رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

دولة الحكم الصالح ودولة التقدم النوعي

لفتت زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى الولايات المتحدة أنظار المراقبين والاستراتيجيين لسببين اثنين: أنها الزيارة الرسمية الأولى له إلى خارج المملكة، بما يعنيه ذلك من أهمية يراها الملك في العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. وقد ذكر الملك نفسه في جلسته مع الرئيس أوباما بدايات العلاقة بين البلدين بلقاء الملك عبد العزيز مع الرئيس روزفلت عام 1945 في أحد مرافئ البحر الأحمر. ومنذ الأربعينات من القرن الماضي تعددت وجوهُ التعاون بما يتجاوز الملفّ النفطي إلى التوجهات السياسية والاستراتيجية، ومواقف الطرفين في الحرب الباردة، والتشاور المستمر في حروب المنطقة وبخاصة الحروب الإسرائيلية، ثم الحروب من حول العراق وبداخله، وأخيرًا الحرب في سوريا. وما اتفق الطرفان بالطبع في كثير من هذه المواضيع، بيد أن التأزم ما وصل إلى العلن إلاّ أيام الملك فيصل (الحظر النفطي)، ثم في عهدي الرئيس أوباما الأول والثاني، بسبب الموقف من إيران، والموقف في سوريا، والتردّي في أوضاع الشعب الفلسطيني. ولذلك تأتي زيارة الملك للولايات المتحدة بعد اجتماع قادة الخليج بالرئيس أوباما في شهر مايو (أيار) الماضي، ليس للإيضاح والتفسير فقط، بل للتصحيح، واستعادة المجالات المشتركة للتعاوُن، وكما قال الملك في حديثه، من أجل الاستقرار في المنطقة، والسلام في العالم. وقد أوضح الرئيس أوباما في كلامه الختامي أنّ المشكلات التي نوقشت: الأوضاع الإنسانية والسياسية في اليمن، والأوضاع في فلسطين واستعادة محادثات السلام وحلّ الدولتين، والأوضاع في سوريا، وسُبُل التعاون لكفّ إيران عن التدخلات التخريبية في الشرق الأوسط. كل هذه الأمور تفيد شيئين: أنّ هناك تغييرات في سياسات الانكفاء الأميركية، وأنّ التأزم في العلاقات بين الدولتين تضاءل أو زال.
أما السبب الثاني لاهتمام المراقبين بزيارة الملك فيتمثل في الأبعاد والمجالات الاقتصادية الكبيرة، التي دُعي الأميركيون دولةً ورجال أعمال للاستثمار في المملكة بمقتضاها. ويبلُغُ من ضخامة العروض أنّ أولئك المراقبين حسِبوا أنها منافسةٌ بين إيران والسعودية على اجتذاب استثمارات الولايات المتحدة ورضاها. فإيران إذا انجلى الحصار من حولها ستكون لديها أموال طائلة، وهناك إمكانياتٌ كبرى للشركات الأوروبية والأميركية للاستثمار فيها، فضلاً عما تجنيه الصين وروسيا وتركيا وألمانيا حاليًا.
بيد أنّ المراقبين ما لفتت انتباههم مسألةٌ ثالثةٌ تتجاوز إغراء الولايات المتحدة بالخروج من جمودها وانكماشها تجاه تفاقم عدم الاستقرار بالمنطقة بسبب الإرهاب، والتدخل الإيراني، وهي ذات شقين؛ الشق الأول: تثبيت أُسُس ودعائم دولة الحكم الصالح والرشيد، والشق الثاني: الانطلاق نحو تقدمٍ نوعي في شتى المجالات خلال عقدٍ أو عقدين، بحيث تصبح السعودية قطبًا في عوالم المتقدمين، شأن النمور الآسيوية، وبحيث تتنوع مصادر الدخل، وتصبح التكنولوجيات المتقدمة والنوعية هي الرافعة في عالم الغد والمستقبل، نتيجة هذا الاستثمار الكثيف في الإنسان.
في الشق الأول، وأعني به دولة الحكم الصالح، فإنّ المملكة ركّزت في السنوات العشرين الماضية على حقوق المواطنين وخدماتهم في البنية الأساسية، وفي التعليم، وفي الصحة، وفي الإدارة، وفي إيجاد فُرَص العمل للشباب. ونحن نعلم أنه في الفترة المذكورة بُنيت عشراتُ المدن، وامتدت شبكات الطرق والكهرباء والمياه، وتتزايد كلَّ فترة شبكات السكك الحديدية. وفي رحلة الملك سلمان بن عبد العزيز وجدنا أنّ المملكة لا تزال مهتمةً بالابتعاث، وبتعديد مجالات التعليم والتدريب، فقد ألحق الملك مئاتٍ من الطلاب السعوديين الذين يدرسون على حسابهم بالبعثات الرسمية. وظهر اهتمامٌ بارزٌ بالإنفاق على التدريب، وتغيير الاختصاصات، وصنع الكوادر الجديدة بالتعاون بين الحكومة والقطاع الخاص والمستثمرين الأميركيين. أما المجال الآخر البارز فهو المجال الصحي، الذي جرت في نطاقه عدة اتفاقياتٍ لإحداث أمرين: تطوير الخدمات الصحية والطبية بالداخل، وخلْق مرافق جديدة، ورفع كفاءة القطاع (أسرّة وأطباء لكل ألف مُواطن) - والاهتمام باقتصادات الصحة إذا صحَّ التعبير، باعتبار أنّ الخدمات الطبية صارت مرتفعة الكلفة في سائر أنحاء العالم، ولا بد من الوصول إلى شروطٍ تحفظ مستوى العناية، ولا تُرهق ميزانيات الأفراد أو الدولة.
إنّ كلَّ هذه الأمور: البُنى التحتية والأساسية، والتعليم، والصحة، وإيجاد ملايين فُرَص العمل، وإقامة مؤسسات خدمية وإدارية قوية ومستقرة، وفرض الأمن والاستقرار، كلُّ ذلك يدخل ضمن واجبات ومهمات الدولة الوطنية، دولة الحكم الصالح والرشيد. ولا يعني ذلك أن تأمين الحقوق والخدمات الأساسية لا يصنع تقدمًا نوعيًا. فنحن نعرف أنّ الاستقرار في العمل الخدمي والمؤسسي وانتظام الأسواق، وحريات الأعمال، كلُّ ذلك يصنع تنميةً مستدامةً هي البوابة الشرعية للتقدم النوعي، كما حصل في عدة دولٍ كبرى ووسطى.
لكنّ ما أُريدُ بلوغه في هذا الشقّ من المداخلة: مسألة التقدم النوعي بالذات، والمجالات الاستراتيجية الكبرى التي تعمل المملكة على الدخول في شراكةٍ مع الولايات المتحدة فيها في مجالات الطاقة، والتطوير النوعي، وتحويل المملكة إلى مركزٍ بارزٍ للتكنولوجيات المتقدمة في المنطقة والعالم. تملك المملكة الوسائل، وهي تعمل على استكمال امتلاك الخبرات. وإذا جرت متابعةُ هذه الاستراتيجيات نكون أمام فقزةٍ نوعيةٍ تغيِّر وجه المملكة والعالم العربي. فالأمر رهنٌ في هذا التقدم النوعي بالتصميم والعزيمة، وبصَون الأمن والاستقرار لصنع الجديد والمتقدم.
لا تحتاج السعودية إلى مزيد من الثناء، لكنني أردتُ أن أذكر نموذجًا لدولة حكمٍ صالح، في وقتٍ عزَّ فيه هذا النموذج، وسط فشل الدولة الوطنية العربية في زمنها الثاني (زمن الأسدين، وصدام، والقذافي، والنميري والبشير، وعلي عبد الله صالح، ونوري المالكي). وإنه ليبلغُ من سوء الأوضاع وضياع المقاييس أن يقول رئيس الجمهورية العربية السورية إنّ الأحقَّ بوطنه ليس هو الذي يملك جنسيته، ويعيش على أرضه، بل هو الذي يدافع عنه (وهو يقصد بذلك الروس والإيرانيين وحزب الله والشيعة الأفغان الذين جاءوا للقتال معه ضد شعبه!) وإنّ المرء ليعجب من هذا الحاكم الوطني القومي، الذي شرَّد اثني عشر مليونًا من شعبه بين الداخل والخارج، وها نحن نشهد هذه الأيام فضيحة الفضائح بهروب مئات آلاف السوريين باتجاه الغرب الأوروبي، ويريدنا الروس أن نتعاون مع الأسد وإيران في مكافحة الإرهاب، وأي إرهاب أفظع من هذا القتل والتهجير!
وتنهض السعودية اليوم بعبء قيادة الدفاع عن أمن العرب واستقرارهم في اليمن، وفي سوريا، وفي لبنان، وفي العراق. وها هي توشك على إقامة القوة الدفاعية العربية المشتركة، باعتبار ذلك إطارًا مستقبليًا لتكتل عربي، يتجاوز المخاض الراهن، ويسهم في صنع مستقبلٍ أفضل للعرب في هذا العالم.