انظُرْ وراءك... بهدوء!

الكاتب النبيل هو من يزج قارئه في روح العصر

غوته - جون أوزبورن
غوته - جون أوزبورن
TT

انظُرْ وراءك... بهدوء!

غوته - جون أوزبورن
غوته - جون أوزبورن

أرادَنا (جون أوزبورن)، الكاتبُ المسرحي البريطاني وأحد أقطاب جيل الغضب، أن ننظر وراءنا بغضب في منتصف خمسينات القرن الماضي، حيث العالم يفورُ بتبعات الحرب العالمية الثانية على أصعدة السياسة والاقتصاد والثقافة.
من جانبي، أرى أنّ جيل الغضب صار تذكرة بواقعة في التاريخ ذهبَتْ إلى قعر النسيان كمثل ملايين سواها من الوقائع العالمية؛ لكن لا بأس من استذكارها لسببيْن: الأول، هَلْ من المُجدي أن ننظر وراءنا، أو بمعنى آخر: أن نستذكر التاريخ الشخصي القريب والبعيد على الصعيد الفردي؟ والثاني، هل هي ضرورة لازمة أن نستذكر تاريخنا الشخصي بغضب؟
الناس في العادة مأخوذون بالمستقبل ومسكونون بممكناته الكثيرة. لماذا؟ لأنه قرينُ الإمكانات المضمرة التي يمكن أن تتحقق، ولأنه ينطوي على شيء من التفاؤل - لو أردنا - حتى لو كان هذا التفاؤل من باب التمرين النفسي فحسب؛ أما التاريخ فقد مضى وصار كتلة من وقائع لها مسار واحد لا نحيد عنه ولا يمكن أن نجد له بديلاً ممكناً باستثناء القراءات التأويلية الشخصية له. التاريخ مقترن اقتراناً شرطياً بالواحدية والحتمية وإن كان من الممكن تأويل وقائعه لصالحنا؛ أما المستقبل فمنفتحٌ على تعددية المسارات وكثرة الممكنات واحتمالية النتائج. أظنّ أنّ هذا السبب هو ما جعل بعضاً من الكُتّاب - أمثال هـ. جي. ويلز - يجعلون من آلة الزمن رمزاً ثورياً للمستقبل وما يحمله العلم من ممكنات في تطوير الحياة واستشراف آفاق لها غير تلك التي قُدّرَتْ على العقل غير العلمي. هل سمعتم يوماً بآلة زمنٍ تغوصُ في قعر التاريخ؟ ولماذا تفعل والتاريخ أمامنا كتابٌ مفتوح مقروءة كلّ صفحاته بدقة؟ ربما قد نفعل ذلك لو شئنا خلق عوالم موازية يمكن فيها متابعة مسارات جديدة لحياتنا غير التي حصلت فعلاً؛ لكنّ هذا الأمر يقعُ في باب التخييل السردي فحسب.
لكنْ من الممكن أن تكون مراجعة الماضي لكلّ من الفرد والمجتمع فعالية حيوية متى ما كانت لمقارنة واقع الحال ووضعه في نطاق المساءلة النقدية: هل تطوّرْنا أم تراجعْنا؟ وما مقدار هذا التطوّر أم التراجع؟ من الطبيعي إذا أردنا قياس مناسيب التطور أو التراجع أن نتخذ مفصلاً زمنياً أداة قياس مرجعية مع الماضي، وليس أفضل من الحاضر مرجعية للمقارنة مع الماضي. أهمُّ ما في الأمر أن تحصل المقارنة بهدوء، من غير غضب، ومن غير انفعالات لحظية يستوجبها ظرف آني ما، وأن نحافظ على حياديتنا الصارمة. لسْنا في معرض مباراة في سوق عكاظ شعري أو برنامج استعراضي للبهرجة الكلامية Talk Show، وليس من المجدي أن يخدع المرء ذاته.
لو أردتُ الحديث عن نفسي لكشف خطّ تطوّري الشخصي فسأقول: أراني اليوم، وبالمقارنة ما كنتُ عليه قبل ثلاثين سنة، كائناً مغترباً عمّا كنتُهُ. الاغترابُ هذا ليس اغتراباً استلابياً سيء المفاعيل والنواتج طبقاً للفلسفة الماركسية؛ بل أحسبه اغتراباً صحياً كشف لي فقر واقعنا الثقافي والعلمي وهشاشة مؤسساتنا الثقافية في العراق. أدركتُ اليوم كم كانت ضحلة تلك المياهُ التي كنا نخوضُ فيها ونحسبها محيطات عميقة. كانت وسائلنا المعرفية وأدواتنا المفاهيمية بسيطة قاصرة، وأقسى ما في الأمر أن يعيش المرء هذه الهشاشة، وهو يحسبُ أنه محمي داخل خزانة مصفحة. كنّا نكتفي بعُدّتنا (وهي عدّة أدبية بالمعنى التقليدي للأدب)، ولم تكن المباحث المعرفية الأخرى ذات شأن لنا. كنا ننظرها من بعيد ونتجاهلها؛ فما لنا والعلم والتقنية والاقتصاد والسياسة؟ ربما كانت لنا بعضُ الشغف والمعرفة في هذه الميادين؛ لكنّ الخصيصة المميزة لهذه المعرفة هي تبعثرها وعدمُ انتظامها في سياق نسقي منتج.
سأسجّلُ لكم مثالاً يبيّن حجم القصور في نظرتنا حينذاك. ما وسيلة الأدب في نهاية المطاف؟ وسيلتُهُ اللغة لأنها وسيطنا التواصلي مع البشر. ما اللغة؟ هي تراكيب رمزية ذات محمول دلالي Semantic وتقعيد نحوي Syntactic ومنشأ بيولوجي عصبي (دماغي) Cerebral. هل تحسبون بعد هذا أنّ موضوع نشوء اللغة وتطورها هو مما لا شأن للمهتمين بالأدب به؟ اللغة موضوع تشتبك فيه البيولوجيا العصبية وعلم النفس الإدراكي والمباحث الفلسفية، وليس من المقبول أن يتعامل المرء بوسيط يجهل تاريخ نشوئه وتطوّره. سيعترضُ معترضون: هل علينا إذا أردنا أن نكون مبدعين أن نتابع أمر اللغة؟ الجواب: نعم، ينبغي هذا لسببين على الأقل، الأول يختصُّ بحقيقة أنّ تعاظم مناسيب المعرفة بوسيطنا الإبداعي (اللغة) سيعمل بوسائل شعورية ولا شعورية في الارتقاء بعملنا الإبداعي، والثاني يختصُّ بحقيقة أنّ استكشافنا للحفريات العلمية في اللغة سيقودُ إلى انفتاح مجالات كتابية إبداعية ليس بوسع الكُتّاب (التقليديين) تصوّرها. هذا مثال واحد فحسب يخصّ اللغة؛ فكيف الحال بمئات وآلاف الموضوعات البحثية الأخرى؟
عندما أرى كتاباتي وأعمالي قبل عشرين أو ثلاثين سنة أشعرُ أحياناً بالضيق وأتساءل: لماذا لم أكتب المسألة الفلانية بشكل آخر وبطريقة أخرى؟ حتى التقنيات الإبداعية والمقاربات السردية تتبدّلُ على ضوء التراكم المعرفي المستجد، وهذه حالة طبيعية لكلّ شخص يستزيد خبراتٍ مع الزمن؛ لكن هذه الاستزادة لن تأتينا بطريقة ميكانيكية، يجب أن نفتح حواسنا وعقولنا وأن نعمل على تغيير طريقة تفكيرنا، ولن يحصل هذا الأمر إلا بمثابرة ومشقة تقودها بصيرة شغوفة.
أطالعُ، وعلى نحو يومي، الكثير من المقالات الصحافية والموضوعات المختلفة في شتى الميادين وبخاصة العلمية والأدبية والفلسفية منها، ويحصلُ كثيراً أن أتحسس منذ السطور الأولى أنّ الكاتب يكتب بطريقة صرتُ أسميها طريقة «صندوقية»، وهي توصيف يرادُ منه الإشارة إلى مَنْ يكتبُ على طريقة ستينات وسبعينات القرن الماضي: تقسيم المعرفة البشرية إلى قلاع حصينة معزولة ومسوّرة بأسوار حجرية شاهقة، كلّ قلعة لا علاقة لها بسواها، والمدافعون عن كل قلعة مسكونون بحمى الدفاع عن أسوار قلعتهم الحصينة في مواجهة القلاع الأخرى.
لنجرّبْ جميعاً هذه التجربة المفيدة وبخاصة لمن يحترفون الكتابة الإبداعية وكتابة المقالات الصحافية والموضوعات الفكرية العامة: لنقرأ شيئاً من الفيزياء والاقتصاد وعلم الاجتماع والفلسفة - وكلّ ما يمكننا قراءته وتأنس عقولنا له - في سياق تفاعلي نسقي يجعل من المعرفة الإنسانية وحدة كلية مستديمة التفاعل والتأثير في حياة البشر. الجميلُ في الأمر هو وجود الكثير من المؤلفات التي تحقق مطلب الوحدة النسقية في هذه الميادين المعرفية، وهذه المؤلفات تخاطب القارئ العام، شرط أن يكون شغوفاً وراغباً في الاستزادة المعرفية. سيكون أمراً مفيداً للغاية أن تكون قراءتنا في سياق تاريخي وفلسفي بدلاً من قراءة المصنّفات التقنية المجرّدة حتى لا ترتدّ نواتج القراءة عزوفاً مِنّا في مرحلة لاحقة، وسنرى أي نتائج ساحرة ستكون لهذه الفعالية على أدائنا الإبداعي.
نحتاجُ جميعاً من وقت لآخر إلى النظر وراءنا، إلى تاريخنا الفكري الشخصي بهدوء، لكي نعرف ملامح التطوّر المعرفي في أدائنا. يبدو أمراً عظيم الأهمية أن نتساءل دوماً: هل نكتب بذات الطريقة والمقاربة الفكرية التي كنا نفعلها من قبل؟ ألا توجد ملامح للجدة في كتابتنا؟ هل أنّ ما نكتبه يصلحُ لأن يمدّ جسوراً مع الثقافة العالمية أم أنه جزيرة معزولة نكتفي بإعادة تدوير أفكارنا فيها؟
كلنا في حاجة لا بديل عنها لنكون شجعاناً ونمتحن تاريخنا الفكري، وبغير هذا سنكونُ كَمَنْ يبدّدُ وقته المحدود والثمين، والأقسى من هذا هو تبديد أوقات القرّاء الذين نخاطبهم. القارئ هو - دوماً - العنصر الأكثر أهمية بين العناصر التي يحسب كلّ كاتب حسابها ويضعها في مركز اهتماماته، وهو (القارئ) مسؤولية كبرى على الأصعدة الرمزية والاعتبارية، وليس بكاتبٍ حقيقي من يتملّصُ من هذه المسؤولية أو يخفف من أعبائها أو يجعل قارئه عاجزاً مركوناً خارج نطاق الحراك الفكري الذي يقودُ العصر.
تحدّث الشاعر الألماني الكبير (غوته) عن مفهوم أسماه روح العصر Zeitgeist هو في بعض توصيفاته إشارة إلى المعرفة الإنسانية النسقية الشاملة المؤثرة في تشكيل الصورة الفكرية لعصرٍ بعينه. كلّ كاتب نبيل سيعرف - ولو بعد حين - أنّ واجبه الأخلاقي الأوّل يتجوهر في محاولة تحفيز قارئه لينغمس في قلب روح العصر بدل الاسترخاء في هوامش الحياة القصية أو صناديق مقفلة للمعرفة.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«صوت ملاك»... ترمب يشيد بأندريا بوتشيلي

المغني الأوبرالي الإيطالي أندريا بوتشيلي يقدم عرضاً خلال قرعة كأس العالم لكرة القدم 2026 (أ.ف.ب)
المغني الأوبرالي الإيطالي أندريا بوتشيلي يقدم عرضاً خلال قرعة كأس العالم لكرة القدم 2026 (أ.ف.ب)
TT

«صوت ملاك»... ترمب يشيد بأندريا بوتشيلي

المغني الأوبرالي الإيطالي أندريا بوتشيلي يقدم عرضاً خلال قرعة كأس العالم لكرة القدم 2026 (أ.ف.ب)
المغني الأوبرالي الإيطالي أندريا بوتشيلي يقدم عرضاً خلال قرعة كأس العالم لكرة القدم 2026 (أ.ف.ب)

أشاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، مساء أمس (الجمعة)، بالمغني الأوبرالي الإيطالي أندريا بوتشيلي، وقال إن لديه «صوت ملاك». ودخل الرئيس الغرفة الشرقية بالبيت الأبيض، برفقة زوجته السيدة الأولى ميلانيا ترمب وبوتشيلي.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب والسيدة الأولى ميلانيا يسيران أمام الموسيقي أندريا بوتشيلي وزوجته فيرونيكا بيرتي في البيت الأبيض (رويترز)

وقال ترمب إنه وبوتشيلي صديقان، وسأل قبل نحو 4 أسابيع عما إذا كان بوتشيلي سيغني في البيت الأبيض. وأشار إلى أن بوتشيلي وافق خلال «لحظة ضعف».

وحضر الحفل الخاص في البيت الأبيض مشرعون جمهوريون وأعضاء في حكومة ترمب.

وأفاد ترمب: «هذا شرف هائل. سوف نستمع إلى صوت، صوت ملاك».

أندريا بوتشيلي يغني خلال قرعة كأس العالم لكرة القدم 2026 (أ.ب)

وكان بوتشيلي قد قام بالغناء في وقت سابق يوم الجمعة، في حفل إجراء قرعة كأس العام لكرة القدم بمركز كيندي.


كريتي سانون تروي رحلتها من دروس شاروخان إلى شجاعة الاختيار

الفنانة الهندية تحدثت عن تجربتها في السينما (مهرجان البحر الأحمر)
الفنانة الهندية تحدثت عن تجربتها في السينما (مهرجان البحر الأحمر)
TT

كريتي سانون تروي رحلتها من دروس شاروخان إلى شجاعة الاختيار

الفنانة الهندية تحدثت عن تجربتها في السينما (مهرجان البحر الأحمر)
الفنانة الهندية تحدثت عن تجربتها في السينما (مهرجان البحر الأحمر)

في واحدة من أكثر الجلسات جماهيرية في مهرجان البحر الأحمر السينمائي هذا العام، حلّت الممثلة الهندية كريتي سانون في ندوة حوارية تحوّلت سريعاً من حوار تقليدي إلى عرض كامل تفاعل خلاله الجمهور بحماسة لافتة، حتى بدا المشهد وكأنه لقاء بين نجمة في ذروة تألقها وجمهور وجد فيها مزيجاً من الذكاء والعفوية والثقة.

منذ اللحظة الأولى، بدا واضحاً أن الجمهور جاء محملاً بأسئلته، فيما شجع التفاعل الجماهيري الممثلة الهندية على أن تجيب بصراحة عن كل ما يتعلق بمسيرتها، ومن بين كل أسماء الصناعة، لم يلمع في حديثها كما لمع اسم شاروخان. توقفت عند ذكره كما يتوقف شخص أمام لحظة صنعت في داخله تحولاً، وصفته بأنه «الأكثر ذكاءً وخفة ظل» ممن قابلتهم، ومثال حي على أن الفروسية والذوق الرفيع لا يزالان ممكنَين في صناعة صاخبة.

واستعادت كريتي كيف كان شاروخان ينظر إلى من يتحدث معه مباشرة، وكيف يمنح الجميع احتراماً متساوياً، حتى شعرت في بداياتها بأنها تلميذة تقع فجأة في حضرة أستاذ يعرف قواعد اللعبة من دون أن يستعرضها، ومع أن كثيرين يرون أن سانون دخلت عالم السينما من باب الجمال والأزياء، فإنها أكدت أن دراستها للهندسة لعبت دوراً في دخولها مجال الفن باعتبار أنها تعلمت منها أن كل شيء يجب أن يكون منطقياً وقائماً على أسئلة لماذا؟ وكيف؟

وأوضحت أن تحليل الأمور ومراجعتها منحتاها أدوات لم يمتلكها ممثلون آخرون، مروراً بتجارب وورشات تمثيل طويلة، فيما كانت هي تتعلم على أرض الواقع عبر طرح الأسئلة، حتى تلك التي قد يضيق منها البعض أو يعدها دليلاً على التردد.

الممثلة الهندية خلال جلستها الحوارية (مهرجان البحر الأحمر)

توقفت أيضاً في حديثها عند واحدة من أكثر محطاتها صعوبة، شخصية الروبوت «سيفرا» في فيلم «لقد وقعت في شرك كلامك»، شارحة أنها كانت لعبة توازن دقيقة بين أن تكون آلة بما يكفي ليصدّقها المشاهد، وإنسانة بما يكفي ليُصدّقها شريكها في الفيلم، مشيرة إلى أنها لم ترمش في أثناء الحوارات، وضبطت كل حركة لتكون دقيقة ومحسوبة، ورغم أنها معروفة بخفة الحركة و«العثرات الطريفة» كما وصفت نفسها، فإن أكثر ما أسعدها في الفيلم كان مشهد «الخلل» الذي ابتكرته بنفسها، لتمنح الشخصية ملمساً أكثر واقعية.

لكن اللحظة الأكثر دفئاً كانت عندما تحدثت عن الموسيقى، وعن دورها في مسيرتها؛ حيث روت كيف كانت غرف التسجيل التي تعمل فيها مع الملحّنين تشبه «متجر حلوى»، وكيف كان اللحن يُولد من جلسة ارتجال بسيطة تتحول بعد دقائق إلى أغنية جاهزة، ومع أن الجلسة كانت مليئة بالضحك واللحظات الخفيفة، فإنها لم تخفِ الجانب العميق من تجربتها، خصوصاً عندما تحدثت عن انتقالها من الإعلانات والصدفة إلى البطولة السينمائية.

وروت كيف أن فيلم «ميمي» منحها مساحة أكبر مما حصلت عليه في أي عمل سابق، وغيّر نظرتها إلى نفسها بوصفها ممثلة، مؤكدة أن ذلك العمل حرّرها من الحاجة الدائمة إلى إثبات ذاتها، وأعطاها الشجاعة لاختيار أدوار أكثر مجازفة. ومنذ ذلك الحين -كما تقول- لم تعد في سباق مع أحد، ولا تبحث عن لائحة إيرادات، بل عن أن تكون أفضل مما كانت عليه أمس.

وحين سُئلت عن فيلمها الجديد «تيري عشق مين» وعن موجة النقاشات التي أثارها على مواقع التواصل، أكدت أنها تتابع الآراء بشغف، لأن السينما تشبه اللوحة الفنية التي يراها كل شخص من زاوية مختلفة، مشيرة إلى أن الناس يتفاعلون مع قصة الفيلم، لأنهم قد عرفوا في حياتهم شخصاً مثل الممثلين.

وأكدت أن جزءاً من التفاعل يرجع إلى كون العمل يعرض الحب السام من جهة، لكنه يتيح للشخصية النسائية أن تُسمّيه وتواجهه، وهذا ما تعدّه تطوراً مهماً في كتابة الشخصيات النسائية، فلم تعد المرأة مجرد ضحية أو محبوبة مثالية، «فالمرأة المعاصرة على الشاشة يمكن أن تكون معقدة، متناقضة، واقعية، ومحبوبة رغم كل ذلك»، حسب تعبيرها.


جيسيكا ألبا تكشف عن مشروع سينمائي مع هيفاء المنصور

جيسيكا ألبا خلال حضورها مهرجان البحر الأحمر (إدارة المهرجان)
جيسيكا ألبا خلال حضورها مهرجان البحر الأحمر (إدارة المهرجان)
TT

جيسيكا ألبا تكشف عن مشروع سينمائي مع هيفاء المنصور

جيسيكا ألبا خلال حضورها مهرجان البحر الأحمر (إدارة المهرجان)
جيسيكا ألبا خلال حضورها مهرجان البحر الأحمر (إدارة المهرجان)

كشفت الفنانة الأميركية جيسيكا ألبا عن ملامح مشروع سينمائي جديد يجمعها بالمخرجة السعودية هيفاء المنصور، مشيرة خلال ندوتها في «مهرجان البحر الأحمر السينمائي» إلى أن هذا التعاون لم يتشكل بين ليلة وضحاها، بل جاء نتيجة نقاشات طويلة امتدت على مدار سنوات.

وأوضحت في اللقاء الذي أقيم، الجمعة، أن الفكرة التي استقرتا عليها تدور حول قصة إنسانية عميقة تتناول علاقة ابنة بوالدها المتقدّم في العمر، ضمن سردية تقترب من تفاصيل العائلة وتحولاتها، وتسلّط الضوء على هشاشة العلاقات حين تواجه الزمن، وما يتركه ذلك من أسئلة مفتوحة حول الذاكرة والواجب العاطفي والمسؤولية المتبادلة.

وأضافت أن ما شدّها إلى المشروع ليس موضوعه فقط، بل الطريقة التي تقارب بها هيفاء المنصور هذه العلاقات الحسّاسة وتحولها إلى لغة بصرية تتسم بالهدوء والصدق، لافتة إلى أن «هذا التعاون يمثّل بالنسبة لي مرحلة جديدة في اختياراتي الفنية، خصوصاً أنني أصبحت أكثر ميلاً للأعمال التي تمنح الشخصيات النسائية مركزاً واضحاً داخل الحكاية، بعيداً عن الأنماط التقليدية التي سيطرت طويلاً على حضور المرأة في السينما التجارية».

وأشارت إلى أنها تبحث اليوم عن قصص تستطيع فيها المرأة أن تظهر بوصفها شخصية كاملة، تملك مساحتها في اتخاذ القرارات والتأثير في مسار الحكاية، وهو ما تراه في مشروعها مع المنصور، الذي وصفته بأنه «قريب من قلبها»؛ لأنه يعيد صياغة علاقة الأم والابنة من منظور مختلف.

وخلال الندوة، قدّمت ألبا قراءة موسّعة لتغيّر مسارها المهني خلال السنوات الأخيرة، فهي، كما أوضحت، لم تعد تنظر إلى التمثيل بوصفه مركز عملها الوحيد، بل بات اهتمامها الأكبر موجّهاً نحو الإنتاج وصناعة القرار داخل الكواليس.

وأكدت أن دخولها عالم الإنتاج لم يكن مجرد انتقال وظيفي، وإنما خطوة جاءت نتيجة إحساس عميق بأن القصص التي تُقدَّم على الشاشة ما زالت تعكس تمثيلاً ناقصاً للنساء وللأقليات العرقية، خصوصاً للمجتمع اللاتيني الذي تنتمي إليه.

وتحدثت ألبا عن تجربة تأسيس شركتها الإنتاجية الجديدة، معتبرة أن الهدف منها هو خلق مساحة لصناع المحتوى الذين لا يجدون غالباً فرصة لعرض رؤاهم، موضحة أن «غياب التنوّع في مواقع اتخاذ القرار داخل هوليوود جعل الكثير من القصص تُروى من زاوية واحدة، ما أدّى إلى تكريس صور نمطية ضيّقة، خصوصاً فيما يتعلّق بالجاليات اللاتينية التي غالباً ما تظهر في الأعمال ضمن أدوار مرتبطة بالعنف أو الجريمة أو الأعمال الهامشية».

وشددت على أنها تريد أن تساهم في معالجة هذا الخلل، ليس عبر الخطابات فقط، بل من خلال إنتاج أعمال تظهر فيها الشخصيات اللاتينية والعربية والنساء بصورة كاملة، إنسانية، متنوّعة، لافتة إلى أن تنوّع التجارب الحياتية هو العنصر الذي يجعل صناعة السينما أكثر ثراء، وأن غياب هذا التنوع يجعل الكثير من الكتّاب والمخرجين عاجزين عن تخيّل شخصيات خارج ما اعتادوا عليه.

وأضافت أن مهمتها اليوم، من موقعها الجديد، هي فتح المجال أمام أصوات غير مسموعة، سواء كانت نسائية أو تنتمي إلى أقليات ثقافية واجتماعية، لافتة إلى أنها تعمل على تطوير فيلم جديد مع المخرج روبرت رودريغيز، يعتمد على مزيج من الكوميديا العائلية وأجواء أفلام السرقة، مع طاقم تمثيل لاتيني بالكامل.

وأوضحت أن هذا العمل يأتي امتداداً لرغبتها في دعم المواهب اللاتينية، وفي الوقت نفسه تقديم أعمال جماهيرية لا تُختزل في سرديات العنف أو الهوامش الاجتماعية، واصفة المشروع بأنه خطوة مختلفة على مستوى بنية الحكاية؛ لأنه يجمع بين الترفيه والأسئلة العائلية، ويقدّم الشخصيات اللاتينية في إطار طبيعي وغير مصطنع.

وتوقفت جيسيكا عند مشاركتها المرتقبة في فيلم «الشجرة الزرقاء»، ويتناول علاقة أم بابنتها التي تبحث عن استقلاليتها رغم حساسية ظروفها موضحة أن ما جذبها لهذا العمل هو طبيعته الهادئة، واعتماده على بناء علاقة حميمة بين شخصيتين، بعيداً عن الصراعات المفتعلة، معتبرة أن هذا النوع من الحكايات يمثّل مرحلة أصبحت قريبة جداً منها في هذه الفترة من حياتها.