أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

الطائفية وحذر السعوديين

في لبنان، حينما أريد بالطائفية أن تكون تجارة رابحة للتكسب السياسي، عمد قيادات التطرف من السنة والشيعة إلى إيغال صدور العامة من أتباع المذهبين بممارسات بسيطة وغير مكلفة. كان السنّي، وليس الشيعي، يكتب على الحوائط والأسوار عبارات نابية في حق أم المؤمنين عائشة وعمر بن الخطاب ومعاوية وابنه يزيد رضي الله عنهم، ليقول للسنة انظروا كيف يشتم الشيعي الرموز السنية، وكان الشيعي، لا السني، يكتب على صور الخميني وخامنئي شتائم وسبابا، ليثير عامة الشيعة ضد السنة، وكل ذلك لمصلحة سياسيين استخفوا بعاطفة الناس واستخدموها للتحزب وزيادة الصفوف. ليس من الصعوبة إثارة الناس للدفاع عن انتماءاتهم المذهبية، أو القومية كما كانت الموجة في الستينات الماضية، ولا يستطيع أن يقاوم مثل هذه الاستفزازات إلا ذو حظ عظيم من العقل، وهم كما يبدو في عالمنا العربي قلة بكل أسف.
والحال في العراق اليوم أسوأ من لبنان. في العراق لا يوجد توازن سياسي بين المذهبين، فالشيعة أكثر تمكنا، والسنة مستضعفون، وهذا يزيد الأمر سوءا، أما لبنان، فكان الحضور السعودي يوفر غطاء كافيا ضد محاولة هيمنة حزب الله، وكيل إيران، على مفاصل الدولة، لكنه حضور دون فرض ميليشيا مسلحة سنية، مما يدلل على أن السعودية تتعاطى مع لبنان كدولة مدنية وتريد لها الاستقرار دون تفوق طرف على الآخر. اتفاق الطائف كان إثباتا على صدق نياتها هذه. ولأن السعودية منذ الغزو الأميركي للعراق، وتحذيرها للأميركيين من سوء إدارة ما بعد سقوط صدام حسين، قد نفضت يدها من الشأن العراقي، بعدما رأت إصرار جورج بوش، المحتقن من السنة بعد أحداث سبتمبر (أيلول)، على الاندفاع الأعمى نحو الشيعة وإيران، فقد تحول العراق إلى بؤرة للإرهاب. هذه البيئة التي يعلو فيها صوت المذهب لا يمكن إلا أن تخلق مجتمعا نصفه انتهازي والآخر غاضب.
لم تعد هناك أسرار في اللعبة الطائفية، والمؤامرات أمست تطبيقا عمليا وليست نظريات. تنظيم القاعدة المتطرف في مذهبه السني يتلقى دعما لوجيستيا من إيران المتعصبة لمذهبها الشيعي، والأدلة تظهر الواحدة تلو الأخرى منذ أكثر من عقد ونصف، بدأت بإيواء رموز تنظيم القاعدة في طهران، والإنفاق المالي على عملياته، واليوم نرى الانسحابات المشبوهة للجيش العراقي وجيش النظام السوري من مناطق حيوية لتسهيل احتلالها من قبل «داعش». وقبل شهر ضبطت الأجهزة الأمنية في السعودية سيارة قادمة من البحرين تخبئ 30 كيلوغراما من مادة «آر دي إكس» شديدة الانفجار، يقودها اثنان من البحرينيين الشيعة يملكان شرائح اتصالات إيرانية، ومنذ يومين حدث تفجير بحزام ناسف يحمل نفس نوع المتفجرات التي كانت في السيارة، وذلك أثناء صلاة الجمعة في مسجد في بلدة القديح التي يسكنها شيعة في شرق السعودية، وكان الانتحاري سعوديا ينتمي لتنظيم داعش!
على عكس ما يبدو لنا في الواجهة من صراع سني شيعي، الحقيقة أن هناك تضامنا بين متطرفي الجانبين لهدف سياسي، وهو ضرب استقرار الدول، وعلى رأسها السعودية التي لها مواقف ثابتة من القضيتين السورية واليمنية تتضاد مع الموقف الإيراني.
ولا يمكن الحديث عن الطائفية المذهبية بمعزل عن الإسلام السياسي، الموجة التي ارتفعت قمتها بقيام ثورة الخميني نهاية السبعينات. كان الإخوان المسلمون قد أمضوا 5 عقود من العمل المنظم بهدف قيادة الأمة الإسلامية كما يزعمون، ولكنهم كانوا مثل البطيخ في غير أوانه، لا طعم ولا لون ولا رغبة للمستهلك فيه، لأنهم كانوا منظّرين للدين في زمن شعارات القومية. ولم يشتعل طموحهم السياسي إلا بعد ثورة الخميني، وبدأ تحركهم الميداني مع ما قدمه الرئيس المصري الراحل أنور السادات من تسهيلات وفرص بانفتاحه السياسي. من هنا انطلق الإسلام السياسي في صورته التطبيقية وليست النظرية الحالمة. كانت الثورة الإيرانية إيذانا بصعود سلم الدين لبلوغ المكاسب السياسية، لأنها تأسست على مبدأ التشيع كوسيلة للهيمنة على العالمين العربي والإسلامي. وحينما خرج السوفيات من أفغانستان التي كان يقاتل فيها «الجهاديون» السنة، وجد هؤلاء أن ثورة الخميني قد سبقتهم في ترسية قواعدها، وأمام التطرف الشيعي ظهر التطرف السني. الفريقان لم يفرقهما اختلاف المذهب، لأنهما على وفاق في الهدف السياسي، وهو تغيير الأنظمة الحاكمة خاصة في الخليج، مغارة الكنوز وبنك المنطقة. وبقية القصة معروفة.
إن كان هذا هو الحال، فكيف ننجو بأنفسنا من هذا المد الشرس من التطرف الديني؟ في رأيي أن العراق بعيد عن النجاة، ليس قبل عشر سنوات على أقل تقدير، لأن من يغذي الطائفية زعامات دينية لها قدسيتها لدى جماعتها، وزعامات سياسية بيدها التحكم في مفاصل الدولة الاقتصادية والسياسية. لم يتبق للعراق إلا أن تكون الطائفية مادة في دستوره..
أما في السعودية التي واجهت قبل أيام حادثة محزنة بتفجير مسجد في بلدة القديح، فهي تواجه اختبارا كبيرا، ليس على مستوى القدرات الأمنية، لأنها تجاوزت هذه الاختبارات في ظروف لا تقل صعوبة منذ تأسيس الدولة، مرورا بتفجيرات الرياض من قبل يمنيين في الستينات، وتفجير الرياض من قبل «القاعدة»، ومجمع الخبر السكني بتحريض من الإيرانيين، في العقدين الماضيين.. وليس حتى اختبارا سياسيا للدولة التي شرعت بالقبض على مرتكبي جريمة حسينية الدالوة في الأحساء في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد أيام من الجريمة، وأطلقت في خطابها الرسمي على ضحايا الإرهاب من الشيعة أسمى لقب يتمناه كل مسلم وهو لقب «شهيد».
الاختبار الحقيقي هو للمواطن السعودي، مدى مقاومته لمحاولات الاستفزاز التي يتعرض لها، الشيعي منهم والسني، لتأليب كل طرف منهما ضد الآخر، ومدى إدراكه أن الهدف ليس عمر بن الخطاب أو علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، اللذين دونت مكانتهما الدينية والتاريخية منذ 1400 عام. الهدف هو وطنه واستقراره، وإفشال هذه المحاولات ومقاومة مرض الطائفية يبدأ بتقوية مناعته كفرد، وإن قرأ وسمع دعاوى تحريضية من مفتنين بعبارات متلونة مطاطة، تقدح في الطائفية في ساعة وتحرض لها ساعة أخرى.

[email protected]