خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

تلخيص الخلاصة

كثيرا ما يسألني الناس عن كتابة العرائض للحكومة. جوابي التقليدي عليكم بالاختصار. أقول ذلك بوحي عملي ككاتب عمود تصله رسائل كثيرة. حالما أفتح رسالة وأجد أمامي ثلاث أو أربع صفحات، أرمي بها في سلة المهملات. وإذا تعطفت على كاتبها فلربما أقرأ منها بضعة أسطر قبل تمزيقها. بعض زملائي يقرأون ما فيها من مديح لهم. أنا ممن يتجاوز ذلك ويبحث عن الشتائم. علينا جميعا أن نتذكر قول السلف بحق البلاغة في الأدب. البلاغة هي بلوغ الغرض في أقل ما يمكن من الكلام.
لا أكاد أجد حكاية تعبر عن حرص المسؤولين على الإيجاز كتلك الحكاية التي مرّ بها محافظ البنك المركزي في بغداد، عندما كان نوري السعيد رئيسا للوزراء. طرحت في تلك الأيام مسألة بقاء العراق في منطقة العملة الإسترلينية أو انسحابه منها. بعد مناقشات طويلة في الأمر، اقترحوا تكليف خبير عالمي ليدرس الموضوع ويعطي رأيه فيه.
تم ذلك، وعهدت الحكومة بالموضوع لأحد كبار الخبراء المختصين بالموضوع. وانكب الرجل على دراسة اقتصاديات العراق وكتابة التقرير والتوصيات بنحو 450 صفحة. تسلمه الموظف المختص وقدمه لمحافظ البنك. ما إن رآه هذا حتى ارتعدت فرائصه ذعرا من حجمه وتفرعاته. التفت إلى الموظف وقال: يعني أنت تعتقد أني ما عندي شغل أو عمل غير قراءة هذا التقرير؟ روح وليدي ولخص لي التقرير بما يتسع له وقتي.
أخذ الموظف التقرير للبيت، وانكب عليه واختصره لنحو ثلاثين صفحة وقدمها لرئيسه. تصفحها المحافظ ثم رفع رأسه وقال له، زين، أنا أقرأ هذي الثلاثين صفحة. لكن تفتكر أن معالي الوزير مستعد لقراءة كل هذا الكلام؟ روح وليدي ولخصها بما يكفي للوزير.
انكب الموظف على الملف ولخصه في تسع صفحات سلمها لمحافظ البنك. شكره على حسن فعله وحدد موعدا مع الوزير. فتح الملف وتصفح التسع صفحات ثم التفت إلى المحافظ شاكرا على التعب. ولكن هذي تسميها خلاصة؟ تسع صفحات مليانة كلام؟ إذا كان بإمكاني أن أقرأ هذه الخلاصة، تعتقد أن الباشا عنده الوقت لقراءتها؟
كان يشير بالباشا إلى نوري السعيد. وهو معروف بكرهه للقراءة. طلب الوزير من المحافظ البنك تلخيص هذه الخلاصة من خلاصة التقرير لصفحة واحدة، ليضمن قراءتها من قبل رئيس الحكومة. عاد المحافظ بالخلاصة إلى مساعده طالبا تلخيصها بصفحة واحدة، ولا يخرج عن نطاقها بسطر واحد.
مرت الأيام ولم يسمع الوزير من رئيس الوزراء أي تعليق على خلاصة التقرير، وما يوصي له الخبير من قرار في مثل هذا الموضوع الخطير. لم يسمع منه شيئا حتى التقى به ذات يوم في إحدى الحفلات الرسمية، فسأله عن الموضوع. أجابه أي موضوع؟
«موضوع الإسترليني أبو صباح. تتذكر؟ أعطيتك خلاصة تقرير الخبير؟»
أجابه رئيس الوزراء: «أوه! أنت جبت لي هذي الصفحة المليانة كلام. أنا عندي وقت أقراها وهالمشاكل كلها عندنا؟ قل لي بكلمتين وخلصني: أش يقول الخبير؟ يعني نبقى بمنطقة الإسترليني أو ننسحب منها؟ كلمة وحدة وبلا كل هالوجع الراس»!
وهذه كانت حكاية خلاصة خلاصة خلاصة التقرير الخطير.