سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

54 عاما في العبث

تستحق المصالحة بين الولايات المتحدة وكوبا بعد 54 عاما من العداء، وقفات تأمل كثيرة، ليس في المصالحة نفسها، بل في العبث التاريخي. 5 عقود طلع الأميركيون خلالها إلى القمر وأرسلوا العربات إلى المريخ ولم يتمكنوا من عبور البحر إلى هافانا المقابلة. وطوال 5 عقود لجأ ملايين الكوبيين إلى الجارة الرأسمالية الكبرى، وما يزال الشقيقان كاسترو يُطبّقان النظام الشيوعي بعد سقوطه في كل مكان، من موسكو إلى الصين. أما في كوريا الشمالية، فلم يكن نظاما شيوعيا في أي يوم. كان نظاما مبجلا بالعبودية.
لم تهزم أميركا جارها، ولم يتفوق جارها إلا بطول الخطب الارتجالية. ولو أنه كتب خطبه الشهيرة لاختصرها من 6 ساعات إلى 16 دقيقة. أو أقل. لا تزال كوبا تنتقل في سيارات الأربعينات. ولا يزال دخل الفرد عديما. ولا تزال بيوتها الجميلة لم تُنظّف منذ الخمسينات. ولا يزال الفقر فاقعا، لكنها «حفظت كرامتها»! كيف؟ لا ندري. نعرف أنها تعاني من العقوبات الأميركية منذ نصف قرن. والعقوبات سلاح بشع، مثل الكلاشنيكوف، وهو يقتل الأطفال والمدنيين كما حدث في العراق، مثل الغازات السامة.
وقد امتدحت وزيرة خارجية كلينتون، المسز أولبرايت، عقوبات العراق على أنها «أوتيت نتائجها». والمسز أولبرايت مرحلة بشعة في الدبلوماسية الأميركية، شكلا وموضوعا.
من كان أقسى، أولبرايت أم غاز حلبجة؟ هذه عبثيات تافهة يلجأ إليها الذين لا يعرفون سوى ثقافة الاستبداد والظلم وحضارة القهر. هذه هولاكو في زمن متأخر. لم تحرم أميركا خلال نصف قرن إلا من السيجار الكوبي، لكن الكوبيين حرموا من بديهيات الحياة البسيطة إلا من عَبَر منهم إلى شواطئ فلوريدا. هل كان فيدل كاسترو يظن حقا أن الولايات المتحدة سوف تسمح بنصب صواريخ نووية على بعد 70 كيلومترا من ساحلها؟ لا أعتقد، لكنها مرحلة لم يكن التهور فيها كوبيا فقط، بل سوفياتيا أيضا. أما التهور الأميركي فلائحة طويلة. لقد وقف العالم أجمع على حافة ورقة من الدمار الكلي بسبب أحلام فيدل، وشكرا للسوفيات الذين تراجعوا في آخر لحظة عن زر تدمير الكون... حفظا لكرامة الكرملين. أما جون كيندي، فكان ماضيا في ترميد هذا الكوكب حفاظا على كرامة البيت الأبيض.
تشبه حكاية أميركا وكوبا القصص التي نقرأها في كتب الأطفال، أو نشاهدها في رسوم ديزني: الدب الكبير والدب الصغير. الذئب والثعلب. الفيل والحمار. لكن على مدى نصف قرن، لم تكن المسألة حكاية في «كليلة ودمنة». كانت عذابا وشقاء لمئات آلاف العائلات. وكانت سجنا عبثيا لملايين الكوبيين. وكانت إخراج دولة كاملة من العصر الذي يحيط بها. جرّب أن تلحظ كيف سوف يتقبل الكوبيون قرار فتح الباب وسقوط الجدار. إذا سمحت لهم المخابرات الكوبية بذلك؛ فالمخابرات آخر من تبلغ نبأ وفاة ستالين.