يأمل قادة مؤثّرون في «الجيش الوطني» الليبي أن تنتهي عمليتهم الدائرة حالياً لـ«تطهير» طرابلس باستقبال حافل «تنثر فيه الورود وتفوح فيه روائح الحنّة»، لكن «حكومة الوفاق» تظهر العزم على استمرار المواجهة، مستندة إلى دعم كتائب وميليشيات مسلحة متغوّلة في العاصمة ومناطق أخرى بشمال غربي ليبيا منذ اندلاع الانتفاضة التي أسقطت الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011. وبينما تتأرجح ردود الفعل الدولية، وتراوغ أحياناً، تحدث خسائربشرية ومادية، التي يرى داعمو العملية، التي بدأت في 4 أبريل (نيسان) الحالي، أنها ضرورية لـ«وحدة البلاد وأمنها»، كما قد تكون «آخر الخسائر والقلاقل المؤثرة».
وأمام احتدام المعركة على الأرض، التي حصدت في أسبوع واحد 56 شخصاً من الجانبين، اضطرت البعثة الأممية لدى ليبيا إلى تأجيل الملتقى الوطني الجامع، الذي كانت تحضر له منتصف الشهر الحالي في مدينة غدامس (أقصى غرب البلاد)، ورأت أنه «لا يمكن لنا أن نطلب الحضور للملتقى والمدافع تُضرب والغارات تُشن، دون التأكد من تأمين سلامتهم وحريتهم بالتعبير عن رأيهم». وما بين المؤيدين للعملية العسكرية والمعارضين لها، يُوجه بعض الذين تحدثوا إلى «الشرق الأوسط» اللوم لرئيس المجلس الرئاسي فائز السراج، ويتهمونه بـ«الفشل» في لجم تحركات الميليشيات، التي كانت سبباً في اندلاع اشتباكات كثيرة، أريقت فيها دماء كثيرة خلال الأعوام الماضية، على مرأى ومسمع منه، منذ اعتلائه السلطة عبر «اتفاق الصخيرات».
لم تغادر العاصمة الليبية طرابلس، طيلة السنوات الثماني التي تلت «انتفاضة 17 فبراير»، أصوات الرصاص، ودوي الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، في اشتباكات متكرّرة تدور رحاها بين المجموعات المسلحة، وتعلو خلالها استغاثات المواطنين «طلباً للحماية».
وفي تلك الأثناء كانت أبرز الأسئلة المطروحة: متى يُنجز «تطهير» العاصمة من الميليشيات؟ ومن يمتلك القدرة على ذلك، لا سيما في ظل سيطرتها على مناحي الحياة بداية من التكسب من المال العام، ووصولاً إلى أروقة القضاء؟
أنظار غالبية القوى السياسية والنيابية الليبية اتجهت إلى «الجيش الوطني»، الذي كان قد فرغ أخيراً من «تحرير» مدينة درنة (شمال شرقي ليبيا)، ما دفع بقائده العام المشير خليفة حفتر إلى الاستجابة للنداءات التي أطلقها ساسة ونواب برلمانيون من شرق البلاد، متعهداً بالتحرّك نحو طرابلس «في الوقت المناسب وفقاً لخطة دقيقة ومدروسة». وهذا ما حصل منذ بداية الأسبوع الماضي، عندما أعطى حفتر أوامره إلى القوات المسلحة بالتوجّه إلى العاصمة «لتحريرها من الإرهابيين»، وأطلق على العملية اسم «طوفان الكرامة».
- المشهد الانقسامي
تتنازع على الحكم في ليبيا راهناً سلطتان؛ هما «حكومة الوفاق الوطني» برئاسة السراج التي شُكلت في نهاية 2015 بموجب «اتفاق الصخيرات» الذي رعته الأمم المتحدة وتتّخذ من طرابلس مقراً لها، وسلطات في الشرق الليبي مدعومة من مجلس النواب وداعمة لـ«الجيش الوطني» بقيادة حفتر. ومنذ سقوط نظام القذافي، تشهد ليبيا نزاعات داخلية مختلفة، لكن العملية العسكرية التي أطلقها حفتر يراها متابعون أنها عمّقت الأزمة في البلاد.
واللافت أن العملية العسكرية المستمرة أظهرت مفارقات كثيرة واتهامات متبادلة بين الجانبين. إذ اصطفت غالبية تنظيمات المُسلحين خلف السراج، بعد إخراجهم من العاصمة، لعل أبرزهم صلاح بادي قائد ما يسمي «لواء الصمود»، الذي وقف أمام مطار طرابلس الدولي عام 2014 بعد إضرام النيران به، وهو يكبر «الله أكبر ولله الحمد». غير أن قوات السراج التي أطلقت عملية «بركان الغضب» في مواجهة «طوفان الكرامة» ورأت أنها في «موضع دفاع عن النفس»، اتهمت «الجيش الوطني» بـ«استخدام الأطفال في الحرب، بدلاً من تركهم لمقاعد الدراسة».
هذه التهمة رفضها الدكتور محمد عامر العباني، عضو مجلس النواب، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن «الجيش الليبي تنظمه القوانين العسكرية والتشريعات واللوائح المتعلقة بالتجنيد والتوظيف والاستخدام، التي تحدد سن الالتحاق بالجندية بما لا يقل عن 18 سنة».
واستطرد العباني: «لا يتصور أحد وجود قُصَّر في الجيش الوطني، اللهم إلا إذا كان ذلك في خيال الفاسدين أعداء الجيش» (حسب تعبيره). وللعلم، يتلقّى حفتر دعماً سياسياً من سلطة مجلس النواب، الموجود في شرق ليبيا. وفي الآونة الأخيرة، بسط «الجيش الوطني» سيطرته على مدن وبلدات في الجنوب الليبي، بينما يحظى المجلس الرئاسي لـ«حكومة الوفاق» بدعم دولي منذ توقيع «اتفاق الصخيرات» في المغرب نهاية عام 2015.
- الورود والحرب
ومنذ بداية العملية العسكرية، قبل 8 أيام، تشهد كل محاور القتال جنوب طرابلس، كرّاً وفرّاً بين الجانبين على المستوى الميداني، ونفياً متبادلاً لكثير من التقارير. وهذا، وسط نزوح واسع للمواطنين، وتصاعد شكاواهم من تضرّر منازلهم، إضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي ومياه الشرب عنهم، بحسب رئيس مجلس أعيان ليبيا للمصالحة محمد المُبشر لـ«الشرق الأوسط». بيد أن الناطق باسم «الجيش الوطني» اللواء أحمد المسماري يكرّر تطميناته إلى المواطنين بأن الجيش «لن يذهب إليهم غازياً أو محتلاً، بل يهدف إلى حمايتهم».
من جهة أخرى، يلاحظ أن «الجيش الوطني» يحقق مكاسب على الأرض، بعدما تموضع على أطراف العاصمة وضواحيها، زاحفاً نحو طرابلس عبر وادي الربيع وعين زارة، التي تبعد نحو 16 كيلومتراً عن قلبها. وبعدها سيطر على معسكر اللواء السابع بالعزيزية، بعد معارك شرسة خاضها في مواجهة القوات الموالية لحكومة السراج، فضلاً عن استحواذه على 14 آلية عسكرية، وهو ما عبر عنه اللواء عبد السلام الحاسي، الذي عينه حفتر رئيساً لمجموعة عمليات المنطقة الغربية أخيراً، في حديث سابق لـ«الشرق الأوسط»، بأن «النصر بات قريباً، والجيش يحقق تقدّماً مطرداً على الأرض... وأعتقد أن السكان سيستقبلون الجيش بالورود، وربما سيستوردون الزهور للاحتفالات».
هذا التفاؤل من جانب قيادات «الجيش الوطني» ردّت عليه قيادات قوات حكومة السراج بأنها هي الأخرى تواصل سيطرتها على مناطق «انتزعتها من قوات الخصم» الذي أراد «الانقلاب» على سلطة معترف بها دولياً، و«أسرت مجموعات كبيرة من المجندين للقتال بلغت 190 جندياً، غالبيتهم دون السن القانونية».
- سلاح «الشرعية»
تداعيات الأمور وتسارع وتيرتها والمعركة الحامية على جميع محاور القتال حجزت مكاناً شاسعاً على طاولة السياسيين، خصوصاً المؤيدين للعملية العسكرية. إذ عاد مجلس النواب إلى التذكير بـ«أن لا شرعية لحكومة الوفاق»، و«يبارك عملية تحرير طرابلس». وحقاً، ارتفع عدد النواب المؤيدين للعملية العسكرية إلى 46 عضواً، ذهبوا إلى مطالبة المجتمع الدولي ومجلس الأمن وكل الدول الفاعلة «برفع الاعتراف عن حكومة الوفاق».
واعتبر هؤلاء أن السراج «أصبح طرفاً في النزاع بدعمه الإرهابيين الذين يقاتلون الجيش»، وأن مجلسهم هو من «أعطى الشرعية للقوات المسلحة لمحاربة الإرهاب وتخليص البلاد من هيمنة وسيطرة الميليشيات».
وانتقل التلويح باستخدام سلاح «الشرعية» إلى مطالبة وزارة الخارجية التابعة لـ«الحكومة المؤقتة» في شرق ليبيا، البعثات الدبلوماسية الليبية، بإخطار الدول المعتمدة لديها بأن «الحكومة المؤقتة»، برئاسة عبد الله الثني، هي الحكومة الشرعية الوحيدة المعترف بها.
وفي تعميمٍ حمل توقيع حبيب الميهوب، وكيل وزارة الخارجية والتعاون الدولي بـ«المؤقتة»، خاطب في نهاية الأسبوع الماضي، جميع السفارات والقنصليات والمندوبيات والبعثات الدبلوماسية الليبية، بتفعيل قرار سابق للبرلمان صوت عليه غالبية النواب، بلا شرعية «حكومة الوفاق».
ومن ثم، انعكست الانقسامات داخل ليبيا على سفاراتها وقنصلياتها في الخارج خلال السنوات السابقة، بين البعثات الدبلوماسية الموالية لـ«الوفاق» من جهة و«المؤقتة» من جهة ثانية، وكانت السفارة الليبية في القاهرة مسرحاً لكثير من تبادل الاتهامات، والاشتباكات التي وصلت إلى استخدام الرصاص ذات مرة.
- تهم «إرهاب» و«جرائم حرب»
كذلك، الكر والفر على محاور القتال، قابله تلاسن وتوعّد بالحساب والمعاقبة. إذ تعهد السراج «بإحالة ملفات مرتكبي جرائم الحرب» في ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية، وأبلغ في اتصال هاتفي مع المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة، أن «الأجهزة القضائية الليبية ستقدم للمحكمة ملفات متكاملة بجرائم الحرب وانتهاكات القانون وأسماء وصفات الأفراد المتهمين بارتكابها».
وعبّرت بنسودة، من جانبها، عن «أسفها للهجوم الذي تتعرّض له العاصمة، وأكدت إدانتها استهداف المنشآت المدنية وتعريض المدنيين للخطر». وزادت متعهدة بأن «المحكمة الجنائية الدولية لن تتهاون ولن تتردد في مقاضاة الأفراد المتهمين بجرائم حرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية، وفقاً لتعريفات القانون الدولي».
ولكن في مواجهة توعّد السراج للمهاجمين، وجهت القيادة العامة لـ«الجيش الوطني» المدعي العام العسكري للقبض وإحضار 23 شخصاً من العسكريين والمدنيين، لاتهامهم بـ«ارتكاب جرائم أو دعم الإرهاب في ليبيا». وشمل أمر القبض، الذي كشف عنه اللواء المسماري، الناطق باسم القيادة، أسماء عسكريين، منهم لواءات بعضهم موالٍ لحكومة السراج، وبعض آخر يتبع قوات «فجر ليبيا»، بالإضافة إلى رئيس أركان القوات المسلحة الأسبق الذي عيّنه «المجلس الوطني الانتقالي»، اللواء متقاعد يوسف المنقوش.
بل تضمن قرار الضبط، السراج نفسه، و3 من نوابه، بالإضافة إلى عبد الرحمن السويحلي الرئيس السابق لـ«المجلس الأعلى للدولة» وخليفة الغويل رئيس «حكومة الإنقاذ» التابعة لـ«المؤتمر الوطني العام» (المنتهية ولايته) والصادق الغرياني، المفتي الليبي المعزول، الذي يقيم في تركيا.
- المواقف الدولية
ولم يبتعد الموقف المحلي كثيراً عن ردود الأفعال الدولية، التي بدت في العلن متأرجحة، بل مراوغة أحياناً، على عكس ما يجري في الكواليس. فبينما كانت قوات حفتر في طريقها من شرق ليبيا إلى غربها، سارعت بريطانيا إلى دعوة مجلس الأمن الدولي للانعقاد.
واقترحت صدور بيان رئاسي عن المجلس وليس بياناً صحافياً (البيان الرئاسي يتمتع بصفة رسمية أكثر من البيان الصحافي) يدعو حفتر لوقف هجومه، لكن روسيا اعترضت على ذلك، فغاب الإجماع وسقط الاقتراح البريطاني.
ورغم أن الموقف الفرنسي جاء مماثلاً للموقف الروسي، فإن باريس عادت بعد يومين من انعقاد جلسة مجلس الأمن ونفت على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية، أنييس فون دير مول، أن تكون بلادها قد عرقلت بياناً للاتحاد الأوروبي يدعو حفتر إلى وقف زحفه.
لكن رئيس البرلمان الأوروبي أنطونيو تاجاني، بدا أكثر حسماً، وأعلن أن ثمة خلافاً بين فرنسا وإيطاليا بشأن السياسة تجاه ليبيا، رغم وحدة الموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي الذي عبرت عنه مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد. وحثّ تاجاني، وهو إيطالي، دول الاتحاد الأوروبي على «التكلم بصوت واحد» فيما يتعلق بالصراع في ليبيا، مذكراً بدور فرنسا وبريطانيا في الإطاحة بالقذافي، وهو التحرّك الذي وصفه بـ«الخطأ» وتسبب في «إشاعة الفوضى» في ليبيا.
وتوالت المواقف الإيطالية للتأكيد على أن الوضع في ليبيا «هشّ للغاية». واستند رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي، على توقعات الأمم المتحدة، قائلاً إنها أكدت «احتمالية تفاقم الأزمة الإنسانية في الساعات والأيام المقبلة...
وبالتالي، علينا العمل أولاً باتجاه وقف إطلاق النار وإنهاء فوري للمواجهة العسكرية المتصاعدة».
وذهب نائب رئيس الوزراء الإيطالي لويجي دي مايو أبعد من ذلك، قائلاً إنه ليس لدى إيطاليا أي نية لاستخدام القوة العسكرية للتدخل في الصراع الليبي.
وفي هذه الأثناء، على الأرض، دفع احتدام المعركة تونس إلى التخوّف من سقوط ليبيا في أتون الحرب الأهلية. واضطر الاتحاد الأوروبي إلى إجلاء أفراد بعثته المساعدة من طرابلس المكوّنة من 20 فرداً، والعودة بها ثانية إلى تونس، حيث مقر البعثة.
مع هذا، ورغم كل ما يحدث في العاصمة، لم يفقد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الأمل، إذ إنه رأى «أن الوقت ما زال متاحاً لوقف العنف وتجنب الأسوأ في ليبيا».