رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

أوروبا والعرب وجدليات الاشتراك والافتراق

ما شعرتُ بالغربة والغرابة في مسائل العلاقة بالغرب، كما شعرتُ، بل أحسست، عندما هاجم الداعشيون باريس. وما كنتُ لأشعر بهذا الهول الذي يستعصي على التعقُّل، لولا أننا كنا وقتها نتابع بارتياع مشكلات الهجرة الجماعية السورية إلى أوروبا. كان الألمان يقولون إنهم سيأخذون مليون لاجئ، ويطلبون من الأوروبيين الآخرين جميعًا أن يأخذوا نصف مليونٍ لا أكثر. وإن لم يكن ذلك ممكنًا فينبغي مساعدة تركيا والأردن ولبنان على الاستيعاب أو المزيد من الاستيعاب. في ذلك الوقت كان «داعش» يخطط للمزيد من الدماء في أوروبا وفي فرنسا بالذات، وكان يساعده في ذلك أو يدعوه إليه استخبارات الرئيس بشار الأسد (وربما الروس أيضًا) لتميُّز موقف فرنسا بين المشاركين في الحملة الدولية على «داعش»، إذ هي الدولة الغربية الكبرى الوحيدة التي تسوّي بين «داعش» والأسد في الإجرام. وقد بدأت تضيف لذلك موقفًا سلبيًا من كل الميليشيات الأجنبية الموجودة في سوريا للقتال إلى جانب الأسد أو «داعش». لن يجد الأسد مغاربة ولا حتى سوريين مستعدين للانتحار من أجل نظام أو بحجة الدفاع عن مزارات آل البيت أو عظمة روسيا والرئيس بوتين! أما «داعش» فيستطيع أن يغرف من البحر الإسلامي المتاح من الساخطين وأصحاب أوهام العظمة في الإعلام، وحتى من أولئك الذين يعللون انتحارهم بأنه ضد الجاهلية الغربية، وخضوعًا لأوامر أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين الجديد!
منذ مطلع هذا العام اهتمت المؤسسة الأورو - عربية بمدينة غرناطة الأندلسية الإسبانية ومؤسسة «مؤمنون بلا حدود» بعقد ندوةٍ عنوانها «أوروبا والعرب والمشترك الإنساني» (!) وقد ضحكتُ طويلاً عندما اتصلوا بي للحضور والمحاضرة قبل عدة أشهر، قلتُ للذي اتصل بي: لقد تعذر اللقاء حتى باسم التاريخ المشترك في الأندلس، أو باسم المشترك في المسيحية والإسلام، أو باسم المشترك من خلال الاستعمار والهجرة؟! وعلى أي حال فقد وافقتُ وحضرتُ بالفعل، إذ انعقدت ندوةٌ ليومين ما كان فيها شرقيون غير ممثلي «مؤمنون بلا حدود»، أما الآخرون فهم من المغاربة والتونسيين والإسبان، الباحثين جميعًا - بعد أحداث باريس - وباستماتةٍ عن أي أرضيةٍ أو أفقٍ للقاء ولو كانت أخيرًا إنسانية الإنسان! زاد المحاضرون خلال يومين على العشرين، أما المستمعون والمناقشون فهم طلابٌ ومهتمون من جامعة غرناطة ضاقت بهم جنبات قاعة الجمعية الفسيحة، وبينهم عربٌ من طلاب الجامعة، لكنّ معظمهم من الإسبان.
كان هناك من تحدث عن القرب الجغرافي الذي كان ولا يزال نعمةً ونقمة. فالنقمة كانت بالقرب على الجيوش برًا وبحرًا، والنعمة كانت ولا تزال في العيش المتقارب والمتداني حتى ليصح تسميته عيشًا مشتركًا. لكن كان هناك من تحدث عن الافتراق الذي أحدثته الأديان، أو المسيحية والإسلام. فعندما كانت المسيحية تسود في أوروبا تصاعدت الحروب بين الطرفين، وعندما انحسرت المسيحية، وظلت المرجعية الإسلامية سائدة، ظلت المقاييس مختلفة أو مزدوجة في زمن الاستعمار وما بعده. ولذلك سهُل على الأوروبي في الأزمات أن يعود لاعتبار المسلمين الذين يعيشون معه غرباء بسبب دينهم وعاداتهم، وسهُل على المسلم أن ينفر وأن يخرج على الاندماج المطلوب. بيد أنه دون تخطيط قامت إسبانية مسلمة برفع أفق النقاش الذي قالت إنه عنوان المؤتمر: ليس بعيدًا عن الافتراقات الدينية والثقافية بل في نقاشٍ ثقافي نقدي معها تعالوا نبحث عن المشترك الإنساني. وهي بحثت عن تجليات هذا المشترك في العقود الأخيرة في العلاقات الإسلامية المسيحية، وفي الدراسات النقدية للآيديولوجيات الاستعمارية التي قام بها الباحثون الأوروبيون، وفي الحركات الإصلاحية بداخل الإسلام ومنجزاتها في المشارق العربية والمغربية، وفي الجمعيات الإسلامية التي ترعاها الدول الأوروبية فتنجح حينًا وتفشل حينًا آخر. فالأُفق إذن موجود وهو أُفقٌ إنساني، إنما لماذا لم ينجح في حالتين: حالة الاندماج أو التلاؤم على مستوى العامة، وحالة اندلاع العنف بحيث استسهل شبانٌ عربٌ ممارسة العنف ضد المجتمع الذي تربوا فيه، واستسهل آخرون الهجرة من ذلك المجتمع إلى ما اعتبروه «دار الإسلام الجديد» في بلدين يخربان هما سوريا والعراق؟! وما استطاعت السيدة الإسبانية الإجابة إلاّ بطريقةٍ غير مباشرة عندما روت تجربتها في القاهرة خلال السنوات الخمس الماضية مبعوثةً من اليونيسكو للعناية بالمخطوطات العربية وحفظها وإعادة فهرستها ما بين مصر وتمبكتو.
عاد النقاش إلى التسدد والتشدد في الجلسة الثالثة، عندما بدأ البحث في أمراضنا وأمراضهم التي تحول دون الوصول إلى أُفق أو آفاق المشترك الإنساني. لدى الأوروبيين مشكلات تأزم الاقتصاد والسياسة، واستمرار أوهام المركزية ظاهرة وباطنة، وأخيرًا مشكلات ومفاهيم الأنسنة والإنسانية. ثم إنهم أُرغموا أو وجدوا أنفسهم خلال خمسة عقودٍ من السلام بعد الحرب العالمية الثانية وقد صاروا مجتمعاتٍ تعددية كما لم تكن من قبل. وقد ظنوا تحت وطأة الليبرالية أنّ المواطنة والساحات التي تفتحها والحقوق التي تضمنها كفيلةٌ بحلّ مشكلات التعددية. بيد أن المجتمعات الأوروبية في الحق والحقيقة ما استطاعت ذلك وقد لا تستطيعه. وهكذا فإنها تتلقّى وتنفرض عليها مطالب وتحديات سيصعُبُ عليها إن لم يكن مستحيلاً تلبيتها وسط تفاقُم أحداث العنف والضغط الاقتصادي والثقافي.
ووصل اثنان أو ثلاثة من المحاضرين وبينهم محمد بنصالح ويونس قنديل ومحمد محجوب والسيد ولد أباه إلى أدواء وأمراض المسلمين. هناك تياراتٌ متشددةٌ نمت عبر عدة عقودٍ حتى غمرت الساحات العربية والإسلامية أو أنها اخترقت كلَّ الإسلام. أعداد المخترقين ليست كبيرة، لكنّ مساحة الإسلام السني الشاسعة تجعل من أي عددٍ مهولاً. كيف يمكن استعادة الزمام في الإسلام، وهل يكفي القول إن الإسلام لا علاقة له بهذا القتل الذريع؟ وهل يمكن الحديث عن المشترك الإنساني مع أهل الهويات المتشددة الذين يقتلون المسلمين الآخرين بحجة عدم الأمانة للدين؟
لقد رأيتُ أن إسلامنا يعاني من اختلالين؛ في فقه الدين، وفقه العيش. فقد أرغمت متغيرات العيش بسبب الحداثة والعولمة على نسفٍ لتقاليد وأعراف استتبعت اختلالاً في فقه الدين استنكارًا لمتغيرات العيش. لقد انهار «التقليد» في الحالتين، وكان ذلك سهلاً، لأن الإسلام السني لم يعرف السلطة الدينية. بالطبع يمكن التمرد على السلطة الدينية كما حصل في حالة الكاثوليكية، لكن المقاومة تكون شديدة، وهي لم تكن كذلك عندنا. ومن شقوق التقليد وانهياراته اندلعت الأصوليات القاتلة لناسِنا وفي العالم!
كنا ولا نزال جزءًا من العالم، ولا نريد أن نخاف من العالم ولا أن نخيفه، وإنما نسعى للعيش فيه وبه ومعه. وندوة غرناطة خطوة في هذا السبيل على بُعْد المرمى وصعوبة المسار. فيا للعرب!