سيد مدينة الحاكمية.. أوراق محمد قطب (1): محمد قطب.. اللاعب الخفي في تنظيم 1965

امتزج بأفكار أخيه سيد وحولها إلى منهج تربوي طويل يهدف إلى «تمكين الصحوة»

محمد قطب
محمد قطب
TT

سيد مدينة الحاكمية.. أوراق محمد قطب (1): محمد قطب.. اللاعب الخفي في تنظيم 1965

محمد قطب
محمد قطب

تحت فصل بعنوان «وكانت بيعة»، تروي الحاجة زينب الغزالي، في كتابها «أيام من حياتي» - الذي يوصف في الأدبيات الإخوانية بأنه «وثيقة قيمة، وسجل تاريخي، لحقبة مهمة من تاريخ الدعوة الإسلامية» - قصة إعادة بعث تنظيم الإخوان المسلمين من جديد، بعد قرار حله إثر أحداث المنشية الشهيرة عام 1954 التي تعرض فيها جمال عبد الناصر لمحاولة اغتيال على يد أعضاء من الجماعة.
زينب الغزالي، التي تعد واحدة من أبرز القيادات النسائية في صفوف الإخوان المسلمين، وحظيت بمباركة خاصة من المؤسس حسن البنا، بعد إنشائها لأول جمعية إسلامية نسائية باسم «جمعية السيدات المسلمات»، تقول في مذكراتها: «لما كانت جماعة الإخوان المسلمين معطلا نشاطها بسبب قرار الحل الجاهلي لسنة 1954، كان ضروريا أن يعود إحياء هذا النشاط، لكنه بالطبع سيكون سريا».
تكثفت تحركات مجموعة من الكوادر الإخوانية الذين لم تطلهم حملة الاعتقالات، من أجل إعادة تنظيم صفوف الجماعة من جديد، من أبرزهم عبد الفتاح إسماعيل، وعلي عشماوي، وأحمد عبد المجيد، ومحمد فتحي رفاعي، وعوض عبد العال وآخرون، ضمن ما عرف بتنظيم «سيد قطب»، أو «تنظيم 1965».
في حج عام 1957، كان أول لقاء بين زينب الغزالي وعبد الفتاح إسماعيل، الذي يوصف بأنه «دينامو تنظيم 1965 وثالث ثلاثة أعدموا عام 1966». تروي الغزالي فتقول: «بعد ركعتي الطواف، جلسنا خلف بئر زمزم بالقرب من مقام إبراهيم، وأخذنا نتحدث عن بطلان قرار حل جماعة الإخوان المسلمين ووجوب تنظيم صفوف الجماعة وإعادة نشاطها. واتفقنا على أن نتصل، بعد العودة من الأرض المقدسة، بالإمام حسن الهضيبي، المرشد العام لنستأذنه في العمل. فلما هممنا بالانصراف، التفت علي عبد الفتاح وقال: (يجب أن نرتبط هنا ببيعة مع الله على أن نجاهد في سبيله، لا نتقاعس حتى نجمع صفوف الإخوان، ونفاصل بيننا وبين الذين لا يرغبون في العمل أيا كان وضعهم ومقامهم)، وبايعنا الله على الجهاد والموت في سبيل دعوته».
بدأت التحركات للم شتات الإخوان من جديد، على مستوى محافظات مصر كلها، بتوجيهات وتعليمات تصل من داخل السجن، وفي قصاصات يكتبها سيد قطب تحت مسمى «خيوط خطة»، صدرت، في ما بعد، ضمن كتابه الشهير «معالم في الطريق»، وفقا لما أكده أيضا أحمد عبد المجيد، في مذكراته «الإخوان وعبد الناصر القصة الكاملة لتنظيم 1965».

* مخطط إقامة الدولة الإسلامية

* تحكي الغزالي تفاصيل هذا المخطط الذي يبدأ من الإعداد والتكوين التربوي، وصولا إلى إقامة الدولة أو الخلافة الإسلامية، فتقول: «بتعليمات من الإمام سيد قطب، وبإذن الهضيبي، قررنا أن تستمر مدة التربية والتكوين والإعداد ثلاثة عشر عاما - عمر الدعوة في مكة - على أن قاعدة الأمة الإسلامية الآن هم (الإخوان) الملتزمون بشريعة الله وأحكامه. فنحن ملزمون بإقامة كل الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة في داخل دائرتنا الإسلامية.. والطاعة واجبة علينا لإمامنا المبايع، على أن إقامة الحدود مؤجلة، مع اعتقادها والذود عنها، حتى تقوم الدولة.. وكنا على قناعة كذلك بأن الأرض اليوم خالية من القاعدة التي تتوافر فيها صفات الأمة الإسلامية الملتزمة التزاما كاملا، كما كان الأمر في عهد النبوة والخلافات الراشدة. ولذلك وجب الجهاد على الجماعة المسلمة (...)، حتى يعود جميع المسلمين للإسلام، فيقوم الدين القيم، لا شعارات ولكن حقيقة عملية واقعة».
وتضيف الغزالي: «درسنا كذلك وضع العالم الإسلامي كله، بحثا عن أمثلة لما كان قائما من قبل بخلافة الراشدين، والتي نريدها نحن في جماعة الله الآن، فقررنا بعد دراسة واسعة للواقع القائم المؤلم أنه ليست هناك دولة واحدة ينطبق عليها ذلك، واستثنينا السعودية مع تحفظات وملاحظات يجب أن تستدركها المملكة وتصححها، وكانت الدراسات كلها تؤكد أن أمة الإسلام ليست قائمة، وإن كانت الدولة ترفع الشعارات بأنها تقيم شريعة الله!.. وكان في ما قررناه بعد تلك الدراسة الواسعة، أنه بعد مضي ثلاثة عشر عاما من التربية الإسلامية للشباب والشيوخ والنساء والفتيات، نقوم بمسح شامل في الدولة، فإذا وجدنا أن الحصاد من أتباع الدعوة الإسلامية المعتقدين أن الإسلام دين ودولة، والمقتنعين بقيام الحكم الإسلامي قد بلغ 75 في المائة من أفراد الأمة رجالا ونساءً، أعلنا قيام الدولة الإسلامية، وقيام الحكم الإسلامي، أما إن وجدنا الحصاد 25 في المائة، جددنا التربية والإعداد لمدة ثلاثة عشر عاما أخرى، وهلم جرا، حتى نجد أن الأمة فد نضجت لتقبل الحكم بالإسلام».

* علاقة محمد قطب بتنظيم 65

* على خلاف شخصية أخيه الأكبر سيد، كان محمد قطب (توفي في الرابع من أبريل/ نيسان، 2014، بمكة المكرمة، وصلي عليه في الحرم المكي) منضويا تحت لواء أخيه. كان امتدادا وظلا وفيا له في العمل الحركي والإنتاج الفكري. أعاد إنتاج مفاهيم أخيه، وكررها وجسدها، وقربها كمنهج تربوي مفصل شكل تأثيرا كبيرا على فكر التيارات الإسلامية وبالأخص المتفرعة من إطار «الإخوان المسلمين»، حيث حظيت أفكاره بحضور بارز ومفصل في أفكار التيار الإسلامي الحركي في السعودية، تماما كما كان لأخيه سيد ذلك الحضور.
لكن ما علاقته بتنظيم 65، وما هي قصة «تنظيم محمد قطب»، الذي فتحت من أجله سلطات أمن الدولة المصرية تحقيقات موسعة مع عدد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين؟
تروي زينب الغزالي مجددا تتمة نشاط أعضاء الجماعة الفاعلين خارج السجون فترة الستينات، حين كانت تصلهم التوجيهات مباشرة من سيد قطب، وتقول: «رأينا خلال فترة الإعداد التربوي أن يكون هناك مستشار يشرح ويوضح لنا توجيهات سيد قطب وتعليماته».. و«لذلك قررنا، ورأينا أن يكون الأستاذ محمد قطب هو مرجعنا، وبإذن من المرشد الهضيبي كان الأستاذ محمد يأتي بشكل دوري إلى بيتي في مصر الجديدة، ليوضح للشباب ما غمض عليهم فهمه. وكان الشباب يستوضحونه ويسألونه أسئلة كثيرة يجيب عنها».
وضمن منهج الإعداد التربوي للتنظيم السري، وضع سيد قطب مجموعة من الكتب والمراجع التي تشكل المنهج الدراسي والتربوي لكوادر التنظيم، وكان من أبرزها، بالإضافة لكتبه، كتب أخيه محمد قطب، حيث يروي أحمد عبد المجيد في مذكراته: «كنا نركز أساسا على العقيدة، ثم الحركة بهذه العقيدة في تنظيم حركي، ثم الدراية والمعرفة بالمخططات الصهيونية والصليبية وأعوانها لضرب الإسلام ووسائلهم في ذلك. فوضع لنا الأستاذ سيد قطب منهجًا دراسيًا وتربويًا للسير عليه مع إخواننا. ومن أهم الكتب والمراجع التي احتواها هذا المنهج: (منهج التربية الإسلامية)، (جاهلية القرن العشرين)، (هل نحن مسلمون؟)، (معركة التقليد) لمحمد قطب، إضافة إلى كتب من تأليفه، وأخرى لأبي الأعلى المودودي وآخرين».
ونتيجة لذلك، كان موضوع محمد قطب من أكثر المحاور الرئيسة التي تناولتها ملفات التحقيق مع زينب الغزالي، كما تروي في مذكراتها، حيث كان شمس بدران - وزير الحربية في عهد عبد الناصر - يسائلها كثيرا عن «التنظيم الخاص الذي أسسه محمد قطب، وخطط لاغتيال عبد الناصر». ونفت الغزالي ذلك بشدة. وعلى الرغم من أنها قررت في الكتاب عينه أن محمد قطب كان يزورها في بيتها بانتظام بأمر من المرشد، للإجابة عن إشكالات أفراد التنظيم، فإنها أجابت حين سألتها النيابة «لماذا كان يزورك محمد قطب في بيتك باستمرار، حيث يلتقي مع شباب الإخوان؟»، فقالت إن أمينة وحميدة شقيقتي محمد قطب اعتادتا زيارتها «وأحيانا كان يأتي محمد معهما فيلتقي بالشباب المسلم الفاضل صدفة!».

* محمد قطب.. الحيرة والتحول

* في بلدة موشا ضمن محافظة أسيوط مصر، ولد محمد قطب في شهر أبريل عام 1919، ونشأ في عائلة كان لها أثر بالغ في تاريخ الحركة الإسلامية بمصر، بشقيه الفكري والحركي، بين الرجال والنساء على حد سواء. فأخوه الأكبر سيد كان الرجل الثاني في الجماعة بعد حسن البنا، تأثيرا وحضورا، وأعدم عام 1966. أما أختاه أمينة وحميدة فكانتا من أبرز «الأخوات المسلمات» الفاعلات في الجماعة، وجميعهن تعرضن للاعتقال. تزوجت أمينة من القيادي الإخواني كمال السنانيري الذي توفي داخل معتقله عام 1981. أما حميدة فكانت تلقب في الأدبيات الإخوانية، بـ«عذراء السجن الحربي»، ووجهت لها اتهامات بنقل معلومات من سيد قطب داخل السجن إلى زينب الغزالي. في هذا الوسط نشأ محمد قطب، وكانت دراسته في القاهرة بجميع مراحلها، حيث درس فيها المرحلة الابتدائية والثانوية، وتخرج في جامعة القاهرة التي أخذ منها الإجازة في اللغة الإنجليزية وآدابها عام 1940. بعد تخرجه في الجامعة، بدأ اهتمامه بالتعليم والتربية يظهر، فاتجه نحو معهد التربية العالي للمعلمين بالقاهرة، وحصل منه على شهادة دبلوم في التربية وعلم النفس عام 1941. وعمل بعد ذلك أربع سنوات في التدريس، ثم في دار الكتب المصرية، وبعدها أصبح مترجما في وزارة المعارف المصرية، ثم انتقل إلى الإدارة العامة للثقافة في وزارة التعليم العالي بمصر.
كانت شخصية أخيه الأكبر حاضرة بقوة في حياته، ومؤثرة عليه إلى حد الامتزاج الكامل، وذلك بات واضحا في كل أفكاره وإنتاجه، وطريقة كتابته الأدبية التي تحاكي أسلوب أخيه، بل حتى في كيفية تحوله من الأدب والشعر إلى الفكر والنضال الحركي. يقول محمد عن أخيه سيد: «لقد عايشت أفكار سيد بكل اتجاهاته منذ تفتح ذهني للوعي، ولما بلغت المرحلة الثانوية أصبح يشركني في مجالات تفكيره، ويتيح لي فرصة المناقشة لمختلف الموضوعات، فامتزجت أفكارنا وأرواحنا امتزاجا كبيرا، بالإضافة إلى علاقة الأخوة والنشأة في الأسرة الواحدة، وما يهيئه ذلك من تقارب وتجاوب»، وفقا لما نقله عنه محمد المجذوب في كتاب «علماء ومفكرون عرفتهم».
وكما كان سيد مهموما في بداية حياته بالأدب والتصوير الفني، و«النقد الأدبي أصوله ومناهجه»، ثم تحول حتى وصل إلى مرحلته الأخيرة التي جسدها بوضوح في كتابه «معالم في الطريق»، كان كذلك محمد قطب في مسرى حياته كما يقول. فقد كان تائها ضائعا في الأدب والشعر، ولم ينتبه لحقيقة «المكائد ضد الإسلام» من حوله، حتى جاءت «فتنة السجن الحربي» التي اعتقل فيها هو وأخوه سيد بعد أحداث 1954، حيث كان لذلك الحدث بالغ الأثر في نفسه، إذ إنها كما يقول «أول تجربة من نوعها، كانت من العنف والضراوة بحيث يمكن لي القول إنها غيرت نفسي تغييرا كاملا. كنت أعيش من قبلها في آفاق الأدب والشعر والمشاعر المهمومة، أعاني حيرة عميقة، وكانت تلك الحيرة تشكل أزمة حقيقية في نفسي استغرقت من حياتي عدة سنوات، غير أن الدقائق الأولى منذ دخولي ذلك السجن، والهول الذي يلقاه نزيله، بدلت ذلك كل التبديل. لقد أحسست إذ ذاك أنني موجود، وأن لي وجودا حقيقيا، وأن الذي في نفسي حقيقة وليس وهما، وهذه الحقيقة هي السير في طريق الله، والعمل من أجل دعوته، وعرفت حينها حقيقة المؤامرة الضارية ضد الإسلام، وانتهت الحيرة الضالة، ووجدت نفسي على الجادة».
أصبح محمد قطب يشك في «إسلام» كل المجتمعات الإسلامية، وصار يتساءل دائما: «هل نحن مسلمون؟».. أم أننا نعيش في «جاهلية القرن العشرين»، ونغرق في «ظلمات التيه»، وتنتشر بيننا «شبهات حول الإسلام؟!».. ولذلك يقرر محمد قطب أن الحل في «منهج التربية الإسلامية» الذي يجب أن يقوم عليه «واقعنا المعاصر»، حتى ننتصر في «معركة التقاليد»، ونكشف «المذاهب الفكرية المعاصرة» (عناوين كتب لمحمد قطب).

* منهج للصحوة السعودية

* اعتقل محمد قطب، هو وأخوه سيد، للمرة الأولى بعد حادثة المنشية عام 1954. خرج محمد بعد مدة قصيرة، في حين حكم على أخيه بالسجن 15 سنة. في تلك الفترة، أتم سيد كتابة عدد من كتبه، أهمها «في ظلال القرآن». لكن محمد عاد إلى السجن مرة أخرى في يوليو (تموز) 1965، وبقي ست سنوات، فلم يفرج عنه إلا في مطلع عهد السادات، في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1971.
بعد خروجه من السجن، لجأ محمد قطب إلى السعودية مطلع السبعينات الميلادية باحثا عن الأمان. وفي مكة العاصمة المقدسة، أمضى بقية حياته (قرابة نصف قرن) ناقلا معه تجربته الحركية والفكرية إلى أبناء الصحوة السعودية، فأثر فيهم بشكل كبير، وبالأخص في أبناء التيار السروري، والتي تنزع في مرجعيتها إلى المدرسة القطبية أكثر من البنائية، حيث يحظى سيد بحضور طاغ مؤثر في كتابات وأفكار التيار. ولذلك كان لوجود محمد في السعودية دور مهم في تقريب أفكار المنهج القطبي وترسيخها، والدفاع عن أفكار أخيه سيد، وإزالة مواطن الإشكاليات واللبس التي اعترتها، كما يوضح في ختام مرافعاته عن أخيه في أحد الحوارات الصحافية، مدافعا عن «عقيدة» سيد، قائلا: «لا أقول هذا دفاعا عن أخي، فهو بين يدي مولاه، وإنما أقوله لأني عايشته السنين الطوال، وأعلم بما لا يدع مجالا للشك أنه لم يقع في عقيدته شيء من الزيغ أو الدخن».
عمل محمد على صياغة أفكار سيد في مشروع تربوي حركي مفصل قابل للتطبيق العملي في حياة الحركة، إضافة للمنحى الأهم الذي نحاه محمد قطب مختلفا عن أخيه، عبر تأكيده المتكرر في أغلب كتاباته على المنهج التربوي التدريجي، الذي يستلزم الانخراط في «المجتمع الجاهلي» من أجل التأثير فيه. فهو وإن كان يتفق مع سيد حول فكرة «الحاكمية» و«جاهلية المجتمعات»، فإنه يختلف معه في «المفاصلة والعزلة»، إذ يقرر أن الوصول إلى إقامة «المجتمع الإسلامي المنشود» يكون عبر عملية تربوية طويلة من خلال بناء «قاعدة صلبة» تتغلغل داخل المجتمع «الجاهلي» حتى يتغير وتجد الحركة لها ثقلا جماهيريا قويا بين الشرائح كافة، ولذلك نجد النشاط الصحوي في عز ذروته فاعلا وناشطا بقوة في المدارس والجامعات، ومجال التعليم والنشاط الطلابي، حيث اعتنى قطب كثيرا بمسألة التعليم في كتبه ومؤلفاته، معتبرا إياه حقلا من أهم «حقول المعركة والصراع مع أعداء الدين، لا بد أن تكتسبها الصحوة، وتنقيها من أدران الجاهلية».

* القاعدة الصلبة.. قبل الحكم

* في كتابه «واقعنا المعاصر» (صدر في طبعته الأولى عام 1986 عن مؤسسة المدينة للنشر بجدة)، الذي يعد أحد أهم الكتب المؤثرة والمكونة للمنهج التربوي السروري والإخواني عموما، يقدم قطب الرؤية الحركية المعاصرة لأهم مفاصل التاريخ الحديث، والموقف من مخططات الاستعمار، ووسائل تغريب المرأة، والتعليم، والإعلام والفكر والأدب، ومعالم الغزو الفكري والصليبي على بلدان المسلمين.. «فالعالم الإسلامي اليوم يمر بأسوأ مراحله، يمكن أن نطلق عليها مرحلة (التيه).. انحرف المسلمون انحرافا شديدا عن حقيقة الإسلام، ويحاصرهم الغزو الفكري الذي يحيكه أعداء الأمة من كل مكان».. ولكن «اليوم يدور الزمان دورته، ويبزغ فجر جديد للإسلام مع تباشير الصحوة الإسلامية، يحمله الشباب المؤمن الذي يتطلع إلى اليوم الذي يجد فيه الإسلام مطبقا بالفعل، اليوم الذي يعود فيه المسلمون إلى الاستخلاف والتمكين في الأرض».
يشرح قطب في مقدمته أسباب تأليفه للكتاب قائلا: «هذه محاولة لدراسة الصحوة الإسلامية، وما تحمله من دلالة تاريخية.. ماذا أنجزت، وماذا ينبغي أن تنجز حتى تجتاز أزمتها الحالية، وتصل إلى التمكين الذي وعد الله به المؤمنين.. أردت بمحاولاتي تلك الرد على تساؤلات الشباب المتطلع إلى تحقيق الإسلام في عالم الواقع: لماذا طالت المسيرة؟ لماذا تأخر التمكين؟ ما منهج الدعوة؟ ما الطريق الصحيح؟».
بعد أن يستعرض محمد قطب في كتابه ظلامات «الجاهلية» التي يرزح تحتها العالم الإسلامي في كل المجالات، قدم في الربع الأخير منه الحل الأمثل لمواجهة الواقع المعاصر، والمنهج الأصلح لتحقيق التمكين والوصول إلى الحكم، عن طريق «بناء قاعدة إسلامية صلبة» تكون النواة الرئيسة الأولى للمواجهة مع السلطة «الجاهلية» القائمة، والسند الفعلي الداخلي لأبناء الحركة أمام مخططات أعداء الإسلام، وأعداء الحكم الإسلامي.
يؤكد قطب أن أي استعجال في التحرك من أجل التمكين، أو الصدام مع السلطة قبل «تكوين القاعدة المسلمة المجاهدة» هو «عملية انتحارية لا طائل من ورائها، إلا إعطاء الطغاة حجة لتقتيل المسلمين وتذبيحهم، والناس غافلون عن حقيقة المعركة وكون هؤلاء الطغاة إنما يعملون ما يعملون عداء للإسلام ذاته، وولاء للصليبية الصهيونية التي تحارب الإسلام في كل الأرض».
كيف يمكن إذن بناء «القاعدة الإسلامية»؟
يجيب قطب: «لا بد من ارتياد الطريق الطويل، المجهد الشاق المستنفد للطاقة، وهو طريق التربية.. التربية من أجل إنشاء (القاعدة الإسلامية) الواعية المجاهدة التي تسند الحكم الإسلامي حين يقوم، وتظل تسنده لكي يستمر في الوجود بعد أن يقوم.. فهل يمكن أن يقوم حكم الحركة الإسلامية قبل أن توجد القاعدة المؤمنة التي تواجه النتائج المترتبة على إعلان الحكم الإسلامي، وأولاها تحرش الصليبية الصهيونية كما حدث في أفغانستان والسودان؟!.. إن حكم الحركات والأحزاب العلمانية والشيوعية داخل بلاد المسلمين تجد سندها من القوى الغربية، وتدعمها أميركا وروسيا، ولذلك تصل بسهولة للحكم، أما الحكم الإسلامي فإنه لن يواجه من القوى الغربية إلا العداء، ولن يجد سنده الحقيقي إلا من الداخل، من القاعدة الإسلامية الصلبة المجاهدة!».
لا يضع قطب أي مدى زمني لعملية الإعداد والتربية، يورد في ثنايا حديثه تساؤلات أبناء الحركة المستعجلين، فيقول: «أما الذين يسألون إلى متى نظل أن نربي دون أن نعمل؟.. فنقول لا نستطيع أن نعطيهم موعدا محددا، فنقول لهم عشر سنوات من الآن أو عشرين سنة، فهذا رجم بالغيب، إنما نستطيع أن نقول لهم: نظل نربي حتى تتكون القاعدة المطلوبة بالحجم المعقول».
وبتأكيد قطب على جعل العمل التربوي أولوية طويلة المدى، افترقت (السرورية) عن غيرها من التيارات الحركية الأخرى، سواء السلفية الجهادية، أو السلفية العلمية (أهل الحديث)، حيث رأت الأولى أن استغراق هذا الجهد الطويل في التربية هو إضاعة للوقت وتعطيل عن تحقيق الهدف، فاختارت المواجهة المسلحة المباشرة مع السلطة «الجاهلية» أو «القوى الصليبية الصهيونية». أما الثانية فترى أن استغراق الجهود الحركية في التربية هو انصراف عن الغاية الأساسية، وهي التبحر في طلب العلم الشرعي، وفهم منهج السلف على الوجه الصحيح، بدلا من إضاعة الوقت في أنشطة تربوية واجتماعية «لا تبني طالب العلم»، وقد عبرت عن ذلك مقولة عالم الحديث السوري محمد ناصر الدين الألباني «التصفية والتربية».

* غدا:
* محمد قطب يواصل مشوار أخيه سيد في تكفير المجتمعات الإسلامية



معارك الظل في سوريا... محاربة «داعش» وإعادة بناء الدولة

سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
TT

معارك الظل في سوريا... محاربة «داعش» وإعادة بناء الدولة

سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)

عند مداخل دمشق المتفرعة من جهة أوتوستراد المزة، وقبيل الوصول إلى ساحة الأمويين يتوزع شبان بمظهر شبه عسكري على جانبي الطريق يبيعون أعلاماً ورايات احتفال بـ«يوم التحرير»، يقابلهم في الشوارع الأضيق والنواصي المؤدية إلى أحشاء المدينة نساء بأثواب طويلة وحجاب يغطي نصف الوجه أحياناً، يجرجرن طفلاً او اثنين، ويحملن أرغفة خبز للبيع. تكدس النسوة الأرغفة فوق بعضها بعضاً وتدفع بها إلى المارة ونوافذ السيارات بلا غطاء أو كيس يحميها من الأدخنة العابقة برائحة المازوت والأتربة المتطايرة من أحزمة البؤس والدمار المطبقة على العاصمة.

منذ بعض الوقت تحول بيع الخبز بهذه الطريقة «مهنة»، نسائية إلى حد بعيد، انتعشت أكثر مع ازدياد الفقر والعوز؛ فتذهب النساء للانتظار في طوابير الأفران لشراء حصة من الخبز يعدن لبيعها مقابل مبلغ إضافي صغير، ويعاودن الاصطفاف في الطوابير، وهكذا دواليك حتى ساعات متقدمة من الليل. المشهد لا يقتصر على دمشق ومحيطها، بل يتكرر على امتداد المدن والمناطق السورية التي زرتها من حمص وإدلب وحلب، وكأن المشهد النسائي هذا أصبح جزءاً من نسيج الأزمة المستمر وأحد مقومات الصمود اليومي للسوريين.

مشهد لمدينة دمشق (الشرق الأوسط)

دمار مديد

ولئن كانت النساء بوجوههن المنهكة وأيديهن المخشوشنة خير شاهد على نكبة عصفت بالبلاد لنحو 15 عاماً، فإن الدمار المديد الذي لا يحدّه نظر، يشهد هو الآخر على هول ما كان. أحياء وضواحٍ كاملة سويت بالأرض تطوّق دمشق وتكاد تخنقها بأتربتها وبقايا الردم فيها، كما وتسود الحواضر الكبرى وأريافها، حيث الركام واللون الرمادي الأغبر يمتد على مساحات شاسعة من البلاد. فأن تقود سيارتك لأكثر من 350 كلم عبر الأراضي السورية ولا ترى شجرة أو حيّاً أو بيتاً ناجياً، يعني أنك تعاين عملياً ما خلفته لأكثر من عقد من الزمن، آلة قتل وتدمير وانتقام أقرب ما يكون إلى الثأر الشخصي. فحجم الخراب وشكله لا يعكسان مجرد معارك بين أطراف متنازعة وتفوق عسكري لجهة على أخرى، وإنما يكشف عن نية واضحة بتصفية الناس وأرزاقهم، ودفن أي حلم أو بصيص أمل لديهم بالعودة إلى الديار. فما لم يقضِ عليه القصف بشكل مباشر، حُرق ونُهب وتصحّر عن عمد. لكن العودة تتم وإن ببطء شديد ودفع ذاتي.

وحدها فقاعات قليلة نجت في دمشق وأسواقها، أو خارجها من المناطق والمدن، وازدهر بعضها، لحسابات طائفية أو مصالح سياسية أو تجارية تتعلق بشكل أساسي بتصنيع الكبتاغون وترويجه.

دمار من جرَّاء المعارك بين قوات الأسد وفصائل المعارضة السابقة في مخيم اليرموك بضواحي دمشق (إ.ب.أ)

دمشق... الواجهة البراقة

كانت المدينة على موعد مع احتفالات استثنائية بالذكرى السنوية الأولى لهروب بشار الأسد، والاستعدادات تسير على قدم وساق. منصات ومكبرات للصوت وتنظيم للسير ولافتات تشدد على الوحدة الوطنية «شعب واحد... وطن واحد» وأن «الحقبة السوداء انتهت». برنامج الحفل يصل إلى الهواتف النقالة عبر رسائل قصيرة تشجع على المشاركة وحضور الفعاليات «للاحتفال بالحرية والأمل... وإكمال الحكاية». لكن أي حكاية؟ سؤال يتردّد في الشوارع ذاتها التي تُباع فيها الأرغفة على الأسفلت وتشهد احتفالات النصر.

فهنا، تكثر الحكايات وتتشعب حتى تكاد تتناقض كمثل فقاعات الأمكنة التي تتجاور ولا تلتقي. ثمة انقسام عمودي حاد في وجهات النظر وتراشق يشبه إلى حد بعيد مرحلة 2011 حين انقسم السوريون إلى حد القطيعة بين مؤيد ومعارض، مقابل إصرار رسمي واضح على تصدير صورة مصقولة عن المرحلة.

بهو فندق على الطراز الدمشقي القديم في منطقة باب توما (الشرق الأوسط)

معركة الأمن الصامتة

خلف الواجهة الاحتفالية، تُدار معركة أخرى أقل صخباً وأكثر تعقيداً. «يشكل (داعش) والمهاجرون (المقاتلون الأجانب) تحديداً التحدي الأبرز بالنسبة لنا» يقول مصدر أمني سوري رفيع مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، لافتاً إلى أن الاعتقال و«التحييد» يتمّان بشكل دوري. أما كيف يتم ذلك (وهو مصطلح شائع في تركيا يستخدم ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني)، فتتقاطع المعلومات مع مصدر آخر يفيد بأن «العمل الأمني يجري بدقة وحرفية وإن لوائح المنتمين إلى تنظيمات متطرفة تحت مظلة عريضة هي (داعش)، موجودة لدى الأجهزة الأمنية وهي تقوم بتعقبها». وأضاف: «نعرفهم واحداً واحداً ونقوم برصدهم ووضعهم تحت المراقبة. كما أن النظام السابق ترك آلية عمل وتعقب دقيقة جداً نعتمد عليها حتى الآن إلى درجة كبيرة».

رجال أمن سوريون في ساحة سعد الله الجابري في حلب ليلة الاحتفال بسقوط نظام الأسد في 7 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)

التقيت المصدرين قبل أيام قليلة على حادثة تدمر الأخيرة، لكنها حين وقعت، لم تبدُ خارج السياق العام للقاءات وما كشفت عنه المعلومات المتقاطعة. ذاك أن المسؤولين والأشخاص في مواقع أمنية دقيقة بدوا مدركين مسبقاً لهذا الاحتمال بصفته واحداً من المخاطر الأمنية المتعددة، لا سيما بعد انضمام سوريا رسمياً إلى تحالف «محاربة الإرهاب».

ولخّص مصدر هذه المخاطر بثلاثة أنواع من المواجهات «أولاً المواجهة مع (داعش) ومتفرعاته، وهي تجري بحذر شديد؛ لأنها تهدد الرئيس أحمد الشرع بشكل شخصي، وثانياً المواجهة مع (قسد) وهي تهدد الدولة الناشئة وهويتها على المدى البعيد، وثالثاً مواجهة باردة وأقل حدة مع إسرائيل بسبب أحداث السويداء».

وفي رواية شبه رسمية، لم يستبعد المصدر الأمني أن يشكل المفرج عنهم من مخيم الهول «قنابل موقوتة» يتم استغلالها لزعزعة الأمن داخلياً وتلبية رغبات المتطرفين الرافضين التحول الحاصل في شكل السلطة من جهة، ولإطلاق رسالة للخارج مفادها أن سحب ملف «محاربة الإرهاب» من يد «قسد» لن يجدي؛ إذ يمكن أن «يفتح الباب أمام قطعان من الذئاب المنفردة» من جهة ثانية.

هل تكفي المقاربة الأمنية؟

تحدي الدولة ليس أمنياً فقط، وهذه المقاربة الصرفة لا تحظى بإجماع داخل دوائر السلطة نفسها. فبعكس من يرى في «داعش» والتطرف «عقدة تقنية» يمكن حلها بمقاربة أحادية، يرى مسؤول مقرب من «الهيئة السياسية» أن «المشكلة الفعلية تكمن في استيعاب تلك الكتلة البشرية الهائلة التي نشأت خارج أي سياق اجتماعي طبيعي لسنوات عدّة، خارج منظومة التعليم أو الأسرة أو أي شكل ناظم للحياة».

طلاب يحضرون الفصول الدراسية داخل مدرسة معر شمارين الابتدائية وتبدو جدرانها مليئة بثقوب الرصاص من القتال بين القوات الموالية للرئيس السابق بشار الأسد والمعارضة بقرية معر شمارين في ريف إدلب بسوريا 19 أكتوبر 2025 (أ.ب)

وأضاف: «التحدي الكبير هو في استيعاب هؤلاء ودمجهم ضمن مفهوم الدولة وإعادة تأهيلهم لهذا الغرض». وقال: «كما تم استقطاب هؤلاء المراهقين إلى طيف معيّن من التشدد، يجب اليوم العمل على نقلهم إلى مكان وسطي. فإذا كان الرئيس نفسه يقول إننا اليوم نغادر الحالة الفصائلية وننتقل إلى مفهوم الدولة، فكيف يكون هذا الانتقال على مستوى القاعدة؟ هل بشكل فردي وأمني فحسب أم مجتمعي أيضاً؟».

وفي السياق، ذهب أحدهم لتفسير عبارة «أطيعوني ما أطعت الله بكم» التي أطلقها الشرع من الجامع الأموي ليلة الاحتفال الكبير, وأثارت غضب الشرائح المدنية والعلمانية المعارضة، إنها رسالة لشريحة أخرى هي التي تضعها الدولة اليوم نصب أعينها وتسعى لاحتواء غضبها عبر دعوة «دينية» صريحة لـ«إطاعة الحاكم وعدم الخروج عنه».

صورة نشرتها وزارة الداخلية السورية لجانب من عملية ضد «داعش» في ريف إدلب الاثنين 1 ديسمبر 2025 (الداخلية السورية)

ولئن يبدو الكلام أسهل من الفعل، إلا أن الواقع المعاش أصعب بأشواط.

فإذا كان الأمن مضبوطاً إلى حد بعيد في المدن الرئيسية كدمشق وحلب عبر الانتشار الأمني الكثيف وبـ«استخدام تقنيات حديثة منها المسيَّرات»، وذلك في فترة حساسة شهدت تجمعات هائلة تزامناً مع الاحتفالات بالذكرى السنوية الأولى لسقوط النظام السابق، فإن المساحات الشاسعة في الأرياف، حيث الدمار الهائل والفقر المدقع والبطالة المستشرية، متروكة لحالها إلى حد بعيد. وبينما تتوزع حواجز الأمن العام على الطرقات الرئيسية بين المحافظات، فإن الحواضر الجانبية وأزقة البلدات متروكة لحالها. ولعل الاستثناء الذي تمتعت به «إدلب» المدينة لفترة من الزمن، وكثر الحديث عنه من خدمات ورعاية وإدارة، لم يسحب منها فقط بعد التحرير وإنما جاء هذا الانفتاح على بقية المناطق السورية ليضعها أمام استحقاقات الحياة الفعلية، لتدرك المدينة وريفها المهمل والمدمّر أن الوضع كان أقرب إلى «إدارة أزمة»، لا يزال إرثها حاضراً حتى في اللغة اليومية، كأن يتخاطب العسكريون فيما بينهم ومع المدنيين العابرين على الحواجز بتسمية «شيخ» و«استعن بالله» للقول امض في سبيلك.

ملصق لدائرة الهجرة والجوازات السورية عند المعبر الحدودي مع لبنان في جديدة يابوس (الشرق الأوسط)

وهناك بين ريفي إدلب وحلب على سبيل المثال قرى ومدن صغيرة معروفة بتوجه الأهالي فيها وانتمائهم، وليست كلها على ذاك الاعتدال وتلك الوسطية التي تعتلي منصات دمشق. توجهات تجعل السائقين يسلكون طرقاً أطول لقطع المسافات، لكن «أقل خطورة» بظنهم.

وفي ذلك الشريط يشكل الشبان، لا سيما الأصغر سناً، وقود الفصائل المسلحة التي لم يبق منها في الميدان في السنوات الأخيرة إلا «هيئة تحرير الشام» بشكل أساسي، وانضم الآلاف منهم بعد سقوط النظام السابق إلى الأمن العام أو الجيش وليس لهم اليوم مورد رزق آخر. فحتى منازل أهلهم المدمرة أو أرزاقهم المنهوبة لا يملكون ثمن ترميمها، ويجد كثيرون منهم في المنامة والمأكل في الثكنات العسكرية عوضاً عن سوء حالهم خارجها.

نسيج هويات مقاتلة

والحال، إن تلك هويات تبلورت في سنوات التسلح، وتحديداً ما بعد 2013، ولكن جذورها الاجتماعية تعود إلى ما قبل ذلك بزمن. فإذا كان اليوم يطلق على كل من هو مرتبط بالسلطة الجديدة وصف «إدلبي» نسبة إلى إدلب معقل حكم «هيئة تحرير الشام» خلال الأعوام التسعة الأخيرة، وهو وصف يحمل تعالياً في دمشق وحلب، فإن فهم التباينات الاجتماعية والاقتصادية بين بلدات تلك الأرياف نفسها يعين على فهم الخيارات السياسية والعسكرية اللاحقة لأبنائها. فالبلدات المعروفة تقليدياً برابطة العائلة كوحدة اجتماعية متعاضدة، وامتلاك أراضٍ زراعية ثم الاعتماد على الهجرة في منتصف الثمانينات، آثرت تعليم الأبناء والبنات وتوجيههم نحو المهن الحرة والوظيفة مع الحفاظ على سلوك ديني اجتماعي تقليدي يوصف بـ«التدين الفطري»، وهم ممن اختبروا التيارات القومية والعروبية قبيل صعود «البعث» بقبضته الأسدية.

صورة ملتقطة يوم 28 نوفمبر 2024 في إدلب تظهِر مقاتلين من الفصائل السورية المسلحة خلال المعركة (د.ب.أ)

يقابل هذا النموذج بلدات صغيرة تقوم على العائلات الفرعية التي اعتمدت على العمل الزراعي الموسمي وسلك الشرطة والأمن في النظام السابق، وفرحت لانضمام أبنائها إلى «جبهة النصرة» حين بدأت بالاستقطاب؛ لما شكّله ذلك من انتظام في مسلك عسكري معارض لنظام الأسد، ولكنه أيضاً ذو بعد ديني واضح كان ممنوعاً اعتناقه. وإلى هذا، تأتي مناطق شاسعة لجهة البادية تحكمها القبيلة والعشيرة ونظام «الفزعة» الذي يعلو ويخبو حسب الظروف والمصلحة.

وهؤلاء كلهم، وإن تشاركوا في كونهم من العرب السنة، تباينوا في سلوكياتهم وانحيازاتهم واصطفافاتهم؛ ما انعكس لاحقاً في قدرة الفصائل المتشددة والأكثر تشدداً على اختراقهم وتجنيدهم مقابل من بقي عصياً عليها، فعملت على تسليط الطرف على المتن.

إدلب ومفاتيح دمشق

وإذ يقول الأمنيون اليوم إنهم يعرفون المتشددين «واحداً واحداً»، فلأنهم يعتمدون أيضاً على معرفة الجهاز الأمني في «الهيئة» بالفصائل المتشددة والمنتسبين إليها في تلك البلدات ممن حاربتهم خلال السنوات الأخيرة كـ«جند الأقصى» و«حراس الدين» الموالي لـ«القاعدة»، كما ويعتمدون كثيراً على المخبرين. ولا تزال إدلب إلى حد بعيد أشبه بـ«المعقل الآمن» الذي يملك مفاتيح دمشق ومفاصلها ولا يزال يعمل بوتيرته السابقة. يكفي مثلاً أن المحاكم والسجلات الإدارية والمدنية لا تزال تخضع لـ«المحاكم الشرعية» التي حكمتها منذ منتصف 2013، بعكس بقية المناطق السورية ولا سيما العاصمة، حيث تصب المعاملات كافة.

عملية أمنية في مدينة تدمر عقب الهجوم الإرهابي على وفد سوري - أميركي مشترك (الداخلية السورية)

ويميّز محدثي بين أنواع من التجنيد قد تعتمدها «داعش» أو المجموعات المتفرعة منها لضرب الأمن بالاعتماد على تلك البنى الاجتماعية المختلفة؛ التجنيد الآيديولوجي، وهو الأسرع والأكثر فاعلية، خصوصاً بين الأصغر سناً الذين قطعوا شوطاً بتبني الأفكار المتطرفة ولم يستوعبوا بعد التحولات الجذرية التي شهدتها سوريا في عام واحد. والتجنيد بالمال وعنصر «الانتقام» بالاعتماد على حالة الفقر المستشرية بين من فقدوا مصدر دخلهم وسلطاتهم المعنوية، ومن ثم التجنيد ضمن بيئة «المهاجرين» أو المقاتلين الأجانب الغاضبين على ما حل بهم من تخلٍ ولم يعد لديهم عملياً ما يخسرونه.

الدولة الناشئة ونموذج «الصحوات»

حين عاد الرئيس السوري أحمد الشرع من زيارته الأخيرة إلى واشنطن كان محملاً بمهمة عسيرة؛ «مواجهة وتفكيك الشبكات الإرهابية» من بقايا تنظيم «داعش» و«الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله» و«حماس»، حسب ما قال حرفياً المبعوث الأميركي إلى سوريا توم براك. وفي حين تولت إسرائيل ضرب «حزب الله» في لبنان و«حماس» في غزة، بقي على سوريا مواجهة ذيولهما لديها بينما الأصعب يبقى مقارعة «داعش» ومتفرعاته ممن كانوا حتى أمس قريب «رفاق سلاح» لـ«هيئة تحرير الشام». وفي حين يترقب كثيرون شكل هذه المواجهة وسبل ذلك التفكيك على الساحة السورية، سيما في غياب جيش متماسك ذي عقيدة قتالية واضحة، فإن واشنطن من جهتها سبق واختبرت صيغة مشابهة من المواجهة السنية - السنية في عراق ما بعد صدّام، تحت مسمّى «الصحوات».

الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة يلوّحان للسوريين خلال عرض عسكري في دمشق (وزارة الدفاع السورية)

وقام نموذج الصحوات بشكل أساسي على من وصفهم مصدر عراقي مطلع بـ«تحالف المتضررين» من تنظيم «القاعدة» وبالاعتماد على حيّز جغرافي محدد هو محافظة الأنبار، ذات الانتماء العربي السني والتدين الاجتماعي - التقليدي. وعليه، فإن نموذجاً مشابهاً قد يقوم اليوم في سوريا على تحالف متضررين من «داعش» في الشمال والشمال الشرقي وبقيادة رسمية هي الدولة الناشئة المطلوب منها محاربة التطرف.

وأوضح المصدر العراقي الذي واكب من كثب مرحلة تأسيس الصحوات واندثارها لاحقاً مع حكومة نوري المالكي، إن العشائر في منطقة الرمادي (تحديداً البوريشة والبوعلوان والبوفهد، وبدرجة أقل الدليم) كانت عماد تلك الحرب؛ لما ألحقته «القاعدة» من ضرر بتجارتهم ومصالحهم ونسيجهم الاجتماعي.

وإذ كان بعضهم أُرغم على المبايعة في مرحلة ما، فإن التصادم لم يتوقف يوماً، ومثال عليه مقتلة قبيلة البونمر التي أعدم التنظيم منها نحو ألفي رجل. يقابل ذلك المثال في الحالة السورية قبيلة الشعيطات التي وقفت في وجه «داعش» ورفضت مبايعته؛ فارتكب فيها إحدى أكبر المجازر وقتل نحو 1800 من شبانها دفعة واحدة.

وفي تقاطع آخر يشبه تحديات المرحلة الدقيقة التي تمر بها سوريا، حيث التوازن الهش بين تحديات الأمن وبناء الدولة المرجوة، كان يطلب من كل من يريد الانضواء تحت لواء الصحوات «إعلان البراءة من (القاعدة) والانخراط في قوات الأمن ضمن الصحوات». وتم ذلك بتنسيق مع القوات الأميركية على أمل «تحويل تلك الكتلة السكانية (سنية عشائرية) رافعةً سياسية من ضمن مجموعة روافع سياسية أخرى».

شعارات في دمشق مع اقتراب ذكرى سقوط الأسد (د.ب.أ)

من السلاح إلى السياسة

ويلفت المصدر العراقي إلى نقطة أساسية في تحول مسار الصحوات من دورها الأمني إلى السياسي، فيقول: «على الرغم من القيمة الأمنية الكبيرة لتلك الصحوات في مرحلة ما، وما أنجزته على الأرض، فإنها لم تنجح في الانتقال من الدور الأمني/ العسكري إلى العمل السياسي. فعندما انخرط قادتهم في السياسة والانتخابات لم يحققوا تمثيلاً فعلياً ولم يخترقوا القواعد الشعبية».

وذلك تحديداً هو بيت القصيد في الحالة السورية، أي «التحول الجمعي من الحالة العسكرية الفصائلية في حيز جغرافي محدد، إلى حالة الدولة بمفهومها السياسي والإداري الأوسع والأشمل، والعسكري لجهة (احتكار العنف) ضمن مؤسسة جيش وطني واحد».

وبين امرأة تبيع الخبز على ناصية شارع، وشاب يتراقص في الساحات، وأجهزة تعمل على تثبيت الأمن وشكل الدولة، تبدو سوريا اليوم كبلد بفقاعات كثيرة. واجهة براقة تُعدّ للاحتفال كبطاقة بريد منمقة، وعمق اجتماعي وأمني هشّ لم تُحسم معاركه بعد.


«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.