محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

دلع ثقافي

قبل أسابيع تدلعت المذيعة وقالت كلمتها القصيرة في برنامج سينمائي مقدّم على إحدى قنواتنا. الخبر لم يكن يحتاج إلى دلع: ستيفن سبيلبرغ، قالت، يحضر لفيلم جديد عن الحرب الباردة في القرن الماضي، وذكرت اسم الفيلم «جسر الجواسيس».
أعتقد لو أن سبيلبرغ شاهد الفتاة وهي تتغنج حين ذكر اسمه لتعجب وسأل من يعرف العربية ما لو أنها كانت تسخر منه. لا شيء في الخبر يستحق الغنج: مثلاً الفيلم ليس موسيقيًا راقصًا، ولا المخرج سيطلق زوجته وحدث أن المذيعة الغنوجة لا تحبها، ولا أنه وعدها مثلاً ببطولة فيلمه اللاحق إذا ما تغنّجت وهي تقرأ خبرًا مترجمًا ويمكن العثور عليه في الإنترنت قبل بثه بأسابيع أخرى.
كل ما في الأمر أن الرجل لديه فيلم جديد اسمه «جسر الجواسيس».
وهنا الخطأ الثاني: الفيلم ليس في سياق التحضير، بل تم تصويره وانتهى الأمر ويشارف على عروضه خلال الأسابيع القليلة المقبلة. هل تم لمعد البرنامج ترجمة الخبر منشورًا قبل سنة؟
لا ندري ولو أن الخطأ الثاني هذا يتردد في شتّى وسائل القراءة والسمع فيتم ذكر أفلام بعضها يكون تم عرضه على أساس أنها جديدة مقبلة، وأحداث لم تقع ولن تقع وأشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل، كلها تذهب في نشر أخبار قد يتلقفها القارئ أو المشاهد فيصدّقها. لا يرتاب في صحّتها فيعتمدها إلى حين يفاجأ بمن يقول له «صح النوم».
لكن لنعد إلى الدلع.
لقد شاهدت بأم عيني ولم يرو لي أحد.
ذات مرّة في مهرجان «كان» عندما كانت القنوات العربية ما زالت تتنافس لتغطيته وقفت مذيعة تريد أن تشق طريقها جديًا في إطار البرامج السينمائية تلقي افتتاحية اليوم الأول من المهرجان. أوقفتها المنتجة وقالت لها: «أريدك أن تجني». أعادت المذيعة الفقرة بجنون ما. أوقفتها المنتجة وقالت لها «جني أكثر». أعادت المذيعة الفقرة بجنون أكثر وهذا ما زال لم يعجب المنتجة التي طلبت منها أن تتغنج وتقفز من مكانها معبرة عن فرحها بوجودها في أكبر مهرجانات الدنيا.
ذكّرني ذلك بحكاية مختلفة لكنها تتحدث عن الإلحاح ذاته. حين تصوير فيلم «نهر بلا عودة» لأوتو برمنجر (1954) نص مشهد على قيام بطل الفيلم (روبرت ميتشوم) بصفع البطلة (مارلين مونرو). الصفعة لم ترض المخرج الذي طلب من ميتشوم صفع مونرو بقوّة. فعل الممثل ما طلب منه فأوقفه المخرج مرّة ثانية وقال له: «أقوى». وتكرر الموقف ذاته أكثر من مرّة وفي كل مرّة كانت الصفعة أقوى من سابقتها حتى أصبح وجه مونرو مثل ثمار البندورة وأخذت تبكي. أوقف المخرج التصوير وعاد إلى ميتشوم ليطلب منه صفعة أقوى.. هذه المرّة استدار الممثل صوب المخرج ولكمه فألقاه أرضًا.
عندنا يتصوّر المنتجون التلفزيونيون أنهم يعرفون كل شيء عن كل المشاهدين. ولا يهم إذا ما كان البرنامج ثقافيًا أو فنيًا جادًا - المهم هو تلوينه بمذيعة جميلة تستطيع أن تتدلع. ولا يهم حتى إذا كانت تعرف ما تقوله (وفي أحيان كثيرة لا يهم إذا كان المقدّم الذكر يعرف ما يقوله أيضًا). ماذا لو ارتكب خطأ ما؟ هل انتهى العالم؟ لا. طبعًا.. العالم سيواصل تفريخ مثل هؤلاء المساكين.
لم يعد ينقصنا سوى تقديم وصلة رقص شرقي بين فقرة تتحدث عن شكسبير في السينما وأخرى تقرأ في كتاب لنجيب محفوظ.