماثلة، فالجميع يريدون لأولادهم تعليمًا جيدًا، ووظائف مربحة، وسعادة في المعيشة، وحياة منتجة كأعضاء في مجتمعات مستقرة.
ورغم أن في المقولة بعضًا من نفحات فوكاياما عن «نهاية التاريخ» من حيث ذيوع الحضارة الغربية بأصولها في التركيز على «العقل» و«التنوير» و«النهضة» و«الثورة الصناعية»، فإن المقولة الأصلية يمكنها أن تقوم على تلاقح مستمر بين حضارات العالم المختلفة خلال الألفيتين الماضيتين. والنتيجة كانت أن ما أعلنه كوفي عنان سكرتير عام الأمم المتحدة في عام 2000 عن تخفيض الفقر المدقع في العالم للنصف في عام 2015 قد فاق التوقعات. وبناء عليه، وفق ما جاء في المقال المشار إليه، فإن مجلس الاستخبارات الأميركي تنبأ بأن معدل تراجع الفقر المدقع سوف يزيد على ذلك مع حلول عام 2030، وهو ما يشكل تطورًا هائلاً في التاريخ الإنساني. ويمضي المقال لكي يسجل أن الطبقة المتوسطة في العالم سوف ترتفع من 108 مليارات في 2009 إلى 302 مليار في 2020 إلى 409 مليارات في 2030. الأمر المهم هنا أن العالم الإسلامي الذي يبلغ عدد سكانه 106 مليارات ليس استثناء من هذه القاعدة، فالثابت أن الحداثة تنتشر عبر هذا العالم من إندونيسيا إلى المغرب، والحقيقة هي أن «الإسلام يتوافق تمامًا مع الحداثة». والأمثلة على ذلك كثيرة في ماليزيا وقطر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. وإذا كان هناك 30 ألفًا من الإرهابيين المسلمين المنضمين إلى «داعش»، فإن هناك مئات الملايين من المسلمين المعتدلين الذين اختاروا طريقًا لا يختلف كثيرًا عن بقية مناطق العالم.
المناسبة هنا لكل ما سبق، هو أنه وسط الدخان والنيران والحرائق المنتشرة حولنا في المنطقة العربية وأجزاء من العالم الإسلامي، التي أخذت أشكالاً إرهابية وحروبًا أهلية، فإن التطلع إلى المستقبل وبنائه وتحديثه من السبل التي لا تجعل الخلاص من المأساة الحالية أمرًا حتميًا، وإنما تجعل المستقبل مبشرًا. جرى ذلك خلال الشهور القليلة الماضية، عندما أعلنت القيادة المصرية عن «رؤية مصر 2030» التي تسعى خلال عقد ونصف العقد لكي تخرج مصر من حالتها الريعية المعتمدة على دخل قناة السويس، وتحويلات العاملين المصريين في الخارج، والمعونات والمنح الخارجية، إلى حالة منتجة تقوم على تغييرات جوهرية في جغرافيا المحافظات المصرية، والانتقال من التركيز على نهر النيل إلى البحار (البحران الأحمر والأبيض المتوسط) والخلجان الواسعة (خليج السويس وخليج العقبة). تفاصيل الرؤية المصرية قد تحتاج مقالاً آخر، ولكن الجائز أننا ربما نكون على أبواب ثورة كبيرة وعميقة أعلنتها المملكة العربية السعودية على لسان الأمير محمد بن سلمان في حديثه إلى موقع «بلومبيرغ» الاقتصادي، والذي جرى اعتماده من قبل خادم الحرمين الشريفين في 25 أبريل (نيسان) الماضي، تحت عنوان «رؤية المملكة العربية السعودية 2030». والشائع عن هذه الرؤية أنها تسعى إلى تخلص المملكة من الاعتماد على النفط مصدرًا أساسيًا للدخل، والاستعاضة عن ذلك بصندوق استثماري هائل يبلغ نحو تريليوني دولار يولد دخلاً يزيد على 100 مليار دولار سنويًا.
تفاصيل هذه الرؤية هي الأخرى تحتاج مقالاً آخر، ولكن ما يهم هنا أن الهموم الراهنة في المنطقة العربية لم تمنع القادة من تجاوز آلام المرحلة إلى ما بعدها من عملية بناء مستقبل لم يسبق أن جرى الحديث عنه بمثل هذا الإسهاب. والأكثر أهمية هو أن جوهر المشروع هو عملية تحديث واسعة النطاق تستهدف البشر والحجر معًا، وباختصار فإنه يقوم على أن العرب، وفي السعودية على وجه الخصوص، هم جزء من العالم المعاصر، ولا يمكنهم الانفصال عنه، ولا يوجد ما يدعو بالضرورة إلى أن يكون التحديث شهادة بالتخلي عن حضارة عريقة. فالثابت أن الحضارة العربية الإسلامية لا يوجد فيها ما يمنع اعتماد اقتصاد السوق، والتنمية المستدامة، والاستثمار واسع النطاق في أصول مترامية الأطراف باتساع المملكة والعالم العربي.
كلتا الرؤيتين (السعودية والمصرية) تبدأ من المكانة الحالية في العالم، وتنظر إلى ما وراء عقد ونصف العقد من الزمان إلى حيث ينبغي أن نكون مكانة وموقعًا من التطور العالمي. مثل ذلك يحدث من خلال مجموعة من التحولات الجذرية التي تعيد تشكيل الأوطان والمجتمعات من خلال إدارة حديثة للبشر، وكذلك إدارة معاصرة للثروة. وإذا كان هناك من «جسر» يربط الرؤيتين، فهو ليس ذلك الجسر المادي الذي يربط الدولتين فوق خليج العقبة، وإنما الجسر الفكري الذي يستقر على أنه كما لا ينبغي اختراع العجلة من جديد، فإنه لا ينفع إعادة التاريخ مرة أخرى. الحداثة والتغيير الكبير ليسا احتكارًا لثورات لا تعرف طريقها، وإنما «رؤية» واستراتيجية تأخذ الدول والمجتمعات من حيث هي الآن إلى قفزة كبيرة تاريخية بعد عقد ونصف العقد من الآن. هل هذا من الممكن حدوثه؟ الإجابة هي نعم، وإذا لم يكن الآن فمتى؟ وإذا لم يقم بذلك الجيل الحالي من القادة، فمن ذا الذي سوف يقوم به في زمن آخر؟