في ديسمبر (كانون الأول) من عام 2020، أعلن فريق علمي نتائج اختبارات سريرية حديثة ومشجعة لاستخدام التعديل الوراثي لعلاج مرض الأنيميا المنجلية، وهو مرض معروف بأنه نوع من فقر الدم الوراثي ينتج عن طفرة في المادة الوراثية (DNA) في الجين المسؤول عن إنتاج بروتين الهيموغلوبين. وتغير هذه الطفرة شكل كريات الدم الحمراء من الشكل الكروي إلى المنجلي، فتفقد قدرتها على نقل كمية الأكسجين المعتادة، وينعكس هذا على المريض في نوبات ألم شديدة والتهابات حادة وغيرها من الأعراض. وعادة يحتاج مرضى الأنيميا المنجلية إلى نقل دم مستمر وأدوية مدى الحياة. لكن المرضى الذين عولجوا بالتعديل الوراثي اختفت نوبات ألمهم، واستغنوا عن نقل الدم، وتلاشت الآثار الجانبية للعلاج مع الوقت. هذه أول دراسة تستعمل تقنية جديدة للتعديل الوراثي - تدعى «كريسبر» (CRISPR) - لعلاج الأمراض في الإنسان، ونتائجها مشجعة.
إذن، فإنها مسألة وقت، لأن نشهد تطبيق هذه التقنية على أمراض وراثية أخرى كثيرة. فما التعديل الوراثي؟ وما علاقة تقنية كريسبر الجديدة بجائحة «كوفيد - 19»؟ وهل يمكن أن نوظفها لنصمم أطفالنا كيفما نشاء؟
التعديل الوراثي
تحدثت إلى «صحتك» الدكتورة مجد بنت يوسف عبد الغني باحثة دكتوراه في قسم العلوم الطبية بجامعة أكسفورد ببريطانيا وحائزة على منحة الدراسات العليا الدولية رودز (The Rhodes Scholarship) - فأوضحت أن كل خلية من خلايا جسمنا تحمل المادة الوراثية على شكل الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA)، الذي يخزن التعليمات التي تكوّننا مشفرة على شكل جينات، مثلاً هناك جين للون العين، وجين لإنتاج الإنسولين، وجينات تحدد طولنا، وهكذا. لأسباب كثيرة، قد تحصل أحياناً طفرات في التعليمات المشفرة في المادة الوراثية، وهذه الطفرات قد تسبب أمراضاً كالسرطان أو الأنيميا المنجلية أو أنيميا الثلاسيميا وغيرها. وقد تكون هذه الطفرات وراثية، أي أنها تنتقل من الأب أو الأم لأطفالهما. وعلى سبيل المثال، فإن الطفرات التي تسبب الأنيميا المنجلية والثلاسيميا منتشرة في السعودية لدرجة أنها صارت جزءاً من فحص ما قبل الزواج كي نحد من انتشارها في الأجيال القادمة.
التعديل الوراثي هو تعديل الـDNA لإصلاح الطفرة وعلاج المرض. وتقنيات التعديل الوراثي موجودة منذ السبعينات تقريباً، لكنها كانت صعبة ومكلفة وتستغرق وقتاً طويلاً، بالإضافة إلى أنها لم تكن دقيقة أبداً، فكان تطبيقها على الإنسان أمراً شبه مستحيل. وتغير هذا كله عندما اكتشف، بالصدفة، فريق من العلماء الجهاز المناعي في البكتيريا، واكتشفوا أنهم قادرون على هندسة هذا الجهاز المناعي لجعله يعدل جينات الإنسان بدقة وسهولة وسرعة وكفاءة عالية. قبل 10 سنوات فقط، كان هذا شيئاً لا يمكن تصوره.
كيف وصلنا من الجهاز المناعي للبكتيريا إلى تقنية غيرت العالم، وحصل مطوروها على جائزة نوبل في عام 2020؟ تجيب الدكتورة مجد عبد الغني بأن هذه من أروع القصص العلمية: ففي التسعينات لاحظ علماء البكتيريا أن المادة الوراثية (DNA) للبكتيريا فيها أجزاء مكررة بشكل منتظم. للتوضيح، يمكن أن نتخيل المادة الوراثية في كل خلية حية، سواء بكتيريّة أو إنسانية، ككتاب مكوّن من أحرف وكلمات. هؤلاء العلماء لاحظوا كلمة معينة في مادة البكتيريا الوراثية، بعدها تقريباً 20-50 حرفاً، ثم تتكرر الكلمة نفسها، وبعدها 20-50 حرفاً مختلفة، ثم تتكرر الكلمة نفسها، وهكذا، فسموها التكرارات القصيرة منتظمة التباعد (Clustered Regularly Interspaced Short Palindromic Repeats)، أو «كريسبر» (CRISPR) للاختصار.
لم يكن لدى العلماء أي فكرة عن الهدف من هذه التكرارات ولا عن معنى الـ20-50 حرفاً التي بين كل كلمة مكررة. ثم مع الوقت اتضح أن هذه الحروف تطابق تسلسلات في المادة الوراثية لفيروسات تهاجم البكتيريا، كأن البكتيريا تقتص جزءاً من المادة الوراثية لأي فيروس يهاجمها، وتحفظ هذا الجزء عندها في مادتها الوراثية الخاصة لتتذكر الفيروس لاحقاً. واكتشفوا أن البكتيريا التي تحمل الحروف المطابقة لـDNA فيروس معين، تتمتع بالحماية منه.
القص الجيني
وكيف يتم ذلك؟ عندما يهاجم فيروس خلية البكتيريا، تصنع البكتيريا نسخة من الحروف التي بين الكلمات المكررة، وترسلها لإنزيم كالمقص اسمه «كاس (CAS)» أو«CRISPR-associated nuclease». يأخذ «كاس» نسخة الحروف هذه وينطلق للمادة الوراثية للفيروس الدخيل، ويتصفحها بحثاً عن تطابق بين الحروف التي معه ومادة الفيروس الوراثية. إذا حصل تطابق، يقص «كاس» المادة الوراثية للفيروس في مكان التطابق نفسه بالضبط، وبالتالي يتدمر الفيروس لأنه لا يقدر على شيء من دون المادة الوراثية.
عندما فهم العلماء كيف تعمل تسلسلات «كريسبر» مع إنزيم «كاس»، أدركوا أنهم قادرون على تطبيق الشيء ذاته في خلايا الإنسان، بحيث إذا وضعوا هذا الإنزيم في خلايا بشرية، وأعطوه تسلسلات لحروف تطابق مكاناً معيناً في المادة الوراثية، سيعمل بالطريقة نفسها: يجد الجزء من مادتنا الوراثية الذي يطابق هذه الحروف، ويقتص المادة الوراثية في هذا المكان.
قد يتساءل القارئ: وماذا إذا اقتصصنا المادة الوراثية؟ كيف يسمح لنا ذلك بأن نعدله؟ أليست في الحقيقة مشكلة كبرى أن مادتنا الوراثية مقصوصة الآن؟ تجيب الدكتورة مجد عبد الغني بأن نفكر بها كملف «وورد». نستطيع البحث عن أي كلمة نريدها في ملف الوورد بضغط «ctrl+F» وكتابة الكلمة (هذه نفس عملية إعطاء إنزيم «كاس» التسلسلات التي نرغب في تعديلها). إذا وجدنا الكلمة في ملف الوورد، نستطيع مسحها - وهذا القص نفسه الذي يقوم به إنزيم «كاس» - ثم نضع مكانها ما نريد. هنا المفتاح: إذا تمكنّا من قص الـDNA في المكان المستهدف، نستطيع أن نستعمل أجهزة الخلية لملء الفراغ بالتعديلات التي نريدها.
إن مكتشفي إمكانية التعديل الوراثي باستعمال تقنية «كريسبر - كاس» (CRISPR-Cas) نشروا نتائجهم العلمية في عام 2012، وبعدها بثماني سنوات فقط حصلوا على جائزة نوبل للكيمياء. والآن، بعد أقل من 10 سنوات من هذا الاكتشاف، يبدو أننا تمكنّا من استخدام هذه التقنية في علاج مرض الأنيميا المنجلية الذي يصيب الملايين حول العالم. وما زالت الاختبارات السريرية مستمرة عليه وعلى أمراض وراثية كثيرة أخرى، بما فيها سرطانات وأمراض دم وأمراض عصبية.
إن استعمالات تقنية «كريسبر» لا تقتصر على المجال الصحي فحسب، بل يمكن توظيفها لإنتاج نباتات أكثر مقاومة للضغوطات البيئية أو الميكروبية، مثلاً يمكن هندسة النخيل ليكون مقاوماً للسوسة الحمراء، ويمكن استعمالها لهندسة ميكروبات تنتج مواد نافعة للإنسان، وغيرها من التطبيقات.
هناك شركة تستعمل «كريسبر» لتهندس أعضاء من الحيوانات مناسبة للمرضى المحتاجين للتبرع، فنتخلص بذلك من كثير من المشاكل المتعلقة بزراعة الأعضاء، وأهمها قلة توفرها وعدم مطابقتها من ناحية مناعية للمريض.
محدودية «كريسبر»
إلى هنا قد يبدو أن هذه التقنية ستحل كثيراً من المشاكل، ربما يكون هذا صحيحاً، لكن التقنية ما زالت محدودة من نواحٍ كثيرة، فحتى الآن لا يرى العلماء في «كريسبر» حلاً لكثير من الأمراض ذات الجوانب الوراثية المعقدة، مثل مرض السكري وارتفاع الضغط والسمنة المفرطة والاضطرابات أو الأمراض النفسية. على الأرجح، الأمراض التي سينجح «كريسبر» في السيطرة عليها هي الأمراض التي يفهمها العلماء جيداً ويفهمون تماماً خواص الجين الذي يسببها، وعلى الأرجح ستكون البداية بالأمراض الشديدة - مثل بعض أمراض الدم والسرطانات والأمراض العصبية - وعندما لا تتوفر خيارات أخرى للعلاج إلا «كريسبر». هذا لأننا إلى الآن لا نفهم التقنية بشكل كامل، ولا نعرف تبعاتها على المدى البعيد، وما زالت محفوفة بالمشاكل التي من اللازم حلها قبل التوسع في تطبيقها على الإنسان.
لهذا عدّ الوسط العلمي ما فعله العالم الصيني ها جيانكوي (He Jiankui) في عام 2018 - حين أعلن أنه عدّل جينات أجنة توأمتين لمقاومة فيروس HIV المسبب لمرض الإيدز - كارثة أخلاقية، فإضافة إلى أن مرضى الإيدز أصبح من السهل نسبياً التحكم في مرضهم ويعيشون حياة طبيعية، كون ها جيانكوي طبّق التعديل الوراثي والتوأمتان ما زالتا أجنّة، فهذا يعني أن التعديل سيؤثر على جميع خلاياهما، بما فيها التناسلية، فينتقل التعديل لأطفالهما وأطفالهما قد ينقلونه بدورهم لأطفالهم. لقد كانت خطوة مستعجلة جداً فما زلنا لا ندرك أثر التعديل الوراثي على المدى البعيد في إنسان واحد وفي عضو واحد، فكيف على مدى أجيال؟
والتقنية، رغم أنها تتفوق على تقنيات التعديل الوراثي السابقة، فإنها ما زالت بها مخاطر. مثلاً إنزيم «كاس» ليس دقيقاً 100 في المائة؛ قد يقص أحياناً المادة الوراثية في أماكن غير مستهدفة، فتحصل طفرات لم تكن متوقعة ومجهولة الأثر. وقد سُجن ها جيانكوي لأن دراسته لم تكن أخلاقية، لكننا لا نعلم شيئاً عن التوأمتين إلا أنهما عندما وُلدتا في عام 2018 كانتا - كما يبدو - سليمتين، لكن أين هما الآن وكيف هو وضعهما الصحي؟
هذا يأخذنا للمسائل الأخلاقية في «كريسبر»، وهي شائكة وكثيرة. حتى إذا وصلنا إلى مرحلة كانت التقنية موثوقة لدرجة أننا نستطيع استعمالها للتعديل الوراثي على مستوى الجنين دون قلق، فهل يحق للأب والأم أن يتخذا هذا القرار الذي سيؤثر ليس على طفلهما فحسب، بل على أطفال طفلهما أيضاً؟ ربما يكون الجواب نعم إذا كان المرض شديداً ومميتاً، مثل الشيخوخة المبكرة، لأنها تسبب أعراضاً مؤلمة جداً وكثير من المرضى لا يعيشون لسن المراهقة. فربما نتفق أن هذا مرض يستحق التعديل على مستوى الجنين، وربما نتفق أن تعديل الصفات الطبيعية في الأجنة - مثل لون العين والشعر مثلاً - لا داعي له.
ولنا أن نطرح السؤال التالي: أين نضع الخط بين المرض والصفة؟ هناك دراسات الآن تستكشف إمكانية استعمال «كريسبر» لعلاج فقدان السمع الوراثي. لكن كثيراً من الصم أو ضعاف السمع يعتبرون ضعف سمعهم جزءاً من هويتهم وليس عائقاً لهم، ويعيشون حياة سعيدة مثل أي شخص آخر. فهل لنا الحق بأن نمسح هويتهم بهذه الطريقة دون أن يختارها كل فرد لنفسه؟
«كريسبر» و«كوفيد ـ 19»
> تقول الدكتورة مجد عبد الغني: «نعم هناك علاقة، فحالياً يبحث العلماء في إمكانية استعمال (كريسبر) لعلاج مرض (كوفيد - 19) الذي يسببه فيروس سارس-كورونا-2 (SARS-CoV-2)».
إذا كانت البكتيريا تستخدم «كريسبر» لتقضي على الفيروسات، فلم لا نستعمله بالطريقة نفسها؟ طالما أعطينا إنزيم «كاس» جزءاً من المادة الوراثية لفيروس سارس-كورونا-2، سيتمكن «كاس» من قصها ليقضي عليه. إلا أن شرح هذه الآلية طويل جداً وقد يتطلب مقالاً مستقلاً.
•استشاري طب المجتمع