مقهى العطاسين

مقهى العطاسين
TT

مقهى العطاسين

مقهى العطاسين

جدي هو الذي قادني إلى مقهى العطاسين! كان يغيب عن بيته الذي فيه جدتي وبناته الثلاث، بينهن أمي، وأنا طفلها الوحيد، لفترات طويلة، تمتد لأشهر، وحتى لسنوات! كان قد أتلف كل ما ورثه عن أسلافه من بساتين وأملاك على عشيقاته ومجالس سُكرِه ولهوه، ولا يعود إلى بيته الذي صار يتهدم ألا حين يلم به مرض أو عِوَز أو ندم لا يلبث أن يركله ويعاود سيرته الأولى!
وحين يعود، كانت جدتي وبناتها سرعان ما يغفرن له، ويقبلن عليه بحنان ورفق، لكنه يظل واجماً، مثل ضيف طارئ حزين مذعور، ثم فجأة يمسك يدي ويأخذني أنا الصبي دون التاسعة ناحل الجسد، إلى مقهى صغير في مدينتنا أيس يُدعى «مقهى فرج الله»! الذي صرت أسميه مقهى العطاسين... ذلك أن كل الذين يجلسون فيه هم في حالة عطاس دائم، ولا أدري لماذا يصطحبني، ربما لكي يُظهِر للناس أنه عكس ما عُرِف عنه ملتزم عائلته محبّ لها!
ما إن ندخل المقهى حتى تواجهنا موجة عطاس عالية ورذاذ يتطاير من أنوف وأفواه رجال كهول وشيوخ جالسين على تخوت عارية إلا من حصير خوص مهترئة. كان الجالسون عادة بثياب حائلة رثة حاسري الرؤوس أو يعتمرون عقلاً أو لفائف من قماش أبيض مائل للصفرة! بأيديهم حقق معدنية صغيرة تشبه علب ساعات الجيب، تحوي تبغاً مطحوناً أو غبارَه، يسمونه النشوق، يدسون قليلاً منه في مناخيرهم ليهيِّجوا أغشيتها، فينبرون في عطاس شديد كأنهم يدخلون به مباراة غريبة تدهشني وتجعلني أتلفت بينهم؛ ما إن ينتهي أحدهم من عطاسه حتى يبادره الآخرون بما يشبه النشيد: «يرحمكم الله»!
لم ألبث أن صرتُ أعطس مثلهم، ربما من غبار التبغ المتطاير أو بالإيحاء! أحياناً تنطلق منهم عبارة في السياسة عن مظاهرات في بغداد، أو حب بعضهم للملك وكره آخر له، وعن سقوط حكومة وقيام أخرى، أو شيء عن فلسطين، تنتهي كلها بموجات عطاس و«يرحمكم الله»! وأجدهم يقصفونني بالكثير من تلك الشظايا المتطايرة من أفواههم وأنوفهم، وأود مغادرة المقهى، لكني أخشى أن ينهرني جدي! سمعت أحدهم:
- يقولون إن العطاس هو احتضار، محاولة الروح للخروج من الجسد، ثم إذا انتهى بسلام؛ فهو ولادة جديدة!
ولم يعقِّب عليه أحد منهم سوى بمزيد من العطاس!
كنت أرقبهم مندهشاً، أقلب نظراتي متلفتاً بينهم، عيونهم دامعة كأنهم في بكاء أو احتضار طويل عسير، أجسامهم هزيلة، ووجوههم شاحبة! وأسمع أحدهم يقول عابساً: «لا عمل لدينا ولا مورد عيش، أنبقى نعطس ونعطس فقط ونرجو رحمة الله؟!»، ويرد آخر ضاحكاً: «ها هو غبار التبغ يحل المشكلة!»، وتعطس جماعة في زاوية؛ فيتصايحون: «يرحمكم الله!»، ويحيرني عطاسهم؛ أهو كله من غبار التبغ؟ أم أن أجسادهم تمسك بأرواحهم التي تريد أن تنطلق بعيداً، كما قال أحدهم قبل قليل؟
كنتُ أرى جدي بينهم وقد أخذت دموعه تسيل على وجهه الشاحب الذاوي الآن؛ وقد كان قوياً وسيماً في شبابه، كما يقولون، ولا أعرف أكان يبكي حظه وحظنا العاثر معه، أم هو فقط ذلك التبغ السحري المفعول؟ أم أن روحه تريد أن تخرج من بدنه فأحس بخوف وحزن!
كان الطريق الضيق الملتوي بين بيتنا والمقهى طافحاً بنور الغروب، وكان الشفق جرحاً كبيراً قانياً يقف بيني وبينه نازفاً، كانت أسئلة كثيرة تضج في صدري وتظل محتبسة لا أجرؤ أن أوجهها له. ربما كنت أريد أن أسأله: لماذا تهجر جدتي التي تحبك وتهجرنا؟ لماذا ضيعت كل ما تملك في اللهو ودمرت العائلة؟ لكن وجدت أن ما خرج من شفتي المرتجفتين سؤال أبله:
- لماذا لا نبقى نعطس في البيت، وليس في المقهى؟
أخذ يتأملني، كأنه لمس شيئاً مريباً في كلماتي وسحنة وجهي المرتجف بلون الغروب، فرد بلهجة أحسستها مرتجفة أيضاً:
- ملعون... صرت تفتهم!
ذلك اليوم ما إن جلس في المقهى وأدخل يده في جيبه حتى صاح بي:
- نسيت حق النشوق، اذهب إلى البيت واجلبه بسرعة!
قالها بلهجة زاجرة، كأنه يؤنبني أو يحاسبني على ذنب لي أو على ذنوبه هو! أسرعت راكضاً إلى البيت، راحت جدتي تدور مرتبكة وجلة باحثة بين أشيائه القليلة التي لديها منها، أخيراً وجدته في ثوب قديم له، كان حقاً معدنياً فضي اللون بدأ طلاؤه يتساقط. ركضت به، اعترضني كلب سائب جائع في الطريق وكاد ينقض علي فأخرني قليلاً وأنا أراوغه لاهثاً مثله؛ لكنني اقتربت من المقهى، فلمحت عند بابه لمة أناس أصواتهم تصلني موحدة بنشيد «ليرحمه الله»، فانقبض قلبي وتوجس، كان جدي بين أيديهم جثة هامدة... سمعت أحدهم يقول: «رحم به ربه فأخذ روحه في أول عطسة!»، ولأيام، بل سنوات لاحقة، أسمع جدتي التي نالها منه أذى كبير كلما ذكره أحد تقول: «لم يتعذَّب في موته؛ عطسة واحدة فقط وخرجت روحه إلى بارئها»، فتأخذني نوبة عطاس، وأحسني في مقهى العطاسين أستنشق ذلك الغبار دامع العينين!

* كاتب عراقي


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)
جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)
TT

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)
جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ نجمتين عالميتين تقديراً لمسيرتيهما، هما الأميركية فيولا ديفيس، والهندية بريانكا شوبرا.

واختتم المهرجان عروضه بفيلم «مودي... 3 أيام على حافة الجنون» الذي أخرجه النجم الأميركي جوني ديب، ويروي حكاية الرسام والنحات الإيطالي أميديو موديلياني، خلال خوضه 72 ساعة من الصراع في الحرب العالمية الأولى.

واختير فيلم «الذراري الحمر» للمخرج التونسي لطفي عاشور لجائزة «اليُسر الذهبية» كأفضل فيلم روائي، أما «اليُسر الفضية» لأفضل فيلم طويل، فنالها فيلم «إلى عالم مجهول» للفلسطيني مهدي فليفل، بالإضافة إلى جائزة خاصة من لجنة التحكيم نالها فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» لخالد منصور.