جاءت آيات القرآن الكريم على شاشة التلفاز لكي تعلن برقة أن الخبر الحزين في طريقه إلى الإعلان. لم يكن في الأمر مفاجأة، فعندما طار الرئيس عبد الفتاح السيسي من زيارته إلى دولة الإمارات إلى السعودية لسويعات قصيرة، كان واضحا أن اللحظة تقترب، أو هكذا قلت لمن كان بجواري ساعتها. كان القلب والعقل يتابع الأيام الأخيرة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، وأظن أن ذلك كان حال المصريين الذين عرفوا الرجل خلال محنتهم الأخيرة، وكيف وقف إلى جانب بلادهم في داخلها بالعون، وفي خارجها بالموقف الصلب في كل محفل دولي. مات الملك كما يموت كل خلق الله تبارك وتعالى، ولكن سيرته باقية مخلدة في كتب التاريخ من ناحية، وفي وجدان من عاشوا هذه المسيرة معه من جيل واجه لحظات صعبة وحرجة تتعلق فيها النفوس بالميزان.
كان الملك عبد الله، رحمه الله، رجل المرحلة التي عاش فيها مسؤولا عن القرار في المملكة العربية السعودية. فقد تحمل المسؤولية وليا للعهد في نهاية التسعينات عندما كان المغفور له الملك فهد على فراش المرض. وفي هذا المنصب، أو في ما بعد عندما صار ملكا، كان عليه أن يواجه نتائج عصور متراكمة من التغير لخصتها كلمة واحدة: العولمة. أيا كان الموقف من الكلمة، فإنها كانت تعني الكثير من الحركة والديناميكية في بلدان محافظة، وكان الخيار إما الإصلاح للتكيف والتعامل معها أو أن الثمن سوف يكون كبيرا، خصوصا أن «العولمة» سرعان ما أفرزت الوجه القبيح للإرهاب على مستوى العالم كله، والكارثة أنه كان يتحرك تحت راية الإسلام. وعندما تكون في المملكة العربية السعودية وخادما للحرمين الشريفين في مكة والمدينة، فإن المسؤولية الثقيلة ليست فقط أمام الشعب السعودي، وإنما أمام العالم الإسلامي كله من إندونيسيا إلى المغرب، بل أمام العالم ممثلا لدين رحيم. لم يكن حمل هذه المسؤولية سهلا في كل جوانبها، وفي يوم من الأيام سوف يكتب المؤرخون عن هذه المرحلة على أبواب الألفية الثالثة وما جرى فيها ليس فقط من عمليات إرهابية في نيويورك، وواشنطن، ولندن، وباريس، ومدريد، وحتى داخل المملكة نفسها، وفي عواصم وحواضر العالم الإسلامي، وإنما أيضا رد الفعل الغربي وما تمثل من غزو للعراق قلب المنطقة رأسا على عقب، وزد فوق ذلك الحروب الإسرائيلية في لبنان، وغزة، وسوريا، من وقت لآخر.
كل ذلك جرى التعامل معه بمزيج من الحكمة والحزم. الحكمة تعرف حدود الزمن والتغيير، فيكون الإصلاح جريئا، ولكنه لا يكسر، والمواجهة حازمة في خدمة المصالح العربية والإسلامية، ولكن الحكيم يعرف تعقيد الدنيا وتشابك المصالح فيها. باختصار، كانت الحكمة لا تعني التراجع أو النكوص عن مواجهة المشكلات المستعصية، وكان الحزم لا يعني تهورا بلا حساب. كان معروفا على سبيل المثال أن اليمين المحافظ الأميركي، وقيل ذلك صراحة، أن غزو العراق عام 2003 لم يكن هو الهدف، فنظام صدام حسين كان معزولا ومكروها وتقلمت أظافره في حرب الخليج الأولى، ولكن الهدف - كما قيل - كان المملكة العربية السعودية ومصر، لأنهما مفتاحا تغيير الأوضاع في المنطقة كلها بحيث يمكن صبها في قالب يناسب النموذج والمزاج الأميركي. ولكن اللحظة التاريخية الكبرى جاءت مع انفجار ما عرف بـ«الربيع العربي» الذي أدخل المنطقة كلها في غمار أوضاع ثورية قلقة ومدمرة. كان الشائع وقتها في الكتابات الغربية أنه لم يعد هناك إلا بعض وقت حتى تصل عاصفة خماسين «الربيع» لكي تقلب الأوضاع في المملكة والممالك العربية الأخرى.
ما جرى كان انكسارا لبلدان عربية، وفشل دول أخرى، ولكن الملكيات صمدت صمودا مثيرا، لأنه كان فيها الملك عبد الله الذي أدار السنوات الأربع الماضية بجسارة وشجاعة وحزم. سوف يكتب كثيرون عما فعله من بناء مدن صناعية كبرى، وما أنجزه من جامعات علمية، وما أحدثه من تقدم في شؤون المرأة، والتعليم، ونظام الدولة. ولكن التاريخ سوف يذكر له أنه عاش العاصفة الكبرى، وتمكن من الخروج منها بثبات عندما لم يقم فقط بالإصلاحات الداخلية، ولكن من خلال موقفه الحازم في البحرين مستخدما القوة العسكرية لكي يمنع كارثة من الحدوث، وسواء وافقت دول غربية أو أبت، وموقفه الذي لا يقل حزما إزاء الأزمة السورية، وإزاء مواجهة الإرهاب في المنطقة كلها. وببساطة كان موقف الملك عبد الله هو الذي قلب الموازين بموقفه إزاء مصر عندما نجح الشعب المصري في إيقاف الموجة الثورية المتطرفة والإرهابية والدموية ممثلة في قاعدة الإخوان المسلمين ومن فوقها تنظيمات شتى حتى نصل إلى «داعش». كان في الأمر بالتأكيد تاريخ مشترك، ولحمة وأواصر لها أصول ونسب، ولكن القضية هذه المرة كانت ذات طبيعة جيوبوليتيكية واستراتيجية بعيدة المدى ذات علاقة مباشرة بالتوازن الاستراتيجي في المنطقة كلها.
وفي الحقيقة، قد تبدو المنطقة العربية والشرق أوسطية كلها مهتزة الآن ذاهبة في طريق السقوط من جراء توابع وكوارث ما بعد «الربيع العربي»، إلا أن الصورة ليست بهذه الظلمة بعد أن تغير التوازن الاستراتيجي، نتيجة الجهد والحكمة والحزم من قبل الملك عبد الله، الذي استعاد قطر إلى دائرة المنظومة المعتدلة، وأعطى لمصر القدرة لكي تعلن في كل وقت أن أمن الخليج خط أحمر. وببساطة، فإن المنطقة كلها بدت خلال الأعوام الأخيرة كحالة غازية هائمة في الفضاء لا تعرف هدفا أو مقصدا. وفي الطبيعة، فإن هذه الحالة تحتاج زمنا طويلا لكي تنتقل إلى الحالة الصلبة وتركن لمدار، ولكنه في حالتنا انتهت حالة السيولة الغازية، وبات معروفا أن هناك تحالفا عربيا شكله المغفور له الملك عبد الله، قادر على مواجهة أيام صعبة قادمة.
خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود سوف يكون عليه أن يكمل المهمة وفق حكمته وتجربته الغنية، مستخدما أساسا صلبا للتعامل مع قضايا معقدة، فهناك الإطار الخاص بالقضية اليمنية التي تتدهور كل يوم، وهناك الحرب الحالية مع «داعش» التي بسببها وضعت قواعد استعادة العراق لقوتها، وهناك بين هذا وذاك إدارة معركة أسعار النفط التي بدأت مع الملك عبد الله من موقف قوة حتى يحافظ على نصيب الدول المنتجة في السوق العالمية باعتبارها الأكثر كفاءة وقدرة. أحوال كثيرة كلها ثقيلة، ولكن مع ما فعله الملك عبد الله، فإن الملك سلمان لن يبدأ من فراغ، وإنما استنادا إلى قاعدة صلبة وعفية. غفر الله للملك عبد الله، وأعان الملك سلمان على ما هو مقبل عليه.
7:47 دقيقة
TT
وذهب ملك عظيم!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة