أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

انتخابات الرئاسة الأميركية.. الحق في الخيارات الخاطئة

على الرغم من أن الوقت لا يزال مبكرًا، وإذا ما استمرت الأمور على ما هي عليه، فلسوف نشهد أقل الحملات الانتخابية الرئاسية إثارة للاهتمام لدى الولايات المتحدة على مدى عقود، وبعد قضاء 10 أيام في الولايات المتحدة خلال هذا الشهر، فلا يستطيع أي زائر ملاحظة أي ارتفاع في مستوى الأدرينالين على كلا جانبي الانقسام السياسي التقليدي في أميركا.
كانت غالبية الحملات الرئاسية الأميركية تسبب كثيرًا من الإثارة لسبب أو لآخر. والأول هو، وباعتباري من السياسيين المراهقين المخرفين، أنني اهتممت بالحملة الانتخابية الرئاسية في عقد الستينات، التي انتهت بترشح السيناتور جون كيندي في مواجهة نائب الرئيس حينئذ ريتشارد نيكسون.
كان كيندي مرشحًا مثيرًا للاهتمام بسبب مظهره الرائع وخطاباته البليغة المنمقة (ولقد اكتشفت بعد ذلك أنه يدين بالفضل في ذلك إلى كتّاب الخطابات ومن أبرزهم تيد سورينسن).
كان من بين أبرز العبارات التي كان يستخدمها جون كيندي: «لا تسأل ما الذي يتوجب على الدولة فعله من أجلك أنت...».، تلك التي أثارت كثيرًا من الاهتمام وقتها على أدنى تقدير. فالدولة ليست إلا فكرة مجردة، في حين أن لفظة «أنت» في العبارة تفيد الواقع والحقيقة. كذلك، تساءلت ما إذا كان السيناتور يحث جماهيره على عدم مطالبة «الدولة» بأي شيء، ولكن بدلاً من ذلك، الانخراط في خدمتها والعمل لأجلها بكل ما تحمل العبارة من معانٍ.
ولقد كان جون كيندي مثيرًا للاهتمام كذلك لأنه كان أول كاثوليكي تتاح له فرصة معقولة للفوز برئاسة الولايات المتحدة. وغني عن القول أن نيكسون كذلك كان مثيرًا للاهتمام، ولكن لأسباب مختلفة للغاية. فبينما كان كيندي يتحدر من عائلة ثرية، كان نيكسون ينتمي إلى أسرة من الطبقة المتوسطة المتواضعة. والحقيقة الكامنة وراء وصوله إلى سدة الرئاسة كانت بمثابة إشارة إلى أن «الحلم الأميركي» الذي يكثر الحديث عنه هو شيء حقيقي وواقعي. ومع عدم تأكيد اتفاق الحزبين الكبيرين حول قضايا السياسة الخارجية، ركزت الحملة الانتخابية على القضايا الداخلية. ومع ذلك، كان محل الاهتمام فيها هو شخصيات المرشحين الكبيرين.
بعد عدة سنوات علمت أن كيندي يدين بفوزه في تلك الانتخابات إلى هامش بسيط من الأصوات عمل على تأمينها لأجله كل من عمدة شيكاغو ريتشارد جيه ديلي والسيناتور ليندون جونسون من تكساس.
سيطرت الحرب الدائرة في الهند الصينية على مناخ الحملتين الانتخابيتين التاليتين، مع حركات الحقوق المدنية في الداخل الأميركي إلى جانب ظهور الجماعات الإرهابية مثل جماعة «ويذرمين» و«بلاك بانثرز».
والحملة التالية على ذلك، التي جاءت بجيمي كارتر رئيسًا للبلاد، كانت مثيرة للاهتمام بسبب أنها أشارت إلى الرفض الشعبي للنخبة السياسية في واشنطن. كما أظهرت أن عبارة «يمكن لأي شخص أن يصبح رئيسًا في الولايات المتحدة» ليست مجرد أكذوبة، فمع كارتر كان يمكن «لأي شخص» بالفعل أن يدخل البيت الأبيض.
كانت حملة عام 1979 الانتخابية التي جاءت برونالد ريغان رئيسًا للولايات المتحدة مثيرة للاهتمام هي الأخرى، بسبب المناخ الدولي شديد التوتر حينها، بما في ذلك الاستيلاء على السفارة الأميركية في طهران من قبل ملالي الخميني، إلى جانب الغزو السوفياتي لأفغانستان، ونجاح المتمردين الماركسيين في عدد من جمهوريات أميركا اللاتينية.
جاءت تلك الانتخابات في وقت بدت فيه الكتلة السوفياتية على وشك الانتصار في الحرب الباردة. وبفضل استراتيجية الانفراج التي وضعها هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك، لم تُطلق يد السوفيات في ما يُعرف بالعالم الثالث فحسب، ولكنهم استفادوا كذلك من الوصول إلى أسواق رأس المال العالمية لتأمين الموارد اللازمة لبناء ترسانات الأسلحة الضخمة وإنقاذ اقتصاد البلاد المحتضر كذلك. وفي حين أن كيسنجر عمد إلى متابعة سراب نظامه العالمي بناء على معاهدة السلام في ويستفاليا في القرن الـ17، كان الزعماء السوفيات يحصدون النقاط من خلال سياسات القرن الـ19 الاستعمارية. كانت انتخابات ريغان حلقة فاصلة في التاريخ.
بوسعي التردد في الموافقة على المزاعم التي تقول إن سياسات ريغان كانت السبب الرئيسي وراء انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية حقبة الحرب الباردة، حيث كان النظام السوفياتي على حافة الانفجار ذاتيًا بسبب التناقضات الداخلية الصارخة، وحقيقة مفادها أن الآيديولوجيا التي تسعى إلى تخطيط سلوكيات البشر لا تستند إلى شيء وليست إلا خيالاً خطيرًا وجامحًا (كأفضل الخطط الموضوعة بين الرجال والفئران...)، ومع ذلك ساعد ريغان في تسليط الضوء على التناقضات السوفياتية، ومجابهة خيالات موسكو الجامحة، والمساعدة في نهاية الأمر في تسريع الزوال الحتمي للاتحاد السوفياتي.
كانت حملة عام 1992 الانتخابية الرئاسية مثيرة للاهتمام كذلك بسبب أنها كانت أول سباق ثلاثي نحو البيت الأبيض خلال عقدين من الزمان، وأول حملة تولي اهتمامًا كبيرًا للقضايا الاقتصادية. وعلى الرغم من فوز بيل كلينتون بنسبة 41 في المائة فقط من مجموع الأصوات، فإن انتخاباته، التي كانت مفاجئة لكثيرين، سجلت إعادة تجديد الأجيال القديمة من النخبة السياسية الأميركية على أرقى مستوى.
وعلى الرغم من أن حملة عام 2000 الانتخابية كانت حملة مملة لأقصى قدر ممكن، فإنها سببت قدرًا لا بأس به من الإثارة حيث جاءت نتيجة للنزاع حول عدد الأصوات في ولاية فلوريدا. وحقيقة أن المرشح الخاسر، وهو نائب الرئيس آل غور، قد وافق على التنازل عن الانتخابات، فإنها إشارة إلى صلابة المؤسسات الأميركية. وفي ذات الأثناء كان آل غور يتابع خطوات نيكسون الذي، رغم إدراكه للتلاعب في الأصوات من جانب معسكر كيندي، تقبل نتائج الانتخابات في عام 1960.
وصفت انتخابات عام 2008 بالإثارة من خلال ظهور شخصية باراك أوباما، أول رئيس أميركي من أصول أفريقية، والرجل ذي الخلفية الإسلامية، ليمثل واحدًا من الحزبين الكبيرين في البلاد، ويفوز بسباق الرئاسة في نهاية المطاف وبمنتهى الروعة.
وعلى الرغم من المرحلة الباهتة المحدقة بالانتخابات الحالية، فإن حملة هذا العام تحمل بعض الميزات المثيرة للاهتمام. فلأول مرة نرى امرأة، هيلاري كلينتون، تبدو شبه متيقنة من وصولها إلى نهاية سباق الانتخابات. ومن شأن ذلك أيضًا أن يجعلها المرة الأولى التي تتمكن فيها زوجة رئيس سابق من الوصول إلى السباق الرئاسي.
والمرة الأولى المكررة في هذا السباق هي للسيناتور بيرني ساندرز الذي يعتبر أول سياسي بارز يسعى للوصول إلى الرئاسة على خلفية سياسية اشتراكية معلنة.
ومن المثير للاهتمام كذلك هذه المرة حقيقة أن كوكبة من الطامحين يمثلون أمة قوس قزح التي باتت أميركا تعبر عنها. وبصرف النظر عن النساء، فلدينا في كلا المعسكرين مرشحون من أصول أفريقية، مثل الدكتور بن كارسون، القريب من قمة قائمة الحزب الجمهوري للطامحين في الرئاسة، كما تحمل القائمة كذلك اثنين من النواب، ماركو روبيو وتيد كروز، وهما من أصول أميركية لاتينية، وممثل المؤسسة القديمة وهو الحاكم جيب بوش، ورجل الأعمال والإعلام الشهير دونالد ترامب، وهو من أبرز المرشحين الحاليين.
حتى الآن. كانت الإثارة الوحيدة التي شهدناها في تلك الحملة هي أعمال ترامب، وخصوصًا وعوده الانتخابية ببناء جدار على طول الحدود مع المكسيك، وطرد 12 مليون مهاجر غير شرعي من البلاد، ومؤخرًا، خطة لمنع كل المسلمين من دخول الولايات المتحدة حتى «نعرف ما الذي يحدث بالضبط».
ووفقا لاستطلاعات الرأي فإن أكثر من 30 في المائة من الناخبين الجمهوريين المسجلين يؤيدون ترامب، حتى في أكثر وعوده إثارة للاستفزاز والجدل. ومن شأن ذلك أن يشكل نسبة 10 في المائة من إجمالي الناخبين بوجه عام، وهي قاعدة جيدة يمكن - اعتمادًا عليها - بناء تحالفات تتمكن من الفوز.
ولقد فاز أوباما من خلال تحالف من الأقليات يتألف من الأميركيين الأفارقة (12 في المائة)، وذوي الأصول اللاتينية (12 في المائة)، واليهود (2 في المائة)، والعرب والمسلمين (2 في المائة)، والأميركيين الأصليين (1 في المائة)، والمثليين (2 في المائة).
وإذا ما قدر لذلك التحالف الانهيار، فسوف تواجه السيدة كلينتون وقتًا عصيبًا في الفوز في نوفمبر (تشرين الثاني) القادم، وبالتالي فهناك فرصة جيدة أمام الجمهوريين للفوز هذه المرة شريطة أن ترامب لا يستمر في حملته بمفرده ويضيع نسبة الـ10 في المائة التي بحوزته.
يصر أغلب المحللين ممن تحدثت معهم في الولايات المتحدة خلال الأسبوع الماضي على أن ترامب ليست لديه أية فرصة في الفوز سواء كمرشح للجمهوريين أو كمرشح مستقل، ومع ذلك فإن الجمال الديمقراطي يتبدى في أن نتائج الانتخابات الحقيقية لا يمكن التنبؤ بها على وجه اليقين.
يصر معظم النقاد ممن تحدثت إليهم على أن ترامب سوف يكون الخيار الخاطئ، ومع ذلك فإن الأمة التي اختارت أوباما، وهو المرشح غير الخبير صاحب الأفكار الغريبة.. لا تحتاج مثل تلك الأمة إلى الخوف من مرشح هاوٍ آخر يحمل أفكارًا شاذة مثل ترامب. وعلى أية حال، فإن الديمقراطية تنطوي على الحق في الخيارات الخاطئة.