محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

مائة عام من الصراع!

في الحادي عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) 1918 انتهت الحرب العالمية الأولى بسقوط عدد من الإمبراطوريات، كان من بينها الإمبراطورية العثمانية، المهيمنة وقت ذاك على الإقليم الذي سمي لاحقا الشرق الأوسط، ودخلت المنطقة تحت مظلة القوى الدولية المنتصرة. منذ ذلك التاريخ والإقليم يشهد صراعًا مريرًا، على رأسه بالطبع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وتداعياته المدمرة، إلا أن الدرس الأعمق أن كل ما مر بنا من أهوال، خصوصًا بعد صراع متفاقم للهويات العابرة للحدود، لم نستفد منه حتى يومنا هذا. أغلق كثير من الفلسطينيين أبواب منازلهم عام 1948، ووضعوا المفاتيح في جيوبهم على يقين أنهم عائدون لها بعد أيام، أو على الأكثر أسابيع. مر ثلاثة أرباع القرن وما زالت المفاتيح في جيوب البعض، جزء غير يسير منها لحقه الصدأ، وكثير من المنازل والأحياء تغير شكلها إلى غير رجعة.
الصراعات تدوم لسنوات وسنوات، كان كثير من المحللين يغلبون التمني على القراءة الحصيفة للأزمات. عندما بدأت الحرب بين العراق وإيران في 22 سبتمبر (أيلول) 1980 كثيرون توقعوا أن تلك الحرب سوف تستمر أسابيع أو أشهرًا، استمرت سبع سنوات وأحد عشر شهرًا ويوما واحدًا! أما الحرب اللبنانية بين اللبنانيين فقد دامت خمس عشرة سنة وستة أشهر! وكان البعض ينتظر بين شهر وآخر، وسنة وأخرى، أن تضع أوزارها ولم تفعل، بل إن الأمر ما زال مشتعلاً في لبنان تحت الرماد، ويمكن أن يدخل لبنان خمس عشرة سنة أخرى أو أكثر من الصراع القاتل في القريب. سوريا أيضًا توقع البعض أن الحرب الأهلية فيها سوف تنتهي قريبًا عندما بدأت، ولم يخلُ ملف التحليل السياسي من توقعات مكررة، أن تنتهي الحرب بين شهر وآخر.. للمتفائلين أقول وطدوا أنفسكم لسنوات مقبلة حتى لا يبقى في مدن سوريا حجر على حجر، أو بشر يدعو الله بسلام. لا أستثني كلاً من العراق وليبيا، فقد انفرط العقد هناك، وليس في الأفق استقرار قريب، فالاستقرار في تلك النواحي أصبح تاريخًا ماضيًا يتذكره البعض بغموض. تستطيع أن تشعل الحرب في الوقت الذي تختاره، أما أن تطفئها فإن الأمر يحتاج إلى تصميم وإرادة وعزم، وعليك أن توطد نفسك لتلقي لعنتها وحتى فجورها.
الحروب حولنا، عدا ليبيا البعيدة نسبيًا في حساب الجغرافيا، كلها محيطة بالإقليم الخليجي، وغني عن البيان أن أي حرب حتى تحقق فهمًا أفضل لها، ولا أقول نصرًا فيها، عليك أن تعرف حقيقة لا مجازًا عدوك الذي تحاربه، وأن تعرفه في العمق. تقديري أن العدو في كل من العراق وسوريا ولبنان هو ليس من المقيمين هناك، هؤلاء مهما كانت قدراتهم ومواقعهم، هم حطب الفرن وبعضهم وقوده، وليس الغاز الذي يشعل الفرن نفسه. غاز الفرن في يقيني هو في طهران، التي تتعامل اليوم من خلال تابعيها بذلك الحطب لتزيد النيران اشتعالاً! علينا أن نعرف إيران معرفة علمية، ونكتشف آليات التفاعل بين مكوناتها وقدراتها ومواطن ضعفها!
هناك أربع قضايا جوهرية لا بد من الاجتهاد في معرفتها عن إيران اليوم؛ الأولى أن الصراع القائم بين إيران والعرب هو «حرب» تستطيع إيران أن تستخدم حطبًا من آخرين فيها، لكن عليها أن تكون مستعدة لتقديم حطبها مباشرة ودون قناع، كلما وصلت مثل هذه الرسالة إلى الشعوب الإيرانية كان أفضل. إيران في الواقع في حرب مع العرب، ولا مناص أن يأخذ المخطط العربي بعين الاعتبار هذا الواقع الذي لم يبق احتمالاً. والقضية الثانية، أن هناك صراعًا خفيًا وظاهرًا بين قوى إيرانية داخلية، لعل آخر ما ظهر منها على السطح هو خطاب السيد هاشمي رفسنجاني، الذي فاض به الكيل على «هندسة» نتائج الانتخابات المقبلة المزمع إجراؤها آخر هذا الشهر على مقاس البعض من المتشددين وأهل المصالح. لقد تذرع رفسنجاني السياسي برفض قبول ترشيح حفيد الإمام الخميني، للتحذير من «الشر» القادم في إيران، وهو شر حقيقي، ذلك مثال على الصراع الداخلي الذي من نتائجه في مكان ما «تصدير المشكلات إلى الجوار العربي»، بصرف النظر عن الأثمان التي تدفعها الأوطان العربية أو مواطنوها، إلا أن هذا التصدير حتى لو صرف الأنظار لفترة عن الداخل، فإن المشكلات الهيكلية والسياسية (الشرور) التي تواجه نظامًا مثل ما هو قائم اليوم في طهران، سوف تظهر من جديد.
القضية الثالثة أن إيران الدولة تحتوي على عدد من الأعراق والأجناس، معظمها غير محقق لطموحاته التي من أجلها شارك في الثورة قبل أكثر من ثلاثة عقود ونيف، فهذه الشعوب محرومة من الحد الأدنى للمواطنة، وهي المساواة، وتحقيق حد أدنى من العدالة، وما كتب ونشر في الصحف الغربية، إبان زيارة السيد حسن روحاني الأخيرة لأوروبا، من إيرانيين في المنفى أو غربيين متعاطفين معهم، يكفي أن تجعل المراقب يشعر بهذه السخونة السلبية الناتجة من الحرمان في كل من الحريات العامة والتنمية، ليس فقط من القوميات الأخرى، بل حتى من القومية الفارسية، والمتعجل يستطيع أن يرى ذلك رؤيا العين في الحشد التظاهري الذي قابل تلك الزيارة، تذكر بعضنا بحشود كانت تقابل شاه إيران في زيارته للغرب في السنوات العشر الأخيرة من حكمه، فكيف يمكن توظيف ذلك الرفض والتعامل معه بطريقة علمية وواقعية؟ أما القضية الرابعة التي يمكن أن يقال فيها شيء فهي «توقع ارتدادات الاتفاق الإيراني النووي على الداخل الإيراني»، فقد ارتفعت توقعات الناس العاديين في المدن الإيرانية، على أن الاتفاق مع الغرب هو نهاية المشكلات المزمنة، خصوصًا الاقتصادية، وأن المال القادم سوف يكون وفيرًا من أجل تحقيق حد أدنى من الحياة الكريمة، ذلك مع الأيام سوف يتبين عكسه، فلا الإدارة قادرة على كبح جماح الفساد المتمثل مرة أخرى في مسارب للأنفاق تحت علم وهمي (تصدير الثورة) أو فساد هيكلي لدى قطاع واسع من أصحاب السلطة، الأمر الذي يمكن مع مرور الوقت أن يتبين معه أن كل تلك الوعود هي فقط مجرد وعود لفظية، كما كان غيرها، فماذا أعددنا من خطط للاستفادة من التوتر في المكونات الإيرانية الذي سوف تطلقه خيبة الأمل الكبرى، جراء الفشل الاقتصادي؟
نقاط القوة لإيران هي في استخدام عدد من الشعارات لإقناع البعض في الجوار بأنها النموذج! وتستخدم في الترويج لنموذجها العصا والجزرة، وكثيرًا من الشعور أو قل من تضخيم الشعور «بالضيم» في بعض مكوناتنا العربية، ودون مخاطبة هذا الشعور الوهمي أو على الأقل المضخم، عن طريق شرحه وإفشاله، لا يمكن سحب تلك الورقة بنجاح من ملف الدعاية الإيرانية، كما أن الحزم في المواجهة، سواء كان في العراق أو اليمن أو سوريا، هو الذي يرسل الرسالة الصحيحة للجم شهوة التوسع أو تصدير المشكلات، وصرف أثمانها من جيوب العرب دمعًا ودمًا. لم يعد الأمر اليوم يحتمل الاسترضاء أو الدبلوماسية المغلفة بكلمات معسولة، تلك استراتيجية لإطالة الصراع لا تقصيره، في الحزم يقصر الطريق إلى الردع. تلك المعادلة لا تحتاج فقط إلى سلاح، لكن أيضًا تحتاج إلى جهد ثقافي ودبلوماسي وإعلامي غزير، يرسل الرسالة قوية وواضحة للطرف الذي يعتقد أنه يُحرك الحطب!
آخر الكلام:
واحدة من الشماعات التي تعلق عليها إيران كل تدخلاتها العربية هي قضية فلسطين. أفلس حزبها في لبنان أمام الجميع في البقاء هناك، ومن ثم كشف أبو مرزوق الأوراق في حديثه المسرب حول الدعم المزعوم من إيران لحماس.. على الحماسيين أن يتوقفوا عن إعطاء أعداء الأمة أغطية يلتحفون بها أمام العامة!