لا شك أن العنوان يحمل من الغرابة الشيء الكثير، إذ إنه لا يوجد سبب واضح يربط بين القلق (stress) عند الآباء والتكوين العضوي لمخ الطفل، ولكنه جاء ضمن النتائج التي خلصت إليها دراسة حديثة نوقشت في الاجتماع السنوي للجمعية الأميركية للنهوض بالعلم (American Association for the Advancement of Science) وعقد في منتصف شهر فبراير (شباط) الماضي. وأشارت الدراسة إلى إمكانية أن يتسبب التوتر والقلق عند والد الطفل في حدوث خلل في الحيوانات المنوية له، وبالتالي يمكن أن تؤثر في تكوين خلايا الجنين ومنها المخ، بل وتؤثر في الطريقة التي يتعامل بها الأبناء مع القلق في المستقبل.
صحة الأب
على الرغم من أن كثيراً من الدراسات السابقة ناقشت تأثر صحة الجنين وتكوينه العضوي والنفسي بكثير من العوامل المتعلقة بصحة الأم، سواء العضوية مثل طريقة تغذيتها وأنواع العدوى المختلفة التي يمكن أن تصاب بها أثناء الحمل، وكذلك صحتها النفسية وآثار التوتر والقلق عليها، فإن معظم هذه الدراسات لم تتطرق لدور الأب في التأثير على تكوين الجنين وبشكل خاص المخ، وهو الأمر الذي شجع الفريق البحثي على دراسة التأثير الجيني للوالد على خلايا الجنين ومعرفة لأي مدى يمكن أن يؤدي تغير الشفرة الجينية، خصوصاً أن تأثير هذه العوامل على الأم يعني أن البيئة المحيطة بالآباء قادرة على تغيير الجينات الخاصة بهم.
من المعروف أن التسلسل الجيني هو الذي يحدد خصائص كل خلية من الخلايا البشرية فيما يشبه الشفرة المعينة التي تمكن كل خلية من القيام بوظائفها المختلفة، وكذلك تأثرها ببقية الخلايا. وعلى سبيل المثال، فإن إفراز هرمون معين يحتاج إلى شفرة جينية معينة والاستجابة لوظيفة هذا الهرمون من عدمه نتيجة لتسلسل أو شفرة جينية أخرى.
وبالتالي فإن التغيير الذي يحدث نتيجة للعوامل الخارجية مثل القلق والتوتر يؤدي إلى تغيير التسلسل وتغيير الشفرة دون أن يتم تغير الجين نفسه، وهو الأمر الذي يمكن لاحقاً أن يؤدي إلى خلل في أداء الخلية على الوجه الأكمل.
وعلاوة على ذلك، فإن هناك عدة أدلة على الدور الذي تلعبه التجارب المحيطة بالبيئة الخارجية لجيل معين وما يمكن أن تحدثه في تغير صفات هذا الجيل وتمريره إلى الأجيال التالية بشكل وراثي بيولوجي، بمعنى أنه على سبيل المثال عند تعرض رجل بالغ لمشاعر القلق والتوتر وهما من المؤثرات الخارجية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى إصابته بارتفاع في ضغط الدم، ويمكن كذلك إصابة أولاده لاحقاً بارتفاع ضغط الدم على الرغم من أن هذا الارتفاع هو عامل بيولوجي، من خلال الوراثة عن طريق التغير في الجينات. ومن أشهر الأمراض التي تم توارثها عبر التغير في الجينات هو مرض السرطان، حيث تلعب إصابة الأقارب من الدرجة الأولى دوراً مهماً في زيادة فرص الإصابة بالمرض.
تغير الحيوانات المنوية
وكان الفريق البحثي قد قام سابقاً بإجراء تجربة على ذكور الفئران بعد تعريضها بشكل مزمن ومستمر لنسب بسيطة من القلق والتوتر. وقد تم تعريض الفئران للنقل من الأقفاص الخاصة بها إلى أقفاص أخرى، وهو ما يعني تغيير بيئتها، كما تم تعريض بعض الفئران الأخرى لبول حيوانات مفترسة مثل الثعالب، وبالتالي إصابتها بالقلق من وجود الحيوان المفترس دون أن يظهر فعلياً.
وبعد ذلك تمت ملاحظة المواليد من الفئران، حيث تبين تغير الاستجابة في التعامل مع القلق، بمعنى أنها أصبحت أقل تفاعلاً في مواجهة القلق نتيجة لتغيرات عصبية ونفسية (neuropsychiatric disorders). وهذه التغيرات شملت إصابتها بالاكتئاب واكتئاب ما بعد الصدمة، وجعلها غير مبالية بالأمور التي تحدث حولها، وذلك على الرغم من أن المواليد لم تتعرض للقلق الذي عانى منه الآباء.
وتبين أن السبب في ذلك إصابة الحيوانات المنوية في الفئران بتغيرات جينية شملت جزيئيات معينة (MicroRNA)، وهذه الجزيئيات هي التي تمكن الجين من القيام بوظيفته أو العكس تقوم بوقف نشاطه. وعلى الرغم من أنها لا تشارك في الشفرة الجينية المكونة من البروتين، فإنها تؤثر على إنتاج تلك البروتينات المكونة للشفرة الجينية، بمعنى أنها تلعب دوراً غير مباشر في العملية الوراثية، حتى لو كانت لا تحمل شفرة جينية لصفة معينة.
واستكمالاً لهذه التجارب السابقة يتوقع أن يشمل البحث الحالي الكشف عن الطريقة التي يحدث بها انتقال هذه الصفات والآلية البيولوجية لحدوثها، وهي شرح للدمج الذي يحدث بين الحويصلة التي تحتوي على الحيوانات المنوية والجزيئيات التي تتحكم في عمل الجينات، ومنها بالطبع الحيوانات المنوية التي تم تغيير خصائصها نتيجة لتعرضها لمؤثر معين، وهو القلق الذي تعرض له الآباء دون أن يتعرض له الأبناء.
وعلى الرغم من أن هذه النتائج كانت في الفئران، فإن تلك الآلية هي نفسها التي تحدث في الوراثة في الإنسان، وهو الأمر الذي يعني أن تلك الدراسة تدق ناقوس الخطر وتطلق صيحات التحذير للآباء، إذ إن مجرد التعرض للضغوط اليومية التي تبدو طبيعية وبسيطة مثل القلق من الأمور المادية أو التوتر بسبب العمل، قد تؤثر لاحقاً على صحة أولادهم وطريقة تعاملهم مع القلق. ويأمل الباحثون في التوصل إلى كيفية علاج كثير من الأمراض النفسية التي يمكن أن تكون مرتبطة بالوراثة بعد هذه النتائج.