أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

الوجود الروسي في سوريا: الأهداف المعلنة وغير المعلنة

أي متابع للمشهد السياسي داخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية سيلحظ شعورًا سائدًا بالحرج الغاضب إزاء قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «سحب القوات من سوريا»، الذي يمثل أحدث الحيل التي أخرجها من جعبة الخدع السحرية لديه. والواضح أن طهران ودمشق ليس لديهما أدنى فكرة عن كيفية التكيف مع هذه المفاجأة.
في كلا البلدين، اضطرت وسائل الإعلام المملوكة للدولة للانتظار عدة ساعات قبل الإعلان عن القرار الذي اتخذه بوتين، وحتى لدى الإعلان عن الخبر جاءت صياغته متحفظة. وفجأة، بدا كل الحديث عن الحلف الروسي - الإيراني الذي يعمل في تناغم لدحض «الإرهابيين» داخل سوريا ويقصي الولايات المتحدة وحلفاءها بالشرق الأوسط، أشبه بمجرد ثرثرة طفولية.
ومع ذلك، فإن البعض منا كان مدركًا منذ اللحظة الأولى أن تدخل بوتين في سوريا لم يكن من أجل عيون الأسد ولا آيات الله، وإنما من أجل مصالحه الخاصة فحسب. وهذا تحديدًا ما كتبته في عمود نشرته هذه الصحيفة بتاريخ 30 أكتوبر (تشرين الأول) 2015، وذكرت في مقالي أنه، «في اللحظة الراهنة، لا يمكن لأحد معرفة على وجه اليقين أين سينتهي التدخل الروسي في سوريا، ذلك أن خوض الحروب غالبًا ما يكون سهلاً، بينما دائمًا ما يكون الخروج عسيرًا. وإذا اعتمدنا على التصريحات الصادرة من موسكو، سنجد أن الهدف الروسي هو الحيلولة دون سقوط الرئيس بشار الأسد المحاصر. وبغض النظر عن مدى إمكانية تحقيق هذا الهدف فعليًا، فإنه من الأفضل للأسد عدم الثقة بمثل هذه الاحتمالية».
وعلى امتداد الجزء الباقي من المقال، استعرضت أمثلة للخيانة الروسية في التعامل مع حلفاء «أنقذتهم» موسكو أو حتى فرضتهم على بلادهم، ثم تخلت عنهم بكل بساطة.
من جهته، أعلن بوتين عددًا من الأهداف وراء تدخله في سوريا. وتدعي حاشيته أنه عندما بعث قواته الجوية لقصف حلب، كان الأسد على وشك الانهيار، حيث كان قابعًا داخل ملاذه الدمشقي، عاجزًا عن استعادة أي من المناطق التي فقد السيطرة عليها، في الوقت الذي كان أعداؤه عاجزين فيه عن الاستيلاء على آخر معاقله.
ومع ذلك، فإن تدخل بوتين لم يمنح الأسد بوليصة تأمين على الحياة - حقيقة انعكست على التصريحات الروسية الأخيرة حول أن موسكو غير ملتزمة بالضرورة بإطالة فترة بقاء نظام الأسد. من جانبه، شدد ألكسندر بورتنيكوف، رئيس خدمة الأمن الاتحادية الروسي، على أن تدخل بلاده في سوريا لم يكن بهدف دعم الأسد، وإنما «محاربة الإرهاب». وكثيرًا ما أشار بوتين والمحيطون به إلى «هزيمة وتدمير الإرهاب» في سوريا باعتباره هدفهم. إلا أن ذلك أيضًا لم يتحقق.
في الواقع، لم تقم موسكو بأي تحرك ضد تنظيم داعش، الذي احتفظ بكامل المناطق التي يسيطر عليها داخل سوريا، ولم يتكبد خسائر إلا بالعراق. من جهته، اعترف نيكولاي بانوف، نائب وزير الدفاع، الثلاثاء، بأنه «ما يزال من المبكر للغاية الحديث عن الانتصار على الإرهاب».
في المقابل، شنت روسيا غارات قصف بالغة الوحشية ضد الجماعات الأخرى المسلحة المناهضة للأسد، بما في ذلك التي يفترض أنها جزء من عملية التفاوض. وحتى على هذا الصعيد، لم تفلح روسيا إلا في إلحاق أضرار طفيفة بـ«جبهة النصرة» و«أحرار الشام» وما يزيد على عشرين جماعة مسلحة أخرى، ما ترك سوريا في صورة خليط من «إمارات» متباينة تتمتع كل منها باستقلال ذاتي.
أما الهدف الثالث المعلن لروسيا، وإن كان لم يجر التصريح به سوى همسًا، فهو تحويل حقوق إرساء السفن التي تحظى بها داخل ميناء طرطوس السوري المطل على البحر المتوسط، إلى قاعدة جوية - بحرية دائمة. وقد أخفق بوتين في تحقيق هذا الهدف أيضًا.
ويكمن السبب وراء هذا الإخفاق في أن القاعدة المعرضة طيلة الوقت لهجمات من المنطقة الخلفية لها، لا تحمل أهمية استراتيجية تذكر. في إطار حرب كبرى تشارك بها قوى كبرى من حلف «الناتو»، فإن البحرية الروسية ستضطر للتفاوض للمرور عبر الكثير من المضايق في طريقها من بحر أزوف وجزيرة القرم، مرورًا بالبحر الأسود، ووصولاً إلى بحر إيجه، قبل الدخول إلى البحر المتوسط والاستقرار في طرطوس. أما في إطار الحروب غير المتكافئة، فإنه قد تصعب حماية طرطوس، ناهيك عن الاستعانة بها كنقطة انطلاق رئيسية بأي من المواجهات الاستراتيجية.
بمعنى آخر، مني بوتين بالفشل في تحقيق أي من الأهداف الثلاثة التي أعلنها لدى إرساله قواته الجوية إلى سوريا التي حولت أجزاء منها إلى تلال من الركام والحطام أثارت في ذاكرة المرء مشاهد غروزني أو كابل بعد القصف الروسي. في خضم ذلك، سقط على يديه آلاف القتلى من المدنيين السوريين، وتسبب في دفع أكثر من 100.000 آخرين إلى الفرار من ديارهم.
والملاحظ أن روسيا ذاتها تكبدت خسائر فادحة، بينها 700 قتيل على الأقل بينهم جميع ركاب وأفراد طاقم طائرة نفاثة أسقطها إرهابيو «داعش». كما أصيب مئات آخرون، بعضهم يعاني من إصابات خطيرة. وبذلك يتضح أن التدخل الروسي لم يفلح في تحقيق أي مكاسب ملموسة لموسكو أو أي طرف آخر على الأرض.
الآن، ماذا عن الميزات غير الملموسة التي ربما حققتها سياسة بوتين لروسيا؟ بالتأكيد ساعد تدخل بوتين في سوريا على نسيان الجميع مع جرى في القرم، على الأقل في الوقت الراهن. وبفضل فن تبديل عناوين الصحف الرئيسية، نسي الرأي العام العالمي الحيل التي مارستها روسيا ضد استقلال أوكرانيا ووحدة أراضيها. كما لم يعد أحد يتذكر أن روسيا ما تزال تحتل 25 في المائة من أراضي جورجيا.
كما ساعد التدخل في سوريا بوتين على الترويج لنفسه باعتباره قائدًا قويًا على استعداد لحماية حلفاء موسكو، على النقيض من باراك أوباما الضعيف الذي تخصص في طعن حلفاء بلاده في الظهر.
من بين الأهداف الأخرى غير المعلنة الأخرى وراء التدخل الروسي في سوريا رغبة بوتين في إبطاء، إن لم يكن وقف، مسيرة طهران نحو تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة في أعقاب ما يطلق عليه الاتفاق النووي. وقد أعطى تدخل بوتين في سوريا للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية، علي خامنئي، فرصة التسويق لاستراتيجيته القائمة على فكرة «التطلع شرقًا»، في مواجهة التوجه الداعم للانفتاح على الولايات المتحدة الذي يتزعمه فصيل رفسنجاني المنافس.
وداخل سوريا ذاتها، ربما حمل تدخل بوتين وراءه هدفًا آخر غير معلن: تجديد الاتصال المباشر بالمؤسسة العسكرية السورية على المستويات المتوسطة والعليا. يذكر أن معظم القادة العسكريين السوريين تلقوا تدريبهم بالاتحاد السوفياتي السابق، لكن فقدوا الاتصال بموسكو منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. ووفرت الأشهر الستة الأخيرة لروسيا فرصة تجديد الاتصال معهم، وبالتالي كسب صوت مهم في تقرير الشكل المستقبلي لسوريا، إذا ما نجحت الدولة المنهارة في جمع أشلائها مجددًا.
ومما سبق يتضح أنه رغم إخفاق بوتين في تحقيق أهدافه المعلنة، فإنه ربما نجح في تحقيق - على الأقل - بعض الأهداف الأخرى غير المعلنة.