سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

«سخافة» الأخبار

في كتابها «العنف» تقول حنة ارندت أن اسوأ ما يحدث هو «تسخيف الشر»، أو على ما قال الشاعر «قتل امرىء في غابة جريمة لا تغتفر / وقتل شعب آمن جريمة فيها نظر». كيف ستقرأ عن أسر مناضل فلسطيني في الصفحة التي تقرأ فيها عن نزوح مائة الف عراقي من الأنبار إلى ابواب بغداد، حيث لا مأوى لهم ولا اي مَعلم من معالم الحياة البشرية؟ كيف ستقرأ عن غرق 700 مهاجر افريقي خارج السواحل الليبية، وقد قرأت عن مقتل 5 آلاف سوري في شهر واحد؟ كيف ستقرأ عن تفجير امام مقر «الاونروا» في غزة، وقد سمعت قبل ساعة أن عدد القتلى في سوريا زاد عن ربع مليون إنسان بينهم 16 الف طفل؟ اي نبأ سوف يهز مشاعرك بعدما بلَّغوك، يوماً بعد يوم، أن عدد المشردين داخل سوريا اصبح 12 مليوناً، فما هو في المقابل رقم مائة الف عند ابواب بغداد؟
في عزّ الحرب العالمية، لم يبلغ عدد المشرين الفرنسيين في الداخل ربع هذا العدد. ولا بلغت نسبة الخراب في حرب عالمية نسبة الدمار في حلب. ولا بيعت النسوة والسبايا . تبدو بعض المدن مجرد «فوتو شوب» من برلين في ايامها الأخيرة. شيء شبيه بالافلام التي نراها عن يوم القيامة. ما من فيلم من افلام الرعب بلغ ما نراه كل يوم على نشرات الأخبار. ما من خريطة في العالم تشبه هذه الخريطة من التفجّر والبؤس والدمار والمجاعات وتفاقم الجرائم العامة.
هذه مأساة «تسخيف الشر». أو جعله تفصيلاً عادياً وامراً رتيباً ومتوقعاً. لكن العنف الذي تحدثت عنه الفيلسوفة الألمانية كان عنف الاعداء وموجات الحروب الكبرى، وليس عنف الجيران والأهل والأقارب. ما نراه في كل مكان بدأ في حلبجة. عندما ران صمت القبول العربي على مقتل 20 الف عراقي بالغاز الحكومي، اصبح من الممكن أن يزحف مائة الف جندي عراقي على الكويت، فيما العرب منقسمون يتساءلون بكل براءة: يجوز أم لا يجوز؟ كان كاتب فلسطيني من سكان الكويت يروي أنه عندما مر بمنزله جنود عراقيون وطلبوا خبزاً، قال لأولاده: «هل يُعقل أن يكون جنودالشيخ سعد (العبدالله) جائعين؟».
كيف يمكن أن يخطر له أن الجنود الذين في السالمية عراقيون؟ لقد بدأ الأمر في حلبجة، أو في السالمية، أو في جبال اربيل، أو في حماه، أو في حرب لبنان. بدأ في استباحات الداخل وتعميم قتل الأهالي المعروفين عربياً بلقب «الشعب»، وشرحة المجموعات التي تُساق إلى السجون والحروب والموت والعراء والخيام والدزينتاريا وعودة الأوبئة التي انقرضت في افريقيا، كالجدري.
يسخَّف الشر بتمجيد العنف، فرديا وجماعياً، وقوننة القتل والجريمة على انواعها، وفلسفة ثقافة الموت والعدم، والهزء من الجد والنجاح والفرح والكفاية والانتاج والتقدم والعلم. ويقدم الشر على أنه شرعة الإنسان وواجب الإنسانية، ويتحول الموت والقتل إلى تجارة لها اسماء كثيرة.