سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

المنتحران

حمل «مارشال الرايش الثالث» هيرمان غورينغ، نائب هتلر، من الألقاب ما لم يحمله أحد في تاريخ ألمانيا. وعندما اعتقله الأميركيون لدى انتهاء الحرب، كلفوا طبيبًا نفسيًا أن يدرس من خلاله «العقل النازي»: لماذا القتل بلا رحمة والإبادة والتنكيل والتعذيب والتدمير، وماذا يؤثر ذلك على نفسية المرتكب؟
من أمتع ما قرأت كتاب «النازي وعالم النفس» للصحافي الأميركي جون الهاي. قصة غورينغ في معتقل مونهورف في اللوكسمبورغ، وطبيبه الأميركي دوغلاس كيلي. ذُهل كيلي عندما اكتشف أن الرجل الثاني بعد هتلر، وحامل أكبر مجموعة من الأوسمة بعده، كان يمكن أن «يُشترى» بتملق صغير. أقنعه بالتوقف عن الحبوب المخدرة، وأن يخفض وزنه نحو 40 كيلوغرامًا، بمجرد أن قال له إن ذلك سوف يعيده ذلك الشاب الذي كان أفضل الطيارين الألمان.
وزاد الذهول عندما اكتشف كيلي أن زعيم النازيين، الذين اشتهروا بالعبوس والتجهم، يصر طوال الوقت على رواية النكات أمام رفاقه في المعتقل، وأن يفعل ذلك على طريقة المهرجين. وكلما ضحكوا ازداد فرحًا. وكانت نكتته المفضلة كل يوم، التالية: «إذا كان لديك ألماني واحد، كان لديك رجل رائع. ألمانيان، حزمة. ثلاثة ألمان، حرب عالمية. في المقابل، إنجليزي واحد، غبي. إنجليزيان يشكلان فورًا ناديًا. ثلاثة، يصنعون إمبراطورية. إيطالي واحد، مطرب أوبرا. إيطاليان، ثنائي غنائي. ثلاثة إيطاليين، انسحاب من المعركة. ياباني واحد، حالة غامضة. يابانيان، حالتان غامضتان. ثلاثة يابانيين، ثلاث حالات غامضة».
وبين الأشياء الثمينة التي كان يخفيها، كتاب عن مجموعة النكات السرية التي كانت تروى عن الألمان وعن هتلر. لكنه كان ينظر إلى عائلته في منتهى الجدية، ويضع صورة زوجته وابنته على الطاولة الوحيدة في غرفته، ولم يكن يكف عن كتابة الرسائل إليهما. وعندما ولدت ابنته منتصف الثلاثينات، أطلق 500 طائرة من السلاح الجوي في سماء برلين، وقال يومها: لو أن المولود كان صبيًا لأطلقت ألفًا منها.
فيما كان غورينغ في المعتقل يتذكر الأطيان والقصور واللوحات التي يملكها، كان رفاقه من كبار النازيين قد انتحروا. عام 1946 حُكم عليه بالإعدام شنقًا، لكنه أقدم على الانتحار قبل تنفيذ الحكم. أما الدكتور كيلي، فعاش حتى عام 1958 يعاني من الأمراض العصبية لهول ما سمع من مرضاه النازيين. وقد اختار للانتحار حبة سيانيد من التي كان يحتفظ بها غورينغ.