منذ تأسيسها، صنع الملك عبد العزيز لبلاده مكانتها على المسرح العالمي. تزامن ذلك مع صعود أميركا قوة عظمى؛ وجاء التقاء المصالح المشتركة ليؤسس لعلاقة متفردة بين البلدين منذ ثلاثينات القرن الماضي.
ومع ذلك، ما زال يخطئ جمهور من العرب الأميركيين على حد سواء في فهم جذور العلاقات السعودية - الأميركية باختزالها سابقاً في مفهوم «الأمن مقابل النفط»، أو بمعنى أدق الجوانب العسكرية والدفاعية؛ وغير ذلك من الأطروحات التي لا سند لها.
وتزخر إصدارات ومؤلفات وتقارير بتحليلات وقراءات أراها بعيدة عن حقيقة العلاقة بين البلدين، التي مر اثنان وتسعون عاماً على نشأتها، ومضى ثمانون عاماً على اللقاء الذي وضع أسسها ومبادئها بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت؛ لذا هي علاقة أوثق وأعمق في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية.
في عام 2015، وأثناء انعقاد القمة #السعودية - الأميركية، قدم الأمير #محمد_بن_سلمان رؤية المملكة حول العلاقة الاستراتيجية بين البلدين، وبدا أنه يحمل «تصوراً جديداً»، فماذا حدث خلال العشر سنوات التالية من هذا اللقاء؟الـتفاصيل عبر #ثريد_الشرق_الأوسط pic.twitter.com/bZGcGppYY7
— صحيفة الشرق الأوسط (@aawsat_News) November 18, 2025
منذ البدايات لم تكن علاقات دفاع ونفط وشراء أسلحة فقط؛ بل كانت علاقات متعددة الأطراف كثيرة المحاور شملت قطاعات كثيرة، مثل: الزراعة، والتعليم، والتدريب، والصحة، والبنوك والاستثمار، والصناعة والنقل، والتجارة، والبحوث والاستشارات، والري والمياه، والطيران، والإعلام والاتصالات، والإنشاءات والتشغيل، والصيانة والبيئة وعلوم الأرض، وغيرها من المجالات التي لكل منها قصتها وتفصيلاتها.
ولعله من المهم الإشارة إلى أنه عدا البعثات الأميركية المتخصصة في المجالات التعدينية والمالية والزراعية والفرق الطبية، بلغ عدد الشركات الأميركية العاملة خلال عقد الخمسينات الميلادية من القرن الماضي - أي بعد إعلان توحيد البلاد وتسميتها المملكة العربية السعودية - أكثر من مائتي شركة.
في الوقت ذاته بدأ وصول الطلاب السعوديين للدراسة في الولايات المتحدة، وقبل ذلك وصل الأميركيون للعمل في السعودية، مئات الآلاف من الجنسيتين على مدى العقود الثمانية الماضية درسوا وعملوا في البلدين فنشأت روابط ثقافية وصلات اجتماعية وتعمقت عبر السنين كعمق العلاقات السعودية - الأميركية.
اقرأ أيضاً
جاءت زيارة الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي، لواشنطن 18و19 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 لتضع نقاطاً على الحروف، ولتُجلي واقع هذه العلاقات وعمقها التاريخي وآفاق مستقبلها.
وجاء الترحيب الأميركي لافتاً، فرغم الحميمية الحاضرة، كان الاستقبال مختلفاً ومهيباً، وعلى الرغم من الرسائل والدلالات التي يمكن التقاطها من تفاصيل الاستقبال، فإنه يمكن اختصار كل ذلك بأن ما حصل ليس مألوفاً في واشنطن، ووصفته وسائل الإعلام الأميركية بالفخم والباذخ، وفي ذهني سابقتان لمثل هذا الاستقبال، الأولى قرأتها: وكانت عند احتفاء الرئيس روزفلت بالأميرين (الملكين) فيصل وخالد أثناء زيارتهما الأولى للولايات المتحدة في سبتمبر (أيلول) 1943، والأخرى حضرتها: عند احتفاء الرئيس ريغان بالملك فهد في فبراير (شباط) 1985.
مراسم استقبال ترمب لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان#شاهد_الشرق_الأوسط#صحيفة_الشرق_الأوسط#صحيفة_العرب_الأولى pic.twitter.com/JOyjAWbqNC
— صحيفة الشرق الأوسط (@aawsat_News) November 18, 2025
تذكرت وكاميرات التلفزيون تنقل توقف الزعيمين محمد وترمب أمام صورة الرئيس روزفلت أثناء جولتهما في البيت الأبيض، ما سطره وليام إيدي عن لقاء الملك عبد العزيز بالرئيس روزفلت (فبراير 1945): «منذ أن وطئت قدما الملك البارجة (كوينسي) والتقى روزفلت وجهاً لوجه حدثت الألفة بين الرجلين وبدأ كلاهما بالبحث عن أوجه التشابه لا الاختلاف. كان التركيز على ما يجمع لا ما يفرق. رغم الفارق الثقافي كان للقلوب أهدافها الخاصة، كانت كاريزما ودبلوماسية الرجلين حاضرة».
وهذا ما أظنه حدث في اللقاء الأول للأمير محمد بن سلمان مع الرئيس ترمب (مارس 2017).
في هذه الزيارة بدا واضحاً احتفاء الرئيس ترمب غير المسبوق بولي العهد، بدءاً بمراسم الاستقبال وأثناء المؤتمر الصحافي في المكتب البيضاوي، وقبل ذلك تصريحه عشية الزيارة عن موافقته بيع طائرات «إف - 35» للسعودية، وعبارات الاحترام والثناء والتقدير تجاه الأمير طوال الزيارة.
وبالمناسبة، هذه أول زيارة رسمية لولي العهد لأميركا بعد توليه منصب رئيس مجلس الوزراء في سبتمبر (أيلول) 2022، وأتت بتوجيه من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وبعد نحو عامين من المناقشات والمباحثات والزيارات المتبادلة بين المسؤولين في البلدين للتوصل إلى اتفاق حول عدد من الملفات الثنائية والاتفاقيات المختلفة، كما تزامنت مع موافقة مجلس الأمن على خطة الرئيس ترمب لإنهاء الحرب في غزة. لم تكن زيارة بروتوكولية أو جولة دبلوماسية؛ بل حمل الأمير خلالها هموم المنطقة وملفاتها من فلسطين إلى سوريا، ولبنان، والعراق، والسودان واليمن وحتى إيران والتجاوزات الإسرائيلية وغيرها إلى واشنطن.

بحث الزعيمان العلاقات الثنائية والملفات الأخرى ضمن رؤية ولي العهد المتكاملة لترتيب أوضاع المنطقة نحو مستقبل أفضل يحقق الاستقرار الاستراتيجي والازدهار الاقتصادي، وبدأت ملامحه حين أعلن الرئيس ترمب خلال منتدى الاستثمار السعودي - الأميركي الذي أقيم على هامش الزيارة (19 نوفمبر 2025)، أنه وبناءً على طلب الأمير محمد بن سلمان، سيبدأ العمل على إيقاف «الفظائع المروعة» في السودان، وقبل ذلك أعلن الرئيس ترمب في الرياض (13 مايو 2025) عن قراره رفع العقوبات عن سوريا بطلب من ولي العهد.
كما يجب ألا ننسى أن الحديث قبل أشهر كان عن تهجير سكان غزة والبحث عن وطن بديل، واليوم تضمنت خطة الرئيس ترمب مساراً محتملاً لقيام الدولة الفلسطينية، وهنا يظهر حجم تأثير الدبلوماسية السعودية التي تعمل بصمت ودون ضجيج. لكن ماذا يعني كل ذلك؟
لا يمكن فهم رغبة واشنطن في توثيق شراكتها مع الرياض دون النظر إلى دوافعها خلال العقد الأخير؛ فالولايات المتحدة ترى في السعودية شريكاً لا بديل عنه في موازنة الصعود الصيني، وضمان استقرار أسواق الطاقة، خاصة بعد حرب أوكرانيا، وإدارة أمن الشرق الأوسط دون العودة إلى التدخل العسكري الأميركي المباشر.
كما تنظر واشنطن إلى الدور السعودي بوصفه محورياً في حماية الاقتصاد العالمي وسلاسل الإمداد، علاوة على أهميته في دعم التفوق التقني الأميركي عبر شراكات الذكاء الاصطناعي والاستثمارات العابرة للقارات. وإدراكاً منها أن استقرار المنطقة، وملف إيران، وأمن الإقليم الشامل لا يمكن التعامل معها إلا عبر دولة تمتلك شرعية وموثوقية وتأثيراً بحجم المملكة العربية السعودية؛ فالدبلوماسية السعودية تمتلك إرثاً عريقاً في إدارة التوازنات وسعيها ليس فقط لمصالحها الخاصة؛ بل أيضاً للمصالح العامة للمنطقة ودولها. لذا؛ باتت واشنطن تعدّ تطوير الشراكة مع الرياض مصلحة استراتيجية ثابتة، لا مجاملة سياسية ولا قضية وقتية.
وقَّع الأمير والرئيس اتفاقية الدفاع الاستراتيجية بين البلدين تعزيزاً للشراكة الدفاعية الممتدة، وحراسة لاستقرار المملكة، وازدهار المنطقة. وتُعدّ اتفاقية إنشاء وتشغيل قاعدة الظهران من قِبل الجيش الأميركي الموقّعة في 5 أغسطس (آب) 1945، أول اتفاقية عسكرية بين البلدين. وفي 18 يونيو (حزيران) 1951 وُقّعت اتفاقية تنظيم استخدام القاعدة أو ما عرف باتفاقية الدفاع المتبادل التي شملت تطوير وتسليح وتدريب الجيش السعودي. هذه العلاقة التاريخية جعلت المنتجات العسكرية الأميركية تمثل نحو 80 في المائة من منظومة الدفاع السعودية.
بينما دعا ولي العهد السعودي إلى اغتنام الفرص الجاذبة التي توفرها الشراكة السعودية الأميركية، وصف الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأمير محمد بن سلمان، بأنه أحد أعظم القادة في العالم، عادّاً السعودية أكبر حليف لأميركا من خارج «الناتو»
ماذا قال الزعيمان عن تعميق الشراكة بين البلدين؟… pic.twitter.com/XJfyk5gmZt— صحيفة الشرق الأوسط (@aawsat_News) November 20, 2025
لم تقف الشراكة العسكرية السعودية - الأميركية عند حدود التسليح، بل امتدت إلى تطوير الصناعات ونقل المعرفة، وتطوير القدرات البشرية والتنمية المستدامة التي أوجدتها القواعد والمدن العسكرية في عدد من المناطق السعودية.
أقام الرئيس ترمب لولي العهد حفلة عشاء رسمية في البيت الأبيض، أعلن خلالها تصنيف المملكة العربية السعودية رسمياً حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة من خارج «ناتو».
كما زار ولي العهد الكونغرس الأميركي والتقى رئيس مجلس النواب مايكل جونسون وعقد اجتماعات موسعة مع قيادات وأعضاء المجلس من مختلف اللجان.
خلال الزيارة تم التوقيع على عدد من الاتفاقيات والشراكات، من أهمها في تقديري: الشراكة الاستراتيجية للذكاء الاصطناعي، والتعاون في مجال الطاقة النووية، وتأمين سلاسل إمدادات اليورانيوم والمعادن الحرجة. وفي كل من هذه المجالات ميزة تنافسية سعودية وتقنيات أميركية ومنافع متبادلة. كما وُقّعت عشرات الاتفاقيات الأخرى على هامش منتدى الاستثمار السعودي - الأميركي، إنها اتفاقيات تحمل إرث الماضي بتوقيع المستقبل.
أعلن الأمير محمد أن الاستثمارات السعودية في أميركا سترتفع إلى تريليون دولار، ورد الرئيس ترمب بأن ذلك مهم للأمن القومي الأميركي؛ ما يؤسس لمرحلة جديدة في العلاقة الاستراتيجية، ويُمأسس هذه العلاقة ويضبط إعداداتها من خلال هذه الاتفاقيات، فعلى سبيل المثال تمتعت المملكة العربية السعودية عطفاً على علاقتها الاستراتيجية بالولايات المتحدة ووفقاً لتقديرات الإدارات الأميركية المتعاقبة، بمعظم امتيازات الدول الحليفة من خارج «ناتو»، لكن تصنيفها رسمياً يجعل هذه الامتيازات محصنة قانونياً.
تحدث الأمير، خلال المؤتمر الصحافي، بلغة واثقة وتعامل مع الإعلام الأميركي بإجابات حاسمة بيَّن فيها الحقائق بلياقة سياسية وشفافية عالية، وقال الأمير والرئيس الكثير خلال خطبهما وتعليقاتهما عن العلاقات بين البلدين، وفي كل كلمة إشارة وفي كل عبارة دلالة، كما كانت لغة الجسد أبلغ من الكلام. الخلاصة، أن العلاقة تزداد رسوخاً وعمقاً، متكئة على إرث تاريخي وإنجازات كبرى استفاد منها أجيال من السعوديين والأميركيين؛ بل وحتى العرب والمسلمين، وستستفيد الأجيال القادمة من العناوين الجديدة لهذه العلاقة عبر العقود المقبلة.
ترمب: السعودية وأميركا أكبر قوتين في العالم بمجال الطاقة#شاهد_الشرق_الأوسط#صحيفة_الشرق_الأوسط#صحيفة_العرب_الأولى pic.twitter.com/B0WK5bjCib
— صحيفة الشرق الأوسط (@aawsat_News) November 19, 2025
إن العناوين الجديدة للشراكة بين الرياض وواشنطن لم تعد تدور حول «الأمن مقابل النفط»، بل حول صياغة مستقبل مشترك يقوم على أربع ركائز أساسية، تتمثل في: أمن إقليمي تتحمل فيه المملكة دور القطب المستقر، واقتصاد عالمي تدعمه الاستثمارات السعودية الضخمة في الداخل الأميركي، وشراكات في مجالات الطاقة والتقنيات المتقدمة ترسم ملامح التحول الكبير في الذكاء الاصطناعي والطاقة والمعادن الممغنطة والحرجة، ونظام دولي يعاد تشكيله في مواجهة صعود قوى كبرى. وفي العقدين المقبلين ستحتاج أميركا إلى السعودية لضمان استقرار الطاقة، وموازنة الصين، وحماية الشرق الأوسط دون تدخل أميركي مباشر؛ بينما ستحتاج المملكة إلى التقنيات المتقدمة، والأسواق العميقة، والشراكات الاستراتيجية التي تُساعد على تحقيق رؤيتها. ويبقى التحدي الأكبر هو تحويل هذه المصالح المتبادلة إطاراً دائماً لا يتأثر بتبدّل الإدارات، بل يستند إلى فهم مشترك لمستقبل المنطقة والعالم. وهكذا تتأسس الشراكة الأعمق: شراكة تقود التحول، ولا تكتفي بالتكيف معه.
