يشبه أصغر فرهادي أفلامه، أو أفلامه هي التي تشبهه. المخرج الإيرانيّ العالميّ هادئ، يمنح الوقتَ وقتَه، ولا يدخل الأماكن حاملاً لافتةً كُتب عليها: «حائز على جائزتَي أوسكار». لكن كل مَن تجمهروا في المسرح الخارجيّ لـ«الهيئة الملكيّة للأفلام» في العاصمة الأردنيّة عمّان يعرفون ذلك. وفدوا إلى اللقاء مع فرهادي، ليس لأنه تُوّجَ بأوسكارَين فحسب، بل للاستفادة من خبرته السينمائية الطويلة والفريدة.
في الجلسة التي امتدّت ساعتَين من ضمن فعاليّات «مهرجان عمّان السينمائي الدولي»، حيث يحلّ فرهادي ضيف شرف، تحدّث السينمائيّ الإيرانيّ أمام جَمعٍ من المحترفين والمبتدئين. التفّ حوله مخرجون وممثلون وطلّاب وصحافيون، للاستماع إليه يتكلّم عن بداياته، ومفاتيحه السينمائيّة، وأبرز أفلامه، ومحطّتَيه في سباق الأوسكار، إلى جانب مواضيع أخرى. يستقبلونه بالتصفيق الحارّ فيبادلهم التحيّة بتوقّعٍ إيجابيّ: «أنا مؤمن بأن السنوات المقبلة ستشهد على خروج أفضل الأفلام من هذه المنطقة بالذات».
بدايات مسرحيّة
عاد فرهادي إلى سنته الـ13 في مسقط رأسه أصفهان، عندما صوّر باكورة أفلامه القصيرة، مزوّداً بكاميرته الأولى، ومحاطاً بفريقٍ من الأشخاص الذين يكبرونه بسنوات. أنجز 5 أفلامٍ قصيرة قبل أن يجري اختياره للتخصص في المسرح؛ «حزنتُ كثيراً لأنهم لم يُدخلوني معهد السينما، لكن مع الوقت أيقنتُ أن المسرح هو المكان الصحيح»، ويتابع: «لولا تلك الفترة، لما صرتُ ربّما مخرجاً سينمائياً».
يكشف عن أن في فيلمه الروائيّ الطويل الأول «Dancing in the Dust» أو «الرقص في الغبار» (2003)، انعكس الكثير ممّا تعلّمه من المسرحيّات التي قرأها. يقول فرهادي: «علّمني المسرح أن أمنح الجمهور الوقت كي يكتشف الشخصيات. وممّا تأتّى من ثقافة المسرح كذلك، مفهوم الصراع بين الخير والشرّ، حيث على المشاهدين أن يقرروا بأنفسهم مَن هم الأشرار ومَن هم الأخيار».
الموقف يحدّد الشخصيّة
بقيَ فرهادي وفياً لِما استقاه من دراسته المسرحيّة، ففي فيلمه «A Separation»، (انفصال)، الحائز «أوسكار» عام 2012، لم يصبغ أحداً من البطلَين بالأسود أو الأبيض، تاركاً الخيار للجمهور، «وبذلك أنا أجعل المشاهدين جزءاً من الفيلم»، وفق تعبيره.
غالباً ما يتحدّث فرهادي عن الموقف وكيف أنّ بنيتَه السينمائية تقوم على «وضع الشخصيات في مواقف دقيقة ومراقبة ردود أفعالها»، ويوضح أن تلك المواقف هي التي تحدّد تركيبة الشخصية وليست الحوارات الدائرة ما بينها التي تفعل ذلك.
بين مقتطفٍ وآخر من أفلامه الإيرانية الشهيرة والتي بُثّت على الشاشة الضخمة المرفوعة في المكان، يُدخل المخرج حاضري اللقاء إلى كواليس عمله؛ لا يبخل عليهم بمعلومة تقنيّة ولا يتردّد في البَوح ببعض أسرار المهنة.
وَحيٌ من القلب
عندما يُسأل عن مصادر وحيه، يقول إن «الإلهام ينطلق من اللاوعي ومن القلب». في «A Separation» على سبيل المثال، أتاهُ الوحي من صورةٍ حُفرت في مخيّلته لشقيقه وهو يساعد جدَّيهما المصاب بألزهايمر على الاستحمام. «لازمتني تلك الصورة لوقتٍ طويل ثم قررت أن أصنع منها شيئاً، فانطلقتُ منها لأركّب قصة نادر»، بطل الفيلم الذي يهتمّ بوالده المسنّ ويواجه مشكلات في علاقته الزوجيّة.
من القلب واللاوعي، ينتقل فرهادي إلى ما يسمّيها «العمليّات الحسابيّة» التي تحوّل فكرةً إلى فيلم. يسكب الفكرة على الورق مختصراً إياها بـ3 أو 4 أسطر، ثم يتصل بقريبٍ أو بصديق ليقرأها له. يهتمّ فرهادي كثيراً بآراء المحيطين به، يستشيرهم في كل قصةٍ ونص. وصل به الأمر مرةً أن أرسل سيناريو أحد أفلامه كاملاً إلى مُدرّسةِ ابنته، لمجرّد أن يأخذ رأي شخصٍ غريب بعيداً عن المجاملات.
هدفان في مرمى الأوسكار
يطول الحوار والغوص في كواليس العمل، ثم يعود فرهادي إلى تلك اللحظة التي وقف فيها على مسرح «الأكاديميّة الأميركية» حاملاً الأوسكار عام 2012. كانت ليلةً استثنائية في مسيرته السينمائية، عرّفت العالم عليه كأوّل مخرجٍ إيرانيّ يتوَّج بهذه الجائزة. يؤكّد أنه لم يتوقّع الأوسكار لـ«A Separation»: «كان في نظري فيلماً محلياً ذا ميزانيّة متواضعة. لم أحسب أنّ أحداً خارج البلد سيشاهده، إلى درجة أنني لم أُعدّ له ترجمة من الفارسيّة إلى الإنجليزية».
ما هي إلّا أسابيع بعد عرضه المحلّيّ، حتى اختير الفيلم للمشاركة في مهرجان برلين، وكرّت سبحة المهرجانات والجوائز، ليكون التتويج بالأوسكار. ولم تكن تلك نهاية المجد الهوليووديّ على درب فرهادي، فهو عاد إلى لوس أنجليس مع فيلمه «The Salesman»، (البائع)، عام 2017 ليرفع «أوسكار أفضل فيلم أجنبي» مرةً جديدة.
تعليقاً على هذَين الإنجازَين، يكتفي فرهادي بعبارةٍ بسيطة: «لا أصنع الأفلام من أجل الحصول على جوائز». ثم يضيف مبتسماً: «لو فكّرت في صناعة فيلم ضخم وعالمي وخططت لهذا الأمر، ربّما لم أنل الأوسكار».
لا يبدو فرهادي مستعجلاً على شيء. يتمهّل ليراقب ما يدور حوله، ويلتقط ما ترسله الحياة من إشاراتٍ يحلو له أن يسمّيها «هدايا». «قد يلفتُني مشهد غير متوقّع خلال التصوير فأعدّل بسببه النص المعدّ مسبقاً، ليصير لاحقاً أجمل لقطات الفيلم». يؤمن بأنّ «صناعة الأفلام ليست عبارة عن كتابة وإدارة ممثلين ومونتاج فحسب، بل الأهمّ هو أخذ متّسع من الوقت لمراقبة كل ما حولك». ثم ينصح المخرجين الصاعدين بألّا يستعجلوا النجاح والجوائز، ويزوّدهم بوصيّة أتته عن تجربة: «ليست الميزانيات الكبيرة هي الطريق إلى صناعة فيلمٍ جيّد».
وفق فرهادي فإنّ النهايات هي التي تحدّد جودة الأفلام، أما هو فيحاول ألّا تكون نهاياتُه عاطفيّة ومثيرة للدموع، بل محفّزة على التفكير. يقول: «أؤمن بالنهايات التي تمهّد لبداياتٍ أخرى».