سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

القرص والزر

حتى أوائل الستينات، كان عليك إذا أردت أن تتحدث من بيروت إلى صديق يقيم في عاليه، على بعد 20 كيلومترًا، أن تطلبه عبر «السنترال»، أي من مركز الهاتف، لأن الخطوط لم تكن مباشرة إلا في بيروت. وكانت الهواتف ضخمة سوداء، وأرقام القرص تدار بالإصبع. وبعد فترة طويلة أحيل هاتف القرص الدائري إلى المتحف، ووصلنا هاتف الأزرار.
لم يكن الأمر بهذه البساطة في أميركا، حيث اختُرع. في مقال في «نيويوركر» صيف 1959 أن شركة «بل» للهاتف «تحلم، مجرد حلم» باستبدال هواتف الأزرار بهواتف الأقراص، وقد بدأت التجارب عليها في ولايتين من دون تفاؤل كبير بالنجاح. لكن المهندس المسؤول عن المشروع في شركة «بل» كان يخشى من «تأثير نفسي» على الاختراع، سوف يعوّد الناس على السهولة والكسل!
جيل أبنائنا لم يرَ هاتف القرص إلا في الصور والمجلات التاريخية. وجيل أبنائهم اليوم يفيق على هاتف جيب يلتقط الصور وينقل الأخبار ويحفظ الكتب ويسجل البرامج ويوفر آلاف الصحف، وإذا شئت، لا تدير رقمًا ولا تضغط زرًا، فقط تتلو عليه اسم الصديق الذي تريد التحدث إليه، وتترك الباقي عليه، أي على هذه الآلة التي ما زلنا نسميها هاتفًا، وكان الساخرون السوريون يسمونها «الوشواشة» على أساس أنه ليس عليك أن تصرخ لكي يسمعك ابن عمك في كاليفورنيا.
مقال الـ«نيويوركر» عام 1959 يتحدث عن الاختراع الجديد بلغة احتفالية. ابتهاج بلا حدود وإعجاب هائل بتطوّر العلم: بدل أن تدير الرقم، تضغطه، يا للروعة. الآن تقدم «آبل» كل عام تقريبًا، جيلاً جديدًا من «آيفون» الساحر، وتصدّر منه ملايين النسخ، ولكن لا شيء يفاجئ الناس أو يدهشها. كل شيء متوقع. والسيارة بلا سائق أصبحت على بعد خطوتين، كما كانت أم كلثوم تغني للحب الموعود: بيني وبينك خطوتين. وتصور لو أردت الحفاظ على اللغة في هذه الحال، أن غنت سيدتنا الكبرى: «بيني وبينك خطوتان». لم يغنِّ أحد مثلها الشعر الفصيح، ولا غنّى أحد مثلها الشعر العامي. يقدم العالم لنا كل عام اختراعات جديدة، وتبقى بعض الأصوات والهامات والقصائد والروايات بلا وريث.