عايدة فهمي... صفحة مجهولة من نضال المرأة المصرية

أول نقابية نجحت في تحقيق مطالب الحركة النسائية

عايدة فهمي... صفحة مجهولة من نضال المرأة المصرية
TT

عايدة فهمي... صفحة مجهولة من نضال المرأة المصرية

عايدة فهمي... صفحة مجهولة من نضال المرأة المصرية

يتضمن كتاب «عايدة فهمي - امرأة من طراز خاص» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب شهادة نادرة لأول امرأة نقابية بالقطاع الصناعي في مصر، ويسلط الضوء على صفحة مجهولة من نضال المرأة في سياق نضال أشمل؛ وذلك في سعيها لانتزاع حقوقها في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، فضلاً عن نيل الاستقلال من المحتل البريطاني. وكانت «فهمي» قد أدلت قبيل وفاتها عام 2005 بتلك الشهادة، والتي تركز على نضالها النقابي دون التطرق لحياتها الشخصية، لمؤلفة الكتاب الباحثة انتصار بدر.

وتشير الكاتبة والناقدة فريدة النقاش في تقديمها للكتاب إلى أن ما نقرأه في هذه السيرة الغنية، ليس فقط حكاية عايدة فهمي النقابية وإنما هو أيضاً حكاية وطن ومجتمع على نحو يؤكد لنا كيف أن السير الذاتية والأدب هي مصادر بالغة الثراء لمعرفة أي مجتمع ودراسته والتقاط عناصر التحولات كبيرها وصغيرها، وليست مصادفة أن يلجأ كبار علماء الاجتماع والمفكرون إلى تلك السير والإبداعات بكونها مصادر أولية لدراستهم.

وُلدت عايدة رياض فهمي القشلاوي في 1918 بمنطقة «وسط البلد» بالقاهرة. آمنت بقضية المرأة وحقوقها بعيداً عن الشعارات أو السياسة، ونذرت حياتها الشخصية للنضال في العمل حتى التحقت في 1949 بنقابة «موظفي شركة شل - آبار الزيوت الإنجليزية - المصرية» التي أصبحت حالياً شركة «النصر للبترول». وهي المرة الأولى التي تتقدم فيها امرأة للعمل النقابي بشركات الإنتاج الصناعي الكبرى. ولم تقف عند هذا الحد، بل واصلت تقدُّمها مواقع نقابية أخرى بقطاع البترول كانت مغلقة تماماً على الرجال مثل اتحاد عمال البترول والنقابة العامة للبترول، إلى أن وصلت لعضوية المجلس الاستشاري الأعلى للعمل عام 1956 لتصبح أول امرأة تفوز بعضويته منذ تأسيسه عام 1933. واستطاعت أيضاً الانتقال بمطالب الحركة النسائية في حقوق متساوية للعاملات إلى حيز التنفيذ وإقرارها بشكل رسمي في عقد العمل الجماعي بشركتها وفي لائحة خدمات الصندوق الطبي بها قبل إقرارها في قوانين العمل.

ولم يقف نشاط عايدة فهمي عند حدود العمل النقابي، بل إنها تقدمت لانتخابات مجلس الأمة 1957 التي شاركت فيها، لكن لم يحالفها التوفيق. وعلى المستوى النقابي، أكدت وجودها على الساحة بأداء رفيع المستوى، حيث اتصفت بالكفاءة والحنكة والقدرة على حشد القوى العاملة في القضايا المصيرية، والقدرة على إدارة الأزمات بذكاء حاد وكسب المعارك بكل ما يمتلكه النقابي من أوراق سواء عبر التفاهم الودي والتفاوض أو النزاع القانوني وانتهاء بالتلويح بالإضراب. كل ذلك أكسبها احترام زملائها في العمل ومنحها موضعاً متميزاً داخل الحركة النقابية الوحيدة آنذاك. كما استطاعت عبر هامش الحماية القانونية والانحياز النسبي للعمال الذي أتاحه مجلس قيادة الثورة في أوائل الخمسينات الانتقال بنقابتها إلى وضع أفضل من حيث الموارد والتفاف الجمعية العمومية حول النقابة، ونجحت في فترة توليها منصب السكرتير العام لنقابة «موظفي شل آبار الزيوت» في رد الاعتبار لنقابتها وتحييد النزعة الانفصالية التي ألصقها بها مؤرخو الحركة العمالية وإعادة الروح التضامنية لها بخاصة في القضايا المصيرية للعمال.

لم تقف جهود عايدة فهمي عند حدود المهام النقابية، بل انطلقت إلى تحقيق آمال العمال في الحصول على الرعاية الصحية عبر تجربة جماعية للنقابات أوائل الخمسينات لفتت انتباه القيادة السياسية آنذاك لأحد أهم مطالب الطبقة العاملة وهو التأمين الصحي والمعاش الدائم.

وتكمن أهمية هذا الكتاب في كونه لا يوثق لتجربة عايدة في العمل النقابي وحسب، لكنه أيضا يوثق لمرحلة من مراحل تقدم المرأة إلى العمل خلال عمليات التمصير إبان فترة الانتداب البريطاني على مصر وسيطرة الأجانب على الاقتصاد المصري واحتكارهم له ولأغلب الوظائف الحكومية ووظائف الشركات الأجنبية والمرافق الحيوية.



المثقفون والرأسمالية: حبٌّ أم كراهية؟

المثقفون والرأسمالية: حبٌّ أم كراهية؟
TT

المثقفون والرأسمالية: حبٌّ أم كراهية؟

المثقفون والرأسمالية: حبٌّ أم كراهية؟

سمعنا وسنسمع كثيراً عن موت الرأسمالية مثلما ماتت الاشتراكية السوفياتية قبلها. المسوّغات متعدّدة والخلفيات الفكرية متباينة: هناك مَنْ يبشّرُ بهذا الموت القريب تناغماً مع رؤية رغبوية انتقامية لما حصل مع التجربة الاشتراكية العالمية، وهناك من يعتمد رؤية الحتمية التاريخية (Historical Inevitability) التي جوهرُها أنّ أي نسق فكري لا بد من أن ينتهي إلى زوال لتبدأ من نقطة الزوال انطلاقة جديدة لنسق جديد. إنها نسخة آيديولوجية محدّثة من الديالكتيك الهيغلي الممتد من القرن التاسع عشر.

لنبتعدْ عن الحروب الآيديولوجية الساخنة ولنقصرْ حديثنا على الفضاء الثقافي والمثقفين (Intellectuals). لم يكن المثقفون بعيدين عن الحفر العميق في جوهر الرأسمالية ومتبنياتها الفكرية وإسقاطاتها الحادة على طبيعة المعيش اليومي للبشر، وهم متباينون في رؤاهم تبايناً كبيراً ينعكس في القطبية المتنافرة لما يكتبونه بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وهذا أمرٌ متوقّعٌ من المثقفين. الناسُ في العادة تحاكم الأنساق الفكرية بمقدار انعكاسها المباشر في تحسّن حياتها اليومية؛ لكنّ المثقفين يُظهِرون عنتاً في القبول الميسّر بالأفكار؛ بل يميلون في العادة لمساءلة الأنساق والحفر العميق فيها بعيداً عن السطوح التي تكمن فيها المنافع الميسّرة سريعة المنال.

واجهة لعرض الموقف

الكتبُ هي البضاعة الأهم للمثقفين. هناك المنشورات والأفلام السينمائية والبحوث والدراسات والفن والتشكيل؛ لكن تبقى الكتب المستودعات الأهم والأكثر تداولاً للأنساق الفكرية. تعكس المنشورات الحديثة من الكتب رؤى متباينة نحو الرأسمالية من جانب مثقفين من شتى الألوان الفكرية والفضاءات المعرفية. سأذكر عيّنات فحسب من الكتب التي اطلعتُ على بعض تفاصيلها.

هناك أولاً كتاب «قوة الرأسمالية» (The Power of Capitalism) للمؤرخ والسوسيولوجي الألماني راينر زيتلمان (Rainer Zitelmann). من المثير معاينة العنوان الثانوي في الكتاب: «الرأسمالية هي الحل وليست المشكلة!» ربما سيقودنا العنوان الثانوي إلى توقّع نمط من القناعة المدفوعة بضغط آيديولوجي للرأسمالية في فكر المؤلف ورؤيته، وسيتعزّز هذا الرأي لو علمنا أنّ الكتاب المذكور أعلاه نُشر عام 2024 بعد سنة واحدة فحسب من نشر كتاب سابق له بعنوان «دفاعاً عن الرأسمالية» (In Defense of Capitalism).

هذا في الجانب المناصر للرأسمالية؛ أما في الجانب المناهض لها (والراغب في موتها ربما) فهناك كتاب مثير منشور حديثاً عام 2024 عنوانه «رأسمالية النسور» (Vulture Capitalism) لمؤلفته غريس بلاكلي (Grace Blakeley). تصمُ المؤلفةُ الرأسماليةَ -كما ينبئنا عنوان الكتاب- بسلسلة لا تنتهي من الشرور والجرائم؛ بل حتى نهاية الحرية الحقيقية للإنسان، وهذا ما يلمحه القارئ من العنوان الثانوي للكتاب أيضاً. لعلّ القارئ سيخمّن أنّ الكاتبة ذات توجهات يسارية أصولية عنيفة؛ حدّ أنها تنتمي لسلالة أحد مؤسسي الشيوعية السوفياتية. أبداً؛ ليس الأمر على هذا النحو. بلاكلي خريجة جامعة أكسفورد البريطانية العريقة، وكانت الأولى على دفعتها في التخصص الثلاثي الشهير بجامعة أكسفورد المسمّى «PPE» (الفلسفة، السياسة، الاقتصاد). القضية ليست آيديولوجيا خالصة، أو تصفية حسابات تأخرت وحان أوان تسديد فواتيرها المتراكمة. المثقفون لهم مواقف متباينة تجاه الرأسمالية؛ فهم يحبونها أو يكرهونها وليس ثمة من موقف موحّد لهم إزاءها.

علاقة طويلة ملتبسة

قبل تناول موضوعة علاقة المثقفين بالرأسمالية، من المهم تشخيص أيّ مثقف هو المعني بهذه العلاقة، وما الرأسمالية المقصودة في هذه العلاقة؟

المثقف هو المشتغل في حقل إنتاج الأفكار ومساءلتها ومداولتها والتعليق على مآلاتها ومفاعيلها المجتمعية والفردية. المثيرُ أنّ كثرة من كبار المثقفين أبدوا ميلاً فكرياً تجاه نوعٍ من الرأسمالية المهذّبة (أو الاشتراكية المطعّمة بحس إنساني، لا فرق!). فلاسفة من طراز برتراند راسل مثلاً صرّحوا عن ميولهم المتناغمة مع جهود الجمعية الفابية (Fabian Society) التي سعت لاعتماد حركية هادئة مسالمة نحو نمط من الاقتصاد التشاركي، المدعم بمظلة دولة الرعاية الاجتماعية (Welfare State). هؤلاء الفلاسفة والمثقفون لم يكونوا يساريين مكرّسين، ولا معنى أصلاً في توصيفهم آيديولوجياً بأنهم يساريون؛ لأنهم كتبوا بقسوة وبالضد من التجربة الشيوعية التي رأوا فيها تكريساً للسلطة الشمولية. هم أرادوا موازنة معقلنة -مقبولة من الوجهة الأخلاقية وممكنة من الوجهة العملية- بين الرغائب الفردانية وسلطة الدولة في منع الاستغلال وحماية مصالح الفرد.

الفكرة الجوهرية لدى هؤلاء المثقفين، هي أنّ الرأسمالية ليست آيديولوجيا أنيقة بقدر ما هي منهج عملي، حتى وإن اتسم أحياناً بشيء من القسوة والحزم، ومنع مظاهر التبطّل والتكاسل، والاتكاء على المعونات من جانب الدولة أو المؤسسات غير الحكومية. من جانب آخر، رأى هؤلاء في الماركسية -وهي الضد النوعي للرأسمالية- نسقاً فكرياً أنيقاً؛ لكنه لا يعمل بكفاءة بما يقود لنتائج فاعلة. ربما أرادوا نوعاً من المزاوجة والتعشيق بين الماركسية والرأسمالية، وهذا ما نجد له صدى داخل القلاع الرأسمالية ذاتها (وأهمها أميركا) بدأ يتعاظم بخاصة بعد الأزمة المالية المدمّرة عام 2008.

هذا عن المثقفين؛ أما بشأن الرأسمالية فثمة تباينات كثيرة أيضاً. ما هي الرأسمالية المقصودة بأن تكون هدفاً لحُبّ المثقفين أو كراهيتهم؟ الرأسماليات أنواع شتى. وجدت الرأسمالية الأولى في البروتستانتية جذراً فكرياً وأخلاقياً لأطروحتها الاقتصادية: على الفرد أن يعمل بكلّ قواه العقلية والجسدية لينال مكانته المرغوبة في المجتمع. حصلت الانتقالة الكبرى في الرأسمالية مع مقدم السياسات النيوليبرالية في حقبة الثاتشرية البريطانية والريغانية الأميركية، عندما ارتدّت الرأسمالية عن أساسها الأخلاقي لكي تصبح تغولاً اقتصادياً صارت بموجبه الحكومات مجرّد لاعب مسلوب القوى في تنظيم آليات السوق. السوق صارت هي اللاعب الأعظم، والأصول المالية الحقيقية صارت مشتقات مالية تعبّر عنها مجموعة أرقام فحسب.

حُبٌّ أم كراهية؟

قلت سابقاً إنّ الماركسية لها أناقتها الفكرية وجاذبيتها الأخلاقية؛ لذا من المتوقّع أن تستميل كثيراً من المثقفين؛ غير أنّ عقوداً من التطبيقات العملية أبانت أنّ الرأسمالية كانت أكثر كفاءة في الوفاء بحاجات الناس ورغائبهم. المرء لن يعتاش على الأفكار عندما تكون معدته خاوية وصحته معتلة، وحاجاته الأساسية منقوصة أو غائبة. الوقوف في طوابير من أجل بعض الزبدة أو اللحم ليس بالتجربة الطيبة التي تدعم أي نسق اقتصادي، مهما كانت خلفيته الفكرية أنيقة ومتّسمة بالرفعة الأخلاقية.

لكن في الوقت ذاته، أبدى بعض المثقفين امتعاضاً مبدئياً تجاه الرأسمالية. هم لم ينكروا بعض مزاياها؛ لكنهم رأوا أنّ هذه المزايا جاءت باهظة التكلفة من الناحية الإنسانية، وقد تعاظم هذا الامتعاض لديهم عقب تغوّل السياسات الثاتشرية والريغانية في المد النيوليبرالي الذي حصل في بداية ثمانينات القرن العشرين. لم يستأنس هؤلاء المثقفون أبداً بفكرة السوق الحرّة المحكومة بآليات العرض والطلب والمتفلتة من كلّ تنظيم قانوني، وقبل هذا لم يستأنس هؤلاء أن تكون الرأسمالية سبباً ووسيلة لتركيز الثروة في يد ثلّة من الرأسماليين الذين لم تُعْرَفْ عنهم مناقب ثقافية مشخّصة. صارت مسألة ثنائية «العقل– المال» تحتلُّ في زمننا المعاصر مكانة مركزية شبيهة بمعضلة «العقل- الجسد» في القرون السابقة، وراحت الكتب تترى في كيفية ترويض العقل والنفس لكي يتحوّلا إلى آلة تعرف كيف تقتنص المال من غير أي معوّقات نفسية أو ذهنية.

لنتأملْ مثلاً كم يكسب أستاذ فلسفة أو أدب أو سوسيولوجيا أو علم نفس في جامعة هارفارد سنوياً؟ ولنقارنْ هذا مع ما يكسبه مارك زوكربرغ مثلاً سنوياً؟ لا مجال للمقارنة. هذا المثال يكفي لبيان أحد أسباب كراهية المثقفين للرأسمالية، رغم أنهم يعترفون بأنها وفّرت لهم عيشاً طيباً. يمكن أن نقرأ بكيفية مسهبة عن تفاصيل مثل هذه في كتب كثيرة، منها: «العقل في مقابل المال» (Mind vs. Money) لمؤلفه آلان إس. كاهان (Alan S. Kahan). العنوان الثانوي للكتاب كاشف عن الطبيعة المباشرة لموضوعه: «الحرب بين المثقفين والرأسمالية».

مراوغات جديدة

اختلفت الحال النوعية في علاقة المثقفين بالرأسمالية في القرن الحادي والعشرين. الثقافة الكلاسيكية صارت أقلّ طهرانية، وأقرب لمفهوم خلق الثروة الحقيقية، ومغادرة مفهوم الاشتغال في نطاق العوالم الرمزية. صار معظم المثقفين يسعون لاقتطاع حصتهم التي يرونها مشروعة من الثروة العالمية. الرأسمالية كذلك صارت عُرْضة لهجمات التقنيات الرقمية التي جعلت من الرأسمالية الرقمية مفهوماً يختلف عن الرأسمالية الكلاسيكية، وليس محض امتداد له.

لم يكتف المثقفون في أيامنا هذه بإبداء مظاهر الامتعاض من الرأسمالية أو مناصرتها. أستاذ الفلسفة في «هارفارد» اليوم لم يعُد يكتفي بمرتبه السنوي؛ بل صار يسعى لنشر كتب ذات محتوى مرغوب عالمياً، تحت إشراف دور نشر عالمية تجيد صنعة الترويج والإشهار. لم يكتفِ الأستاذ في الثقافة الكلاسيكية بنشر كتب تلقى رواجاً؛ بل هو في الغالب صاحب «Podcast» ومدوّنة إلكترونية تدعم مسعاه الترويجي وجهده في كسب مزيد من المال. لم يقتصر الأمر على أعالي الثقافة الكلاسيكية (الفلسفة والأدب مثلاً)؛ بل إن كثرة من علماء الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا والأدب انخرطوا في لعبة كسب المال عبر النشر المكثف. قلّما تمرّ سنة دون أن ينشر هؤلاء كتاباً لهم.

إنها لغة المال التي تفرض سطوتها في نهاية الأمر، وليس الحب أو الكراهية إلا تمثلات نفسية لمقدار حصة المثقف من المال. هذه بعض طبيعة البشر، وعلينا القبول بها وترويضها بقدر الممكن للصالح العام والفردي معاً. هذا أقصى ما يمكن فعله.


«الأشجار تمشي في الإسكندرية»... رواية جديدة لعلاء الأسواني

«الأشجار تمشي في الإسكندرية»... رواية جديدة لعلاء الأسواني
TT

«الأشجار تمشي في الإسكندرية»... رواية جديدة لعلاء الأسواني

«الأشجار تمشي في الإسكندرية»... رواية جديدة لعلاء الأسواني

صدر حديثاً رواية «الأشجار تمشي في الإسكندرية» للكاتب المصري علاء الأسواني عن دار هاشيت أنطوان- نوفل ببيروت. تتناول الرواية أجواء مدينة الإسكندرية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، مركّزةً على التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي واكبت التحوّل من الملكية إلى الناصرية في تلك الفترة، وترصد انعكاسها على مجتمع الإسكندرية ا(لكوزموبوليتاني)، حيث يسلّط الكاتب الضوء على مجموعة من الأجانب الذين كانوا يملأون الإسكندرية في ذلك الوقت ويشكّلون نسيجاً متجانساً مع أهل البلاد، يصف يومياتهم وعالمهم الهانئ المسالم إلى أن عصفت الثورة وقلبت الموازين: فمنهم من أُممت تجارته، ومنهم مَن تعرّض للتوجس والمكائد بسبب أصوله الغربية، ومنهم من أصرّ النظام على تجنيده عبر الترغيب والترهيب لخدمته. كذلك، نرى في الرواية مصريين جُرّدوا من ألقابهم ومكانتهم الاجتماعية، وآخرين نكّلت بهم طبقة أثرياء المال والسلطة الجدد، وآخرين آمنوا كثيراً بالثورة، والعدالة التي تعد بها فتعرضوا لخيباتٍ جسام. كالعادة. ينسج الأسواني قماشته السردية الجديدة، مستفيداً من تراكم خبرته الروائية في التعامل مع المكان على أنه فضاء روائي تنطلق منه الشخوص وتواجه صراعاتها مع أقدراها ومفارقات الواقع.

يشار إلى أن علاء الأسواني روائي وطبيب مصري، حققت أعماله الأدبية نجاحاً جماهيرياً ونقدياً لافتاً، وتُرجمت إلى أكثر من 37 لغة حول العالم، ومن أبرزها رواياته «عمارة يعقوبيان» التي تصدرت قائمة الروايات الأكثر مبيعاً في العالم العربي على مدى 5 سنوات، بعد صدورها في عام 2002، ورواية «شيكاغو» و«نادي السيارات» و«جمهورية كأن». حاز الأسواني عدداً من الجوائز الأدبية، من بينها «جائزة كفافيس» اليونانية، وجائزة «غرينزاني كافور» الإيطالية، كما قُلِّد وسام الفنون والآداب الفرنسي برتبة فارس في عام 2016.

ومن أجواء الرواية الجديدة نقرأ:

– هل سمعت عن زرقاء اليمامة؟

– لا.

– زرقاء اليمامة امرأة عربيّة عاشت قديماً، كانت معروفة بقوّة بصر خارقة، وكانت قبيلتها تستعملها لاستطلاع تحرّكات الأعداء. بفضل بصرها الخارق كانت تكشف تحرّكات الأعداء مبكراً مما جعل قومها ينتصرون في كلّ حروبهم. وذات يومٍ استطلعت زرقاء اليمامة الطريق وقالت لقومها: «إني أرى الأشجار تمشي».

فلم يصدّقها أحد. سخر الناس منها واتّهموها بأنّها كبرت وخرّفت ثمّ تبيّن بعد ذلك أنّ الأعداء غطّوا أنفسهم بغصون الأشجار وهجموا على قومها وهزموهم وكانوا يستحقّون الهزيمة لأنّهم لم يصدّقوا زرقاء اليمامة. الفنّان مثل زرقاء اليمامة، يبصر دائماً قبل الآخرين.

ابتسمت ليدا وقالت:

– وأنت ماذا ترى الآن أيّها الفنّان؟

قلت:

– الأشجار تمشي في الإسكندريّة...


صفحات مجهولة من تاريخ مصر

صفحات مجهولة من تاريخ مصر
TT

صفحات مجهولة من تاريخ مصر

صفحات مجهولة من تاريخ مصر

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت مذكرات «وأجمل الذكريات ستأتي حتماً» للناشطة النسوية نولة درويش التي نشأت بمنتصف القرن الماضي في أسرة يهودية مصرية لأب وأم اعتنقا الإسلام، وتأثرت بوالدها المحامي الكبير يوسف درويش في انحيازه لقضايا العمال والفقراء، وسارت على دربٍ مشابه مع احتفاظها بشخصيتها المستقلة وقناعاتها النابعة منها. شاركت في العمل السياسي العام وتنقلت في شبابها بين أكثر من دولة حتى استقر بها المقام في العمل ضمن منظمات المجتمع المدني بمصر والدفاع عن قضايا النساء العربيات، وشاركت في تأسيس منظمة «المرأة الجديدة».

في البداية، تشير المؤلفة إلى أنها وُلدت في يونيو (حزيران) 1949 وكان والدها معتقلاً بتهمة انتمائه إلى تنظيم شيوعي، فأرسلت والدتها إليه برقية تلغرافية «تبلغه بمولد ابنته»، والغريب أن والدها كان مقتنعاً تماماً في أثناء فترة حمل أمها أن الطفل القادم سيكون ابنة، فهو له ابن من زواج سابق والآن جاء دور البنت. اقترح الأب لهذه الابنة اسم «ربوة»، لكن الأم استغربته فنحتت من ظلال بعض الأسماء مثل منال ونوال اسم «نولة» لترضي رغبة الأب.

سؤال الهوية

تذكر المؤلفة أنها وُلدت لأم وأب اختارا الانحياز إلى الشعب المصري، فكان أبوها منذ عودته من دراسته الجامعية في فرنسا من المدافعين عن حقوق الطبقة العاملة، وعمل على التواصل مع قياداتها؛ حتى يستطيع تقديم دعمه كاملاً وبطريقة فعالة، وكانت والدتها متضامنة معه في هذا المسعى فقررا اعتناق الإسلام قبل زواجهما بفترة وجيزة في عام 1947، ورغم أنهما لم يكونا شديدي التدين فإنهما اقتنعا بأن هذا الأمر سيقرّب إمكانيات التعامل بطريقة سلسة في ظل التوجس العام المتنامي تجاه اليهود بفعل الدعايات السائدة في تلك الفترة من تاريخ مصر. وتشير إلى أن الانتماءات الدينية لم تكن مطروحة على هذا النوع بقوة، لا سيما في اختيار نوعية التعليم ويُترك لكل أسرة اختيار الأسلوب الذي تراه مناسباً لتعليم أطفالها القيم الأخلاقية والمفاهيم التي يتضمنها دينهم، سواء كانت تتم هذه التربية الدينية في إطار الأسرة أو في دور العبادة لكل دين.

لم تتعرف نولة درويش شخصياً على جدها موسى درويش؛ لأنه توفي قبل أن تولد بفترة طويلة في عام 1940، لكنها سمعت أنه كان إنساناً شديد الطيبة، يرتدي الجلباب وفوقه الجبة والقفطان والطربوش على طريقة «أولاد البلد»، ويمتلك محال عدة في «حي الصاغة»؛ لأنه إلى جانب انخراطه في تجارة الذهب، كان «جواهرجياً» يصنع بيديه ما يعرضه للبيع. وظل أمياً لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولا يتحدث غير العربية حتى وفاته. أما جدتها راشيل كوهين فكانت تتطلع إلى أن تبدو كامرأة إفرنجية وهي تنتمي إلى أسرة من المثقفين نوعاً ما، بها المحامي الذي ربما أثر على الاختيار المهني ليوسف درويش.

حكى لها أبوها أنه عندما كان يدرس القانون والتجارة في فرنسا وقع في غرام فتاة فرنسية من أسرة أرستقراطية وهي التي عرفته على الفكر الماركسي، فلما عاد في إحدى الإجازات إلى مصر تحدث عنها لوالده، وقال إنه يريد الارتباط بها. رحب الأب بالفكرة بكل انفتاح بينما رفضت والدته بشدة أن يرتبط بهذه المرأة لأنها أجنبية و«غريبة عن ديننا وملتنا» كما قالت. وعموماً، لم يفلح أمر مشروع الارتباط هذا لأسباب لم يفسرها لها والدها الذي ظل دائم الحرص على تجنب الحديث عن حياته الشخصية.

وتشير صاحبة المذكرات إلى أن الأصول اليهودية من جانب أبويها ثم انتقال كليهما إلى الإسلام وهما ينتميان إلى ملل يهودية مختلفة، ثم زواج شقيقها من مسيحية، ثم زواج ابنة شقيقها من مسلم، كل ذلك جعل أسرتها شبيهة بـ«مجمع الأديان». والأهم من ذلك، هو أن «طبق السلاطة» التي كانت تسميه هكذا على سبيل المزاح، أنتج نوعية من الناس المنفتحين على قبول الاختلاف والرافضين بشدة أي شكل من أشكال التمييز بين البشر، فلم تسمع يوماً أن شقيقها قد تذمر من زواج ابنته بمسلم، ولا تتذكر أنها فكرت في يوم من الأيام أن تبحث عن الديانة التي ينتمي إليها الآخرون، سواء ممن تعرفهم عن قرب أو من العابرين في حياتي.

طبيب الإنسانية

وتروى المؤلفة أنه حين وقعت ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 التي تسميها «انقلاباً»، كانت بصحبة والدتها وهما تقفان في شرفة منزلهما بشارع شامبليون بالإسكندرية، حيث تصاعدت من الطريق أصوات موسيقى عسكرية فسألتها: ما هذا؟... فردت ببساطة:

إنها الثورة.

لم تفهم معنى الكلمة، حيث كان عمرها ثلاث سنوات، لكن والدتها كانت مشغولة بالنظر لما يحدث في الشارع ولم تنتبه إلى نظرة الاستفهام في عينيها وهما يشاهدان الاحتفالات التي تدور أسفل الشرفة. شاهدتا فيلقاً من الجنود يمر وهم يرتدون زياً يختلف إلى حد ما عن بقية الجنود فسألت: ماما، من هم؟ فقالت لها: إنهم السودانيون.

لم تفهم وقتها كذلك من هم أو ما صلتهم بالحدث، فكل معلوماتها حينئذ اقتصرت على تعبير «الفول السوداني» واللب، ولكن مع القراءات اللاحقة لتاريخ مصر فهمت أن مصر والسودان كانتا دولة واحدة منذ عام 1820 وحتى عام 1956، وهو ما يفسر لها لاحقاً مشاركة الجنود السودانيين في الاحتفالات بالثورة عام 1952.

وفي القاهرة، ومن خلال وجود الأسرة في بيت شارع يوسف الجندي، ظل طبيب الأسرة هو الدكتور فريد حداد ذو الأصول اللبنانية من ناحية الأب، الاسكندنافية من ناحية الأم والتي تجلت في لون البشرة والعيون الفاتحة والشعر الكستنائي مع ميل للسلوك عميق الإنسانية الذي ورثه من ناحية الأب. كان يتميز بطيبة فطرية في تعامله مع من يعالجهم، بخاصة مع من يحتاجون أكثر من غيرهم إلى خدماته المجانية، سواء بالكشف أو بالعلاج والمتابعة. وأحياناً بشراء الدواء لهم على نفقته الخاصة، وهي الخدمات التي يقدمها في عيادته التي كانت تقع في حي شبرا بالقاهرة. ولو تراءى لصاحبة المذكرات - حسبما تروي - أنه يمكن تخيل وجه لملاك، فإنما تأتي صورته إلى ذهنها على الفور. وخلال عام 1958، نظّم والدها حفلاً في منزلهم على شرف هذا الطبيب للدور العظيم الذي كان يقوم به على المستويين الإنساني والنضالي. كما ورد الحديث عن فريد حداد في السيرة الذاتية للمفكر الفلسطيني - الأميركي إدوارد سعيد والتي حملت عنوان «خارج المكان» والتي يشير فيها إلى زواج فريد حداد بفلسطينية اسمها إيدا، وإنجابهما اثنين أو ثلاثة أطفال كما كتب سعيد، والواقع أنهما أنجبا كلاً من وديع وسامي ومنى، الذين عرفتهم نولة درويش شخصياً، كما تعرفت على والدتهم.

وتروى المؤلفة كيف تعرفت على الثنائي الفني المكون من الملحن والمطرب الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم، حيث أتيحت لها الفرصة وهي في مرحلة الشباب أن تحضر دعوة لحفل محدود العدد للشيخ إمام وكان ذلك في بيت شخص فلسطيني لم تره فيما بعد. أحضرت معها جهاز تسجيل من نوعية الكاسيت الذي لم يعد متداولاً وسجلت ليلتها كل الأغاني التي استمعت إليها والتي مثلت لها اكتشافاً حقيقياً أبهرها. تتذكر من الحضور المرحومة المناضلة شاهندة مقلد التي اشتهرت بالدفاع عن حقوق الفلاحين والتي تبنتها خلال هذه السهرة حين علمت أنها ابنه يوسف درويش. بقيت أياماً بعد الحفل تستمع إلى الشرائط التي سجلتها، وحينما لا تستمع إليها يظل صدى الأغاني يلاحقها في أذنها.

وحين أذيعت أغنية «يا مصر قومي وشدي الحيل، كل اللي تتمنيه عندي» خلال أيام ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، سالت دموعها من التأثر. تذكرت المرة الأولى التي استمعت فيها لأغاني إمام - نجم مثل «جيفارا مات» و«رجعوا التلامذة» و«اتجمعوا العشاق في سجن القلعة». ذهبت بعد هذا اليوم إلى لقاءات كثيرة مع الشيخ إمام ونجم، منها ما كان في منازل بعض الأصدقاء والمعارف، وأخرى في مدرجات الجامعة. كما سمعت أكثر عن أخبار القبض عليهما وبقائهما بالسجن لفترات. ومع ذلك، سمعت أيضاً أنه حينما كان هذا الثنائي محظوراً، سُئل الملحن العملاق رياض السنباطي في حديث إذاعي عن «أفضل عازف عود في مصر» فرد تلقائياً بأنه الشيخ إمام عيسى.


نالت جائزة نوبل... رحيل الكاتبة آليس مونرو «سيدة فن الأقصوصة المعاصر»

مونرو تقول: «بدأت بكتابة الأقاصيص لأن الحياة لم تترك لي وقتاً للرواية» (أ.ب)
مونرو تقول: «بدأت بكتابة الأقاصيص لأن الحياة لم تترك لي وقتاً للرواية» (أ.ب)
TT

نالت جائزة نوبل... رحيل الكاتبة آليس مونرو «سيدة فن الأقصوصة المعاصر»

مونرو تقول: «بدأت بكتابة الأقاصيص لأن الحياة لم تترك لي وقتاً للرواية» (أ.ب)
مونرو تقول: «بدأت بكتابة الأقاصيص لأن الحياة لم تترك لي وقتاً للرواية» (أ.ب)

غيَّب الموت الكاتبة الكندية الكبيرة آليس مونرو، التي برزت في فن الأقصوصة الأدبي، وفازت بجائزة نوبل للآداب عام 2013.

وأوضحت الدار الناشرة لمؤلفات مونرو (92 عاماً) أن الكاتبة فارقت الحياة، مساء الاثنين، في مقاطعة أونتاريو بوسط كندا؛ حيث كانت تدور أحداث معظم أقاصيصها.

بين عاميْ 1968 و2012 كتبت الأديبة 14 مجموعة قصصية (أ.ف.ب)

وأسهمت مونرو في الارتقاء بالأقصوصة إلى مستوى الفن الأدبي، ووصفتها أكاديمية نوبل السويدية في تعليل منحها الجائزة بأنها «سيدة فن الأقصوصة الأدبي المعاصر»، ملاحِظةً أن نصوصها «تتضمن وصفاً متداخلاً لأحداث يومية، لكنها تُبرز القضايا الوجودية»، وأنها بارعة في «التعبير في بضع صفحات قصيرة عن كل التعقيد الملحمي للرواية»، وفقاً لما ذكرته «وكالة الصحافة الفرنسية».

قراء يشاهدون غلاف ملصق تهنئة لمونرو بعد فوزها بجائزة نوبل للآداب في فيكتوريا بكولومبيا البريطانية (رويترز)

إلا أن حضور آليس مونرو لم يكن صاخباً، رغم النجاح الذي حققته وحَصْدها مجموعة من الجوائز الأدبية خلال أكثر من أربعة عقود، بل آثرَت حياة الكتمان والبُعد عن الأضواء، على غرار شخصيات أقاصيصها ومعظمها من النساء اللاتي لم تكن في نصوصها تُركز إطلاقاً على جمالهنّ الجسدي.

وقالت، في مقابلة بعد نيلها جائزة نوبل: «أعتقد أن كل حياة يمكن أن تكون مثيرة للاهتمام».

ونشر رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، عبر منصة «إكس»، صورة له مع الراحلة، وعدَّ، في تعليقه، أن «العالم فقَدَ إحدى أعظم كاتباته، سنفتقدها بشدة».

أما وزيرة الثقافة باسكال سانت أونغ فرأت أنها كانت «مبدعة كتابة»، وذكّرت بأن «قصصها أسَرَت القراء في كندا وفي كل أنحاء العالم طوال ستة عقود»، وبأنها «الكندية الوحيدة التي فازت بجائزة نوبل للآداب».

وروَت آليس مونرو، في حديث صحافي، أنها كانت تحلم، مذ كانت مراهقة في منتصف أربعينات القرن العشرين، بأن تصبح كاتبة، «لكنّ الإعلان عن هذا النوع من الأمور لم يكن ممكناً في ذلك الزمن. لم يكن من المستحَب أن يلفت المرء الانتباه. ربما كان للأمر علاقة بكوني كندية، أو بكوني امرأة، وربما بكليهما».

غلاف المجموعة القصصية الأولى للسيدة مونرو التي نُشرت عام 1968 (غيتي)

وصدرت أقصوصة مونرو الأولى؛ وهي بعنوان «ذي دايمنشينز أوف آي شادو» عام 1950 عندما كانت طالبة في جامعة ويسترن أونتاريو.

وبين عاميْ 1968 و2012 كتبت الأديبة 14 مجموعة قصصية (من بينها «رانواي» و«تو ماتش هابينس» و«دير لايف»). وتناولت هذه الأقاصيص شتّى الموضوعات؛ كالطلاق، والزواج مجدداً، والعودة إلى الوطن. وفيما بين 20 و30 صفحة، تتكثف فيها شخصيات تبدو عادية ظاهرياً.

الروائية الكندية آليس مونرو في نيويورك عام 2002 (أ.ب)

وعدَّ أستاذ الأدب والصديق القديم للراحلة، ديفيد ستينز، في تصريح، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، أنها «كانت أعظم كاتبة أقاصيص في هذا العصر»، مشيراً إلى أنها كانت «مميزة كاتبة وإنسانة».

وكانت قصصها الراسخة في الحياة البسيطة بمنطقة هورون في أونتاريو تُنشر في مجلات عريقة مثل «ذي نيويوركر»، و«ذي أتلانتيك مانثلي».

مربّي دواجن وثعالب

وكانت مونرو تقول: «بدأتُ بكتابة الأقاصيص؛ لأن الحياة لم تترك لي وقتاً للرواية».

وقارنتها الأديبة والناقدة الأميركية سينتيا أوزيك، بالكاتب الروسي أنطون تشيخوف، إذ قالت عنها: «إنها تشيخوف الخاص بنا، وستبقى حاضرة أكثر من معظم الكتّاب المعاصرين».

أما الكاتبة الكندية المهمة الأخرى، مارغريت أتوود، فلاحظت، قبل سنوات، أن مونرو رائدة، «فالطريق إلى جائزة نوبل لم يكن سهلاً لها، إذ إن فرص ظهور نجمة أدبية في عصرها ومن ريف أونتاريو كانت شبه معدومة».

ونشأت مونرو في كنف والد عنيف كان يعمل مربّي دواجن وثعالب، في حين أن أمّها التي كانت مُدرِّسة تُوفيت باكراً لإصابتها بمرض باركنسون.

وفي عام 2009، أعلنت آليس مونرو أنها خضعت لعملية جراحية لتغيير شرايين القلب وعُولجت من السرطان، بعدما كانت قد حازت في السنة نفسها جائزة «مان بوكر إنترناشونال برايز» العريقة، بالإضافة إلى فوزها مرتين بجائزة «غيلر»؛ أبرز الجوائز الأدبية في كندا.

واقتُبسَت أقصوصتها «ذي بير كايم أوفر ذي ماونتن» لتكون فيلماً سينمائياً بعنوان «أواي فروم هير»، عام 2007، من إخراج ساره بولي، وبطولة جولي كريستي في دور مريضة مصابة بألزهايمر.


الكاتب السعودي أسامة المسلم يصنع الحدث في معرض الرباط للكتاب

الكاتب السعودي أسامة مسلم خلال حواره مع التلفزيون المغربي (الشرق الأوسط)
الكاتب السعودي أسامة مسلم خلال حواره مع التلفزيون المغربي (الشرق الأوسط)
TT

الكاتب السعودي أسامة المسلم يصنع الحدث في معرض الرباط للكتاب

الكاتب السعودي أسامة مسلم خلال حواره مع التلفزيون المغربي (الشرق الأوسط)
الكاتب السعودي أسامة مسلم خلال حواره مع التلفزيون المغربي (الشرق الأوسط)

صنع الكاتب السعودي أسامة المسلم الحدث خلال فعاليات معرض الرباط الدولي في المغرب للكتاب، الذي يمتد إلى 19 من شهر مايو (أيار) الحالي بعد تسببه في حالة طوارئ ثقافية هذا الأسبوع.

وتسبب الإعلان عن حفل توقيع الكاتب السعودي الشاب نسخاً من رواياته في حالة من الازدحام الشديد، خصوصاً في أوساط الشباب والمراهقين، ما أدى لوقوع بعض حالات الإغماء، وفي الوقت ذاته فوجئ كثير من زوار المعرض من الفئات السنية الكبرى بالإقبال الكبير.

واضطرت إدارة معرض الرباط إلى اختصار حفل التوقيع والإعلان عن مغادرة المسلم للمعرض للتخفيف من حالة الازدحام، لينتقل الجدل إلى منصات التواصل الاجتماعي بسبب وجود صورة ذهنية مسبقة تروج لعزوف الشباب المغربي عن القراءة.

ويملك المسلم حضوراً قوياً على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة على منصة «إنستغرام» بما يقرب من 350 ألف متابع.

البداية من الأحساء

يبلغ أسامة المسلم من العمر 47 عاماً، وهو من مواليد مدينة الأحساء بالمملكة العربية السعودية، وعاش طفولته في الولايات المتحدة الأميركية ثم عاد إلى مدينته حيث أكمل دراسته، وتخرج في قسم الأدب الانجليزي بجامعة الملك فيصل في الأحساء.

استهل الكاتب الشاب مسيرته عام 2015، بإصدار رواية خوف التي صدرت عن دار مركز الأدب العربي، وحققت رواجاً في العالم العربي.

ذاع صيت المسلم روائياً فنتازياً، يطرق أبواب عوالم الخيال والتشويق في سياق غرائبي مثير لشهية الفئات العمرية الأصغر سناً.

أهم مؤلفات أسامة المسلم

وصدرت للمسلم 32 رواية من أشهرها «الدوائر الخمس» و«مخطوطات مدفونة» و«صخب الخسيف 3» و«صراع الملكات العرجاء» و«ثورة الحور» و«وهج البنفسج» و«عرين الأسد» و«بساتين عربستان» و«الساحرة الهجين» و«عصبة الشياطين» و«رياح وهجر»، وثلاثية بعنوان «خوف»، يجري تحويلها إلى مسلسل درامي.

ونشر المسلم في حسابه عبر منصة «إكس» صور لقاء جمعه بوزير الثقافة المغربي محمد مهدي بن سعيد، ما عكس إدراكاً حكومياً لشعبيته قبل انطلاق المعرض.


يوتوبيا عالم ما بعد النُدْرة

نك بوستروم
نك بوستروم
TT

يوتوبيا عالم ما بعد النُدْرة

نك بوستروم
نك بوستروم

بعد كتابه المثير المنشور عام 2016 عن جامعة أكسفورد بعنوان «الذكاء الفائق: المسارات... المخاطر... الاستراتيجيات»، يعود الفيلسوف الأكسفوردي، سويدي الولادة، نِكْ بوستروم Nick Bostrom لينشر كتاباً جديداً له خالَف فيها توقعاته المتحفظة بشأن قدرة الذكاء الاصطناعي الفائق على أن يشكّل مصدراً تهديدياً ممكناً للجنس البشري والحضارة البشرية. في كتابه الجديد يبدو بوستروم وكأنّ جائحة تفاؤلية قد تملّكته بشأن الممكنات الرائعة التي يَعِدُ بها الذكاء الاصطناعي. الكتاب الجديد منشور حديثاً (مارس/ آذار 2024) بعنوان «يوتوبيا عميقة: الحياة والمعنى في عالمٍ حُلّت معضلاته»

Deep Utopia: Life and Meaning in a Solved World

النُدْرة محرّكاً للصراع البشري

كتابُ بوستروم الجديد يتمايز تمايزاً ملحوظاً عن كتابه السابق، وهو وإن وردت فيه عبارة «الذكاء الاصطناعي» كأحد العناصر الفاعلة في تشكيل الحاضر والمستقبل؛ فإن الكتاب يتناول في جوهره معضلة المعنى في سياقات مختلفة من أشكال الحياة البشرية.

أطروحة بوستروم في كتابه الجديد في غاية الوضوح والمعقولية ولا تحتاجُ إلى فذلكات مفاهيمية مراوغة أو معقّدة: الوجود البشري منذ بداياته الأولى اقترن بفكرة الصراع Conflict. الندرة Scarcity أحد المحرّكات الرئيسية لكلّ الأشكال الصراعية في وجودنا البشري: الحرب، العنف، الغزو، السطو، هذه كلها تغذّت على فكرة التغالب على مصدر محدود كان طبيعياً في بداياته (ماء، غذاء، وقود، أرض زراعية، أحجار كريمة) ثم صار خليطاً من مصادر طبيعية وغير طبيعية في أوقات لاحقة.

فكرة الندرة المسببة للصراع لها مترتباتها الواقعية والفلسفية والأخلاقية. لمّا كانت الطبيعة محكومة بمحدودية مواردها (خصوصاً غير المتجددة منها، مثل الخامات والنفط والذهب) فإنّ الكائنات البشرية تبدو مأسورة في نطاق صراع تطوّري يبدأ بالحاجة إلى تناول الطعام، من أجل إدامة البقاء، ثمّ من أجل تمرير مورثاته الجينية إلى سلالة لاحقة له. هذا هو منشأ فكرة التنافس Competition. هنا ينشأ تساؤل جوهري القيمة: ماذا لو ألغينا الحاجة إلى التنافس عن طريق توفير كلّ الحاجات الضرورية للعيش (الضرورية بمعنى البيولوجية)؟ سيضمحلّ التنافس تلقائياً وتختفي فكرة الصراع. عصر الوفرة Age of abundance سيكون بالضرورة عصراً خالياً من أشكال الصراع التقليدية.

يوتوبيا الوفرة: رؤية كينزية

الاقتصادي العالمي ذائع الصيت جون ماينارد كينز بشّر بنوع من يوتوبيا الوفرة بمقالة تاريخية له نشرها عام 1930، وكان لها أهمية مرجعية كبرى. المقالة عنوانها «الإمكانيات الاقتصادية لأحفادنا». رأى كينز في مقالته هذه أنّ البشرية في طريقها لحلّ المعضلة الاقتصادية القائمة على فكرة الندرة، ورأى أنّ عام 2030 (أي بعد قرن من نشر مقالته) هو العام الذي سنشهد فيه قدرة المدّخرات المتراكمة والتقدّم التقني على زيادة الإنتاجية إلى مناسيب تفي بالحاجات البشرية المتزايدة بمجهودات بشرية أقلّ بكثير من السائدة أيام كتابته للمقالة.

رأى كينز أنّ ساعات العمل الأسبوعية ستتراجع إلى حدود 15 ساعة، لكنّه حذّر في الوقت ذاته من أنّ ساعات الفراغ الطويلة قد تتسبّبُ في إشاعة نمط من الملل الذي ينشأ عنه انهيار عصبي جمعي ناجم عن انعدام المعضلات التي تتطلب حلولاً في العيش اليومي. ونحن نقترب من عام 2030 نرى بعض تنبؤات كينز متحققة بتقريبات جيدة فيما يخص زيادة مناسيب الدخل الإجمالي السنوي، لكنّ ساعات العمل الأسبوعية كمعدّل تتراوح في نطاق 36 ساعة، وهي بهذا بعيدة بمقدار غير قليل عن 16 ساعة التي بشّر بها كينز. في كلّ الأحوال، وبالمقارنة مع ما تحقق عبر السنوات المائة الماضية، يبدو أنّ تنبؤات كينز ليست بعيدة عن التحقق الكامل. هل سنعيش أخيراً يوتوبيا جديدة، يوتوبيا مابعد الندرة Post-scarcity Utopia نعمل فيها قليلاً، ويكون لنا فيها ساعات فراغ تتيح لنا التحلُّل من منغّصات العمل الخالي من شغفنا الحقيقي؟

سؤال المعنى في الحياة البشرية

منذ القدم ميّز الفلاسفة - ومثلهم فعل باحثو الوضع البشري المحدّثون - بين المتعة الآنية الناجمة عن إشباع لحظوي للحاجات البشرية البيولوجية Hedonia، والسعادة العميقة المقترنة بقصدية غائية عليا متسامية على الحاجات البيولوجية Eudaimonia. النوع الثاني من المتعة الأكثر ارتباطاً بموضوعة المعنى والغاية في الحياة. التهديد الوجودي في مجتمع ما بعد الوفرة يكمن في التساؤل التالي: لو أتاحت لنا الوفرة كل شيء مادي نحتاج إليه؛ كيف سنخلق المعنى في حياتنا في غياب التهديد والخطورة والمغامرة وحبّ البحث في المجاهل البعيدة؟! يذكّرني هذا الأمر بالفيلسوف الفرنسي الراحل جان بول سارتر الذي كتب في واحد من مؤلفاته أنّ أجمل سنوات حياته عاشها وهو منخرط في المقاومة الفرنسية ضد النازيين، على الرغم من أنّ حياته حينذاك كانت مهدّدة باحتمال مواجهته الإعدام كل يوم لو كشفته السلطات النازية.

تبدو القضية الفلسفية لسؤال المعنى والغاية في الحياة متمحورة على مواضعة من نوع: المعاناة ضرورية لكلّ حياة بشرية تبتغي معنى وغاية في الحياة. يجب أن نضع في حسباننا أنّ المعاناة ليست شكلاً واحداً؛ فقد تكون ترحُّلاً في عوالم تخيلية. الكتابة مثلاً أحد الأشكال التي نخلق بها معنى وغاية في حياتنا، رغم أنّ فعل الكتابة لا ينطوي على تهديد مادي لحياة الكاتب.

يوردُ بوستروم موضوعة الحرب مثالاً تطبيقياً. نحنُ نتفاعلُ مع فكرة البطولة والتضحية في الحرب؛ لكننا لا نتمنّى الموت لنا أو لأحبائنا في أي حرب. يمكن تمديد فكرة الحرب على أمثلة حياتية كثيرة. السينما مثلاً (وكلّ الأشكال الدرامية): كلما كانت الدراما مشحونة بمعاناة أشدّ كانت أقرب لانتباهتنا واهتمامنا؛ لكنّ نطاق اهتمامنا ينحصر في المديات التي لا نكون فيها عناصر في تلك التجارب الدرامية العنيفة. الأنانية جزء أساسي في الطبيعة البشرية ولا يمكن نكران هذا الأمر إلا مع شخوص قليلين في التاريخ البشري كسروا قيد الأنانية بأمثلة تبدو بطولية لنا.

تنشيط جهازنا الميتافيزيقي

يبدو أنّ التطوّر القادم في نمط حياتنا، بفعل إسقاطات التطورات المتسارعة للذكاء الاصطناعي، ستترتب عليه نتائج كبيرة، منها إعادة النظر في هيكلة مفهوم المتعة والمعنى والغاية في حياتنا البشرية. سنكون مدفوعين بفعل واقع الحال، وبسبب انعدام أو ندرة الوقائع الدرامية في حياتنا، إلى تنشيط جهازنا الميتافيزيقي المعطّل منذ عقود طويلة. كانت المعاناة والتضحية والانغماس الشاق في أعمال قد لا نحبها في الغالب العناوين المميزة لعصر ما قبل الندرة، التي بمستطاعها خلق المعنى والغاية. بعد هذا العصر سيتوجّب علينا خلق المعنى والغاية بكيفية ميتافيزيقية ذاتية، وأقصد بالميتافيزيقي هنا أن نخلق المحفزات من غير أن تكون لها بواعث مادية مشخّصة في الحياة اليومية المشهودة. يجب أن نتقن فنّ التحفيز الذاتي.

الندرة أحد المحرّكات الرئيسية لكلّ الأشكال الصراعية في وجودنا البشري: الحرب، العنف، الغزو، السطو...

عن كتاب بوستروم الأخير

لا يكاد بوستروم في كتابه الأخير يحيد كثيراً عن مؤلفاته السابقة التي هي مطوّلات تتطلب كثيراً من الرغبة والشغف في متابعتها. التمايز النوعي للكتاب الجديد عن سابقاته يتمثل في مسألتيْن: الأولى تقديم الكتاب الذي جاء أقرب لقطعة أدبية كتبها أحد الروائيين البريطانيين في العهد الفيكتوري. يصف بوستروم في مقدّمته مشهداً تخييلياً لطفل يتطلع من واجهة زجاج نافذة منزله إلى الثلج المنهمر في الخارج، وهو يفكّرُ في أيام قادمات ستتاح له فيها إمكانية الخروج واللعب بكرات الثلج، والجري فوق الثلج لمسافات طويلة. واضحٌ أنّ بوستروم يسعى من مقاربته التخييلية هذه لمدّ جسور لنا مع عالم ما بعد الندرة: ما نفكّر فيه اليوم ونراه حلماً بعيداً سيأتي بعد حين لن يطول. المسألة الثانية هي تبويب الكتاب. وزّع بوستروم عناوين كتابه على مقالات قصيرة بعض الشيء ضمن فصول ستة تبدأ عناوينها بأحد أيام الأسبوع. البداية بيوم الاثنين والنهاية بيوم السبت. اختار الأحد ليكون يوم راحة كما هي العادة المتبعة، ولعله يريد تذكيرنا بأنّ التقاليد ضرورية في حياتنا، وليس من مسوّغ لمسحها أو إبدالها أو تغييرها مع كلّ انعطافة تقنية جديدة.

الغريب أن يأتي نشرُ الكتاب الجديد لبوستروم متزامناً مع إعلان جامعة أكسفورد عن قرب إغلاق «معهد مستقبل الإنسانية» الذي يديره بوستروم بسبب ضغوطات إدارية (ربما تكون مالية لم تفصح عنها الجامعة). أتمنى ألا تلقى يوتوبيا بوستروم التي بشّر بها في كتابه الجديد نهاية حزينة شبيهة بنهاية المعهد الذي أداره قرابة العشرين عاماً.

يوتوبيا عميقة: الحياة والمعنى في عالمٍ حُلّت معضلاته

Deep Utopia: Life and Meaning in a Solved World

Nick Bostrom

IdeaPress Publishing

536 Pages


برنار بيفو الصحافي الذي حوّل الأدب إلى مطلب شعبي

برنارد  بيفو
برنارد بيفو
TT

برنار بيفو الصحافي الذي حوّل الأدب إلى مطلب شعبي

برنارد  بيفو
برنارد بيفو

«برنار بيفو أسطورة حقيقية في الحياة الثقافية الفرنسية»، هكذا وصفه صديقه الصحافي فيليب لابرو، إثر الإعلان عن خبر وفاته يوم الاثنين الماضي عن عمر 89 عاماً قضاها لا شاغل له إلا الكتب ونصوصها، رغم هواياته المتعددة التي جعلها جزءاً من كتاباته واهتماماته النقدية. بوجهه الطفولي المحبب، وحاجبيه الكثيفين، وضحكته اللماّعة، وحسّه النقدي، ونظارتيه اللتين يعلقهما بين الحين والآخر على أرنبة أنفه، أطل بيفو على المتفرجين الفرنسيين، طوال أكثر من ربع قرن، في موعد أسبوعي شيق، تسمرت من أجله الملايين أمام الشاشات، لتكتشف مع كل حلقة تبث، أفضل الإصدارات الجديدة، وأنجح الكتب، وتتعرف على المؤلفين الناشئين، وتتابع ما يقوله كبار الأسماء من المفكرين والأدباء.

بعد برنامجه «افتح مزدوجين» الذي لم يدم طويلاً، ولد برنامجه التلفزيوني الشهير «أبوستروف» عام 1975 وفق تصوره الخاص. هذا البرنامج الذي سيتحول بفضل براعة مقدمه وخفة ظله إلى واحد من أجمل وأرقى البرامج الثقافية التي عرفها البث التلفزيوني، وسيصبح مطلوباً حتى في دول لا تتحدث الفرنسية وتلجأ لعرضه مترجماً. نهاية الأسبوع، تحديداً مساء كل جمعة، عند التاسعة والنصف مساء، لحظة ذروة المشاهدة، التي غالباً ما تعطى لبرامج المنوعات الترفيهية، كان برنار بيفو يطل من القناة الثانية ليتحدث عن الكتب والأدب ويستضيف كتّابها، ويحاورهم حولها. أمر ربما لم يكتب لبرنامج ثقافي في تاريخ التلفزيون. الإقبال الشديد على البرنامج وجماهيريته العريضة، جعلته يستمر 15 عاماً محلقاً، ويصل عدد حلقاته إلى 724 حلقة. كان المؤلفون يعلمون أن الحظ يبتسم بقوة لمن يستضيفه برنار بيفو. لذلك حتى من لا يتحدث الفرنسية بطلاقة، كان يقبل التحدي، ولا يخلف موعداً مع المقدم وبرنامجه الشهيرين. فضيوف حلقة مساء جمعة من «أبوستروف»، هم الذين تتصدر كتبهم واجهات المكتبات في اليوم التالي. وبمرور الوقت، صار لـ«أبوستروف» ركن خاص في المكتبات، للباحثين عن المؤلفات التي ناقشها بيفو في إحدى حلقاته. البعض اتهمه بالتسلط، بسبب قدرته الفائقة على الترويج لكتاب أو كتب بعينها. فالمكانة المعنوية العالية التي حظي بها لدى جمهوره، تسمح له بالتأثير على القراء. لكن الحقيقة أن الرجل لم يبحث عن السلطة، وإنما جاءته بسبب جاذبيته ومهارته في التقديم، وبراعته في طرح الأسئلة وإدارة الحوار مع عدد من الكتّاب في جلسة واحدة، وأحياناً مع ضيف واحد يستحق حلقة من أجله. امتلك بيفو مرونة في التعاطي مع نصوص الكتب التي يقدمها، لم تعط لغيره، وقدرة على التبسيط، واستخدام لغة سهلة، تصل إلى عامة الناس مهما كان الكتاب صعباً. لم يكن برنامج بيفو هو الوحيد عن الكتب، ولا المتفرد على الشاشات الفرنسية الثلاث حينها، لكنه بقي بلا منافس حقيقي، لما تمتع به صاحبه من حيوية وطرافة مع قدرة على استثارة حوارات نابضة ومثيرة، مع ضيوف يجلسون متحلقين، تحيط بهم المكتبات.

قيل إن بيفو، بأسلوبه في «أبوستروف»، وطريقة تعاطيه مع الكتب والضيوف، ابتكر شكلاً جديداً لم يكن معهوداً في البرامج الثقافية. قبله كانت الحوارات بليدة، باردة، وجدية إلى حد مضجر، ومعه اكتسبت صلتها بالحياة والناس، مما جعل متابعي بعض الحلقات يتجاوزون الستة ملايين متفرج.

بعد توقف «أبوستروف» مباشرة، عام 1992، ابتكر بيفو، الذي لا تهدأ مبادراته، برنامجاً آخر هو «بويون دو كلتور» الذي سيكون بمثابة استمرار لما سبقه، وسيبقى بيفو متربعاً على عرش البرامج الثقافية الفرنسية، في مرحلة كان فيها للكتاب سطوة، وللمؤلف قيمة، وللقراءة جمهور عريض. وبذلك كان بيفو مؤثراً من خلال شاشة التلفزيون، قبل أن يولد المؤثرون على وسائل التواصل، لأنه امتلك القدرة على إلهام جمهوره، كما كان له كبير التأثير على متفرجيه باختياراتهم للكتب، لا بل وفي دفعهم للقراءة وتحفيزهم على الشراء، وصناعة الرأي العام، وتشكيل الذوق الأدبي.

وقد حرص بيفو على أن يقدم برنامجه مباشرة على الهواء، رغم التحذيرات من المخاطر. وقد حدثت له بالفعل العديد من المواقف المحرجة والمزعجة، منها عندما افتخر الكاتب غابرييل ماتزنيف بحياته الجنسية التي مارسها مع قاصرين. وهو ما أثار المتاعب لبيفو.

السؤال ليس عن أسماء الضيوف الكبار الذين استضافهم بيفو، بل عن هؤلاء الندرة الذين أفلتوا من برنامجه. فقد استضاف رولان بارت، أمبرتو إيكو، كلود ليفي شتراوس، بيار بورديو، مارغريت دوراس، فلاديمير نابكوف، لو كليزيو، مارغريت دوراس، باتريك موديانو، فرانسواز ساغان، وسياسيين ورؤساء جمهوريات، أبرزهم فرانسوا ميتران، وكذلك سينمائيين ومغنين ورياضيين.

لكن طريقة بيفو في جعل الأدباء في متناول كل الناس، لم ترق للبعض ومنهم ريجيس دوبريه عندما كان مستشاراً لفرانسوا ميتران، رئيس فرنسا حينها، واتهم بيفو عام 1982 بالسيطرة على الحياة الفكرية الفرنسية. لكن بيفو رغم انزعاجه، لم يقصّر في الرد وقرر مواصلة مهمته غير عابئ بما يقوله مستشار الرئيس. أما الفيلسوف جيل دولوز فعبّر عن رأي أكثر قساوة، حين عدّ أن برنامج برنارد بيفو، يشكل «الحالة الصفرية في النقد الأدبي»، وهو بطريقته التبسيطية المتلفزة «حوّل الأدب إلى عرض للممنوعات». وهو اتهام جائر، وثبت بعده عن الواقع، ليس فقط للفراغ الكبير الذي تركه بيفو في ما يتعلق ببرامج الكتب والثقافة، بعد اعتزاله الشاشة، ولكن أيضاً لأن حوارات بيفو مع ضيوفه اتسمت بالعمق الشديد، وبقدرته اللافتة على جعل الضيف يتكلم ويبوح، كما لا يفعل مع أي محاور آخر. وهنا يكمن سرّ بيفو الذي لا يزال يحيّر ويثير الأسئلة.

حرص بيفو رغم مشاغله التلفزيونية ومسؤولياته الجمة على ألا يقطع صلته بالصحافة المكتوبة. فقد كان له عمود باستمرار في إحدى المطبوعات. في السبعينات، كان كاتباً في مجلة «لو بوان»، ومنذ مطلع التسعينات بدأ يكتب في «جورنال دو ديمانش». كما أنه لم ينقطع عن تقديم البرامج الإذاعية، أو الإطلالة في تعليقات أسبوعية على الأثير.

عَدَّ دائماً أن الكلمة هي المحرك ولها خصص العديد من كتبه التي طالت ميادين مختلفة

لا غرابة أن يصفه صديقة فيليب لابرو بأنه «أحد أهم الشخصيات في الحياة الثقافية الفرنسية طوال أربعين عاماً» وبأنه «أعظم مدرّس للأدب عندنا، على الإطلاق». فقد تعددت مجالات عمل بيفو، في المكتوب والمسموع والمرئي، ومع دور النشر والجوائز، وكل ما له صلة بالكلمة. فقد عدّ دائماً أن الكلمة هي المحرك، ولها خصص العديد من كتبه، التي طالت ميادين مختلفة، منها «قاموس عشاق النبيذ»، وكان من الولعين بهذا المشروب، و«كرة القدم باللون الأخضر» هذه الرياضة التي شكلت عشقه أيضاً إلى جانب الطبخ الذي كتب حوله، واستضاف نجومه. أصدر في بداياته رواية بعنوان «الحب الرائج»، كما جمع مقالات، ونصوص الإملاء التي عمل عليها، وكتب مذكراته، ورواية من وحي شيخوخته حملت عنوان «لكن... تستمر الحياة». ما يزيد على 20 كتاباً تضاف إلى إنجازاته الثقافية.

لم يخب وهج برنار بيفو رغم اعتزاله تقديم البرامج التلفزيونية، فقد بقي ضيفاً محبباً، يحلّ على الشاشة عند كل إصدار جديد له، أو مناسبة، وبقي هذا النجم الأدبي بهي الطلى، مرح الروح، حاضر النكتة، متواضعاً، طريفاً، قريباً من القلب، إلى أن أعياه المرض، وتوارى عن أنظار جمهوره، عام 2022، وقد علم أن المرض هذه المرة لن يهادنه طويلاً.

بيفو فأرة الورق، وقاضم الكتب، دخل عالم الإنترنت برحابة. كان نشيطاً على «تويتر»، وشارك متابعيه أفكاره ومتعه الأدبية، وكانت الردود المعجبة تأتيه سخية ومحبة، تليق بمساره المكلل بالشغف والحب وعناق المعنى. وبوفاة بيفو هذا الوحش القارئ تطوى صفحة في عالم الأدب قد تصعب استعادة ما يشبهها. فالكتب لم تعد ورقاً كالذي كان يقلبه بشهية مقدم «أبوستروف» وهو يبحث عن المعلومة، والقراء تغير مزاجهم، وربما أن الأدب أيضاً تغيرت وظيفته.


«الدراما»... كيف يتعامل صنّاع المسرح مع «لغز» الجمهور؟

«الدراما»... كيف يتعامل صنّاع المسرح مع «لغز» الجمهور؟
TT

«الدراما»... كيف يتعامل صنّاع المسرح مع «لغز» الجمهور؟

«الدراما»... كيف يتعامل صنّاع المسرح مع «لغز» الجمهور؟

عن دار «إضاءات» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «الدراما» للكاتب المسرحي والناقد الإنجليزي أشلي ديوكس، والذي يعد أحد المراجع التأسيسية في فن المسرح منذ أن صدرت الطبعة الأولى منه عام 1927.

ويتناول المؤلف في كتابه الذي ترجمه محمد خيري، وراجعه الدكتور عبد الحميد يونس، العديد من عناصر فن الدراما، مثل أنواع هذا الفن وأهمية الإخراج والتمثيل، لكنه يتوقف بشكل خاص عند فكرة الجمهور وكيفية التعامل معه، بخاصة بعد أن أصبحت هذه الفكرة «لغزاً» مع تطور فنون المسرح وأشكاله التجريبية لدى الكثير من صنّاعه، وأصبح السؤال اللافت: هل ينبغي الخضوع لها أو تجاهلها أو هناك حل وسط؟

ويشير المؤلف إلى أن أصحاب المسارح اعتادوا أن يطلقوا على «المشاهدين» كلمة «الجمهور»، وهي تسمية تعبر عن مدى الأثر العام للدراما، ولكن تلك التسمية تدفعهم إلى التسرع في الوهم بأنه لا يوجد سوى «جمهور» واحد فقط؛ وعلى ذلك يقال عن مسرحيةٍ ما إنها «ما فوق مستوى الجمهور»، وعن أخرى إنها من النوع الذي يرغب فيه الجمهور. ويلفت الكتاب إلى أنه في كل عام تُنفق أموال طائلة في محاولة إلى إشباع حاجة جمهور «وهمي»، في حين أن هناك أنماطاً مختلفة من جمهور المسرح، ولكل منها ذوقه الخاص، كذلك يوجد دائماً «جمهور مستتر» مثل الجمهور المثقف الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر، وكان قد كف عن ارتياد المسرح وما لبث أن أقبل عليه مع تألق الكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن في الدراما الاجتماعية.

ومن ثم، يوضح الكتاب أن لكل مسرحية جيدة جمهورها الخاص سواء أكانت مسرحية لشكسبير أم كوميديا موسيقية، ويختار صاحب المسرح الذكي جمهوره من الجماهير العديدة التي يمكن أن يجتذبها، وهو لا يسعى إلى تثقيف هذا الجمهور الذي يتألف من أفراد من عامة الشعب، كما يضم أناساً مثقفين مثله، لكنه يعمل على الملاءمة بين ذوقه وذوقهم. وقد يفقد في سبيل ذلك بعض المال، لكنه لن يفقد أبداً ما يفقده زميله الذي يمضي حياته يتلمس عناصر النجاح الشعبي فقط؛ لأن الجمهور بالنسبة له ليس حقيقة من الحقائق، ولكنه وهْم من الأوهام التي تسيطر عليها.

في مقابل كل شخص يقرأ كتاباً ناجحاً تجد عشرة أشخاص يشاهدون مسرحية ناجحة

ويذكر الكتاب في هذا الصدد أن جمهور المسرح متغير من الناحية الكمية باستمرار بصرف النظر عن قوة الدراما أو روعتها، فالمسارح تتمتع أحياناً بنجاح غامض كما تعاني فترات غير مفهومة من الركود، وهي تتأثر بالتغيرات المفاجئة حتى التقلبات الجوية الطارئة. ولم توقظ الحرب الأوروبية ملكة الخيال والمشاعر عند رواد المسرح، ولكنها هبطت بمعظم المسارح في البلدان المتحاربة إلى أدنى مستوى من الذوق وصلت إليه منذ أجيال. وقد يتعرض عالم الملاهي لكارثة بسبب أزمة سياسية أو إضراب يقوم به عمال النقل أو فترة حداد قومي، ولا يدهشنا إذا رأينا صاحب المسرح يميل إلى تتبع أوهام الجمهور في شيء من الرهبة الأسطورية. إنه يرى في كل ليلة عدداً من الناس المجهولين له الذين لا نعرف أبداً مَن منهم حضر المسرحية بناء على الإعجاب بممثل معين من ممثلي العرض، ومَن منهم اجتذبته إلى المسرح فنون الدعاية والإعلان، أو مَن منهم استجاب لإعلانات الصحف.

وفي الختام يركز الكتاب على سيكولوجية جمهور المسرح، ويذكر أنهم يبدون كمخلوقات ذات أمزجة وأهواء غريبة ولا يمكن تعليل ما يقومون به من تصفيق، قد يضحكون ذات مساء من أعماق قلوبهم على عبارة يسمعونها في الليلة التالية في صمت ووجوم. وهكذا تنتابهم حالات من الحماس ومن الفتور، ومن المرح والعبوس، ومن الرقة والخشونة. ويشعر الممثلون بهذا التغيير في مزاج الجمهور قبل مرور عشر دقائق من الفصل الأول، ثم ينطلقون في التعليق عليه خلال فترات ما بين الفصول. ولا شك في أن لغز الجمهور يكمن إلى حدٍّ ما في حجمه، ففي مقابل كل شخص يقرأ كتاباً ناجحاً تجد عشرة أشخاص يشاهدون مسرحية ناجحة. يدخل المسرح عدد ضخم من المشاهدين وهويتهم غير معروفة، ثم يغادرون أبوابه دون أن يتركوا وراءهم أثراً. هذا الجمهور لا يعرف بصفة عامة شيئاً عن المؤلفين، وهو يعرف القليل عن الممثلين، ويجلس ساعتين أو ثلاثاً منهمكاً في مشاهدة ما يُعرض أمامه من تمثيل، ثم لا يلبث أن يختفي في ليل من النسيان.


«كفَى»... كتاب يربط تحولات الاقتصاد بتعاسة البشر

«كفَى»... كتاب يربط تحولات الاقتصاد بتعاسة البشر
TT

«كفَى»... كتاب يربط تحولات الاقتصاد بتعاسة البشر

«كفَى»... كتاب يربط تحولات الاقتصاد بتعاسة البشر

في كتابها «كفى - كيف تدمر الليبرالية الجديدة البشر والطبيعة» الذي صدرت طبعته العربية عن دار « صفصافة» بالقاهرة، تشرّح الكاتبة النرويجية لين ستالسبيرغ الصلة بين التطورات الاقتصادية العالمية وتعاسة إنسان هذا العصر.

تدفع المؤلفة في الكتاب الذي يقع في 220 صفحة من القطع المتوسط بترجمة شيرين عبد الوهاب وبسنت علي أمين، بأن هناك مفاهيم مختلفة لمصطلح «الليبرالية الجديدة». فمثلاً يستخدمه البعض لوصف النظام الاقتصادي الذي أنشأته رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر من جهة والرئيس الأميركي رونالد ريغان من جهة أخرى؛ فكثير من الناس يطلقون مسمى «أصولية السوق» أو «ليبرالية السوق» على هذا النظام وينظرون إلى «الليبرالية الجديدة» بكونها نظاماً سياسياً اقتصادياً تطبق من خلاله الدولة نظام فكر السوق على معظم مجالات الحياة، بما في ذلك خدمات الرعاية الاجتماعية، مثل رياض الأطفال ودور رعاية المسنين.

وهناك من يربطون هذا المصطلح بمصطلح آخر هو الاستهلاك، وأولئك هم الذين يستغلون الإعلانات واللافتات الموجودة في كل مكان، ويفكرون في كيفية استغلال مخاوفنا وعدم ثقتنا في أنفسنا والاستفادة من كل ذلك في جني المال. وتشير إلى أننا يمكننا أن نرى أثر ذلك حينما نجد أنفسنا ننساق وراء تلك الفتن وننفق الأموال لكي نغير من شكلنا وشكل أجسادنا. فعندما يصبح شكلنا الخارجي وما نملكه مرتبطاً بماهيتنا وصورتنا الاجتماعية وكيف يرانا الناس، هنا يصبح الاستهلاك والهوية أمرين مرتبطين تمام الارتباط، وبالتالي يمكننا أن نرى كيف اصطبغ فكرنا بفكر هذه الموجة من الليبرالية.

ويلفت الكتاب إلى أن أفراد حركات العمال يربطون بين «الليبرالية الجديدة» ومصطلحات أخرى مثل مصطلح «الموارد البشرية» الذي حل محل قسم شؤون الموظفين، أو مصطلح الإدارة العامة الجديدة، وهو شكل من أشكال الإدارة التي تقيس مستوى الموظفين والنتائج من خلال التقارير البيانية والمؤشرات الدقيقة؛ فالليبرالية الجديدة بالنسبة لاتحادات العمال ما هي إلا نظام كبير «يدمر الحياة العملية وقواعدها».

ويهتم الكثير من علماء النفس أيضاً بهذا المفهوم وماهيته؛ فهم يرون أن الكثير من المرضى أو المستهلكين في زماننا هذا يعانون مشكلات واضطرابات نفسية صارت سمة من سمات هذا الزمن الذي نعيش فيه، ومن بين هذه الاضطرابات الضغط والقلق المرضي وجَلد الذات والشعور بأن المرء غير كافٍ، كذلك الاكتئاب والوحدة والشعور باليأس والإحساس بالعجز. وهذه الاضطرابات النفسية ليست منتشرة فقط في أوساط الشباب؛ فالكثير من الناس من مختلف الأعمار يعانون منها ويتساءل علماء النفس ما إذا كانت هذه المشكلات النفسية تنشأ من داخل المريض ذاته أم أنها نتيجة للمجتمع الذي يحيا فيه المريض.

وترى المؤلفة أن «الليبرالية الجديدة» ترتبط بكل تفاصيل حياتنا، فإذا كنت تعاني مأزق ضيق الوقت أو التوتر والقلق غير المبرر الذي ينبع من إحساسك بعدم الرضى عن نفسك وشعورك بأنك غير جيد بما فيه الكفاية فاعلم أنك لست وحدك، وأن زميلك في العمل الذي يخشى رفض أي من قرارات وأوامر رئيسه أو مديره في العمل بسبب الضغط الواقع عليه نتيجة التقييمات المستمرة لأداء الموظفين هو أيضاً يعاني الشعور ذاته الذي تشعر به. وتحمّل «الليبرالية الجديدة» التي نعيش في ظلها هي مسؤولية ذلك كله بشكل أو بآخر.

وبحسب لين ستالسبيرغ، فإن هذه الموجة الجديدة من الليبرالية تفتقر للبوصلة الأخلاقية ولا تسعى إلا لتيسير أعمال الأسواق؛ فنجدها تدفعنا إلى تناسي بعض المُثل الإنسانية التي تربينا عليها، وأن نهتم عوضاً بأن نكون موظفين ذوي كفاءة عالية، وأن نتحلى بالإيجابية وأن تكون لدينا القابلية للتغيير والتكييف؛ ولكن ماذا سيحدث إذا لم نكن نرغب في ذلك؟... لا تفرض المؤلفة حلاً بعينه على القارئ إزاء تلك الأزمة العالمية، لكنها تكتفي بالإشارة إلى أننا نعرف أشخاصاً قرّروا أن يعيشوا الحياة بطريقة مغايرة واتخذوا قرارات مختلفة في ما يخص طريقة عيشهم وأسلوب حياتهم بعيداً عما تفرضه آيديولوجيات هذا الزمان.


رمضان عبد التَّواب ينتحل ترجمة عبد الحليم النَّجار

رمضان عبد التَّواب ينتحل ترجمة عبد الحليم النَّجار
TT

رمضان عبد التَّواب ينتحل ترجمة عبد الحليم النَّجار

رمضان عبد التَّواب ينتحل ترجمة عبد الحليم النَّجار

صنّف المستشرق الألماني يوهان فك (1894-1974) كتاباً بالألمانيّة، ترجمته «العربيَّة دراسات في اللُّغة واللهجات والأساليب». قام بالترجمة مدرس كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول عبد الحليم النَّجار (ت: 1964)، ونُشر بالقاهرة: مكتبة الخانجيّ (مطبعة دار الكتاب العربيّ) 1951، وبعد أكثر مِن ثلاثين عاماً ظهرت ترجمة ثانية للكتاب نفسه، قام بها أستاذ العلوم اللُّغوية في كلية الآداب- جامعة عين شمس الدكتور رمضان عبد التَّواب (1930- 2001)، صدرت عن مكتبة الخانجي نفسها (1980).

لا قيمة لترجمة ثانية لأي كتاب، إلا يكون قد استجد أمرٌ ما، فيما يخص النّص، أو ما توصل له مترجم الكتاب الثّاني مِن مصادر وروايات وشروحات، تكون قد فاتت المترجم الأول، ومِن المفروض أن تكون الترجمة الجديدة بمعزل عن الأولى، وإذا كان الأمر تصحيحاً أو تصويباً، في بضع كلمات، فلا يحتاج النص إلى ترجمة جديدة، وإعادة الجهد بلا طائل، عند ذلك يُكتفى بمقال ناقد، أو إصدار جديد للترجمة نفسها مع مقدمة، يشار فيها إلى النواقص إن وجدت.

هذا، وبعد 64 عاماً مضت على صدور ترجمة عبد الحليم النَّجار أُعيد نشرها كاملة مِن قبل المركز القوميّ للترجمة بالقاهرة (2014)، مع مقدماتها، وكانت مصدرة بقلم الباحث أحمد أمين بك (ت: 1954)، وتقديم محمَّد يوسف موسى، وواضح أن طبعة المركز القومي كانت مصورة، طبق الأصل، عن الطَّبعة الأولى، ولم يُشر فيها لترجمة رمضان عبد التّواب، لا مِن قريب ولا مِن بعيد، أي لم تؤخذ ترجمته بعين الاعتبار، وما ادعاه مِن إضافات في ترجمته، على أنها ترجمة جديدة، وهي ليست كذلك.

يقول رمضان عبد التّواب في مقدمته لترجمته المزعومة، معترفاً بسبق النّجار إلى ترجمة الكتاب، فانتظر حتّى نفدت طبعة (1951)، ولما فكر النَّاشر في إعادة طبع الكتاب، عرض عليه عبد التَّواب «إعادة الترجمة مِن جديد، مضيفاً تعليقات أستاذي، شيخ المستشرقين في الوقت الحاضر، بروفسور شبيتالر، رئيس معهد اللُّغات السَّاميَّة بجامعة ميونيخ، وما تجمع لدي مِن ملاحظات على مادة الكتاب، وقضاياه، وتصحيح شيء من التَّصحيف والتَّحريف، وبعض الأخطاء التي وقعت في ترجمته، فرحب بالفكرة ترحيباً بالغاً، وكان لتشجيعه وغيرته العظيمة على العربيَّة وتراثها، أكبر الأثر في هذا الكتاب، بالصورة التي هو عليها» (فك، العربيّة دراسات في اللغة واللهجات والأساليب، ترجمة رمضان عبد التواب 1980).

ثم أردف قائلاً لإظهار جهده وشقاه في الترجمة: «والكتاب دائرة معارف واسعة، يحتاج مِن مترجمه إلى الكثير مِن الصّبر والجهد، ومراجعة الكثير مِن المصادر، لتحقيق هذا النَّص أو ذاك، مِن نصوصه الكثيرة، الممتدة عبر عصور العربيَّة» (نفسه).

إذا كان لا بد مِن قول ذلك، فهي بالأحرى مِن حقّ مترجم الكتاب الأول عبد الحليم النَّجار، لا مَن أخذ النص المترجم كاملاً، حتَّى كان الشبه بين الترجمتين شبه الغراب بالغراب، مثلما يُقال، لا تصحيح ولا مراجعة، فالمصادر، التي ذكر عبد التّواب أنه بذل جهداً بمراجعتها، هي المصادر نفسها التي وصل إليها النّجار، ووضعها في حواشي ترجمته للكتاب.

ليست ترجمة أن يقلب مفردة «ممارسة» ويجعلها «احتكاك»، أو يستبدل «العلاقات» ويستخدم «الروابط»، فهذا ليس جهداً ولا ترجمة ولا إضافةً، أو يستبدل «نظرة خاطفة» ويستخدم عبارة «عود على بدء»، فهذا لإبعاد شبهة الانتحال عنه. هذا التغيير اللفظي الذي لا يؤثر على النّص، كان من رمضان عبد التّواب أن يُقدم الطبعة الجديدة، ويشير إليها، إذا كان يحسب ذلك على مستوى مِن الخطورة، وهو ليس كذلك، لا أن يستولي على الكتاب كاملاً ويجعل نفسه مترجماً، فإذا كان الجديد الذي أضافه عبد التّواب هو تعليقات المستشرق شبيتالر، وهذه لا تستوجب انتحال الترجمة كاملة، والأداء أنه راجع المصدر، وهي التي راجعها واثلتها النّجار نفسه.

يبدو أن عبد التَّواب استغل جهل النّاشر في الترجمة، أو أراد تسويقاً جديداً للكتاب، وثانياً وفاة المترجم الأول، وثالثاً نفود الطبعة الأولى (1951) وبُعد عهدها، فالزَّمن كان 30 عاماً بين الطبعتين؛ والغريب ليس هناك من تصدى لفضح هذا الانتحال، مِن الوسط الأدبي والأكاديميّ، مع أنه كان انتحالاً مفضوحاً تاماً، وورط رمضان عبد التّواب نفسه في المقدمة، فقد أظهر نفسه المترجم المصوب لترجمة النَّجار، لا مستخدم نصوصه نفسها.

نبدأ مِن «التّمهيد»: ترجمة عبد التّواب (الصفحة: 13): «لم يحدث حدث في تاريخ اللغة العربيَّة، أبعد أثراً في تقرير مصيرها مِن ظهور الإسلام. فمن العهد - قبل أكثر مِن 1300 عام، عندما رتل محمد صلى الله عليه وسلم القرآن على بني وطنه بلسان عربي مبين».

ترجمة النَّجار (الصَّفحة: 1): «لم يحدث حدث في تاريخ اللغة العربيَّة، أبعد أثراً في تقرير مصيرها مِن ظهور الإسلام. فمن العهد - قبل أكثر مِن 1300 عام، عندما رتل محمد صلى الله عليه وسلم القرآن على بني وطنه بلسان عربي مبين».

ترجمة عبد التّواب (الصفحة: 17): «وقد بدأ التّطور إلى العربيَّة المولدة حينما انتقلت العربيّة بعد وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام) مباشرة عن طريق الغزوات الكبرى في العهد الإسلامي الأول، إلى خارج حدودها القديمة، في مواطن لغوية أجنبية».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 6): «وقد بدأ التّطور إلى العربيَّة المولدة حينما انتقلت العربيّة بعد وفاة الرسول مباشرة عن طريق الغزوات الكبرى في العهد الأول، إلى خارج حدود الوطن العربي، في مواطن لغوية أجنبية».

نظرة خاطفة (عبد التواب)/ عود على بدء (النَّجار)

ترجمة عبد التَّواب (الصفحة: 238): «جاء السيل المغولي، الذي أصاب في الصميم بلداناً، كان لها التصدير في قيادة ركب الثقافة والمدنية في العالم الإسلامي، والذي اكتسح خلافة بغداد (656/1258) فأكمل حلقة الختام في مراحل الانحلال اللغوي التي بدأت بظهور السلاجقة، وبهذا تقطعت الخيوط الأخيرة من الثقافة التليدة المتوارثة في الأقاليم التي تغلغل فيها المغول».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 230): «جاء السيل المغولي، الذي أصاب في الصميم بلداناً، كان لها التصدير في قيادة ركب الثقافة والمدنية في العالم الإسلامي، والذي اكتسح خلافة بغداد (656/1258) فأكمل حلقة الختام لمراحل الانحلال في تاريخ اللغة العربية أي المرحلة التي بدأت بظهور دولة السلجوقيين، وبهذا تقطعت الخيوط الأخيرة من الثقافة التليدة المتوارثة في الأقاليم التي تغلغل فيها المغول».

ترجمة عبد التَّواب (الصفحة: 234): «وإذا صدقت البوادر، ولم تخطئ الدلائل فستحفظ أيضاً بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية، ما بقيت هناك مدنية إسلامية».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 242): «وإذا صدقت البوادر، ولم تخطئ الدلائل فستحفظ أيضاً بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية، ما بقيت هناك مدنية إسلامية».

يبدو أن عبد التَّواب استغل جهل النّاشر في الترجمة، أو أراد تسويقاً جديداً للكتاب، وثانياً وفاة المترجم الأول، وثالثاً نفود الطبعة الأولى (1951)

ملحق مادة: ل ح ن، ومشتقاتها:

ترجمة عبد التواب (الصفحة: 243): «يتطلب معنى اللحن اللغوي أن يكون الصواب متقدماً عليه، وكلاهما يمكن حصوله وتصوره إذا تجاوز التفكير في اللغة خطوات نشأتها الأولى. بيد أن مثل هذا التفكير والتأمل في نشوء اللغة كان بعيداً كل البعد عن عرب البادية الإسلامية».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 235): «يتطلب معنى اللحن اللغوي أن يكون الصواب متقدماً عليه، وكلاهما يمكن حصوله وتصوره إذا تجاوز التفكير في اللغة خطوات نشأتها الأولى. بيد أن مثل هذا التفكير والتأمل في نشوء اللغة كان بعيداً كل البعد عن عرب البادية الإسلامية».

ترجمة عبد التَّواب (الصفحة: 255): «هذا البيت إلى البيتين المشار إليهما من قبل، يبدو - فيما أعلم - أنه أقدم الشواهد على استعمال كلمة، في معنى الخطأ اللغوي».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 255): «هذا البيت إلى البيتين المشار إليهما من قبل، يبدو - فيما أعلم - أنه أقدم الشواهد على استعمال كلمة، في معنى الخطأ اللغوي».

بعد ذلك تأتي ترجمة عبد التّواب بالفهرس «فهرس تحليلي لموضوعات الكتاب»، عنوان النَّجار نفسه، والفرق أن عبد التواب جعله في آخر الكتاب (الصفحة: 256)، أما النّجار فكان قد وضعه في مقدمة كتابه، وهذا هو مكانه المناسب، لكن المهم نُقل حرفياً.

ختاماً، لقد استولى عبد التّواب على جهد عبد الحليم النّجار حرفياً، وإذا كان قد غيّر وبدل هنا وهناك فلا يزيد على كلمات وعنوان. يبدو مضحكاً للقارئ ومؤلماً للنجار، ما ورد في الغلاف الأخير من طبعة ترجمة عبد التَّواب (1980) الآتي: «وهذه الترجمة الجديدة، تمتاز بالدقة وكثرة التعليقات والتصحيحات والمناقشات لبعض القضايا المهمة في الكتاب»، ولم يزد صاحب الترجمة (الجديدة) شيئاً مذكوراً، غير نشر كلمة المستشرق شبيتالر، وهي 4 ورقات فقط، ووضع قائمة بمصادر مؤلف الكتاب، الواردة في الهوامش، استغنت عن ذكرها طبعة 1951.