لو أندرياس سالومي وفريدريك نيتشه... حب من طرف واحد بين العبقرية والجمال

الحسناء الروسية المثقفة التي أوقعت في حبائلها عصراً بكامله

نيتشه - لو سالومي
نيتشه - لو سالومي
TT

لو أندرياس سالومي وفريدريك نيتشه... حب من طرف واحد بين العبقرية والجمال

نيتشه - لو سالومي
نيتشه - لو سالومي

لم يكن للصورة الفوتوغرافية الفريدة التي تضم في عربة رثة للحيوانات كلاً من الفيلسوف الألماني الشهير فريدريك نيتشه وصديقه الأثير بول ري والشابة الروسية الحسناء لو أندرياس سالومي، أن ترسخ في أذهان البشر وذاكرتهم الجمعية، لو لم تعكس برمزيتها المثيرة الواقع الفعلي للعلاقة التي ربطت بين لو سالومي وبين الصديقين «اللدودين». فقد بدا الرجلان الواقفان في مقدمة العربة المعطلة، وكأنهما مكلفان بجرّها إلى الأمام بدلاً من الحيوانين المخصصين لهذه الغاية، في حين كانت الفتاة الحسناء ذات الملامح الصارمة ترفع السوط عالياً لحثهما على التقدم. والواقع، أن الفتاة المغوية ذات النزوع السادي لم تتلاعب بمصير نيتشه وري فحسب، بل تعدتهما إلى بعض أبرز عباقرة الغرب، من أمثال ريلكه وسيغموند فرويد. كما أنها كانت ترهص في الوقت ذاته بتقويض المفاهيم الذكورية المحافظة للعصر الفيكتوري.
كان نيتشه المولود في لوتزن لأبوين كهلين عام 1844، في السادسة والثلاثين من عمره حين وضعته أقداره الصعبة في مواجهة لو سالومي، الشابة القادمة من سان بطرسبورغ، والمتمتعة بقدر وافر من الذكاء والفتنة. وإذ أسهم رحيل أبيه المبكر وهو لمّا يزل في السادسة من عمره، فضلاً عن اعتلال رأسه وبصره ومعدته، في إصابته بشروخ عصبية ونفسية عميقة، فإن تلك الشروخ بالذات هي التي وفرت التربة الملائمة لنبوغه الإبداعي، كما زودته بقدرٍ من الضراوة والعصف الروحي الديونيزي، عبّر عنه في إحدى قصائده بالقول «أحياناً أحدب على بعض الأعاصير وكأنها أولادي».
لكن الاعتلالات الجسدية والعصبية التي عاشها نيتشه، لم تكن على قسوتها المصدر الوحيد لمكابداته، بل إن العنت وسوء الفهم اللذين واجههما في علاقته بالنساء، قد ضاعفا من منسوب تلك المكابدات وجعلاه فريسة نموذجية للوحشة والصقيع والتوجس من البشر. وحيث ظن بأن تفوقه الفكري يمكن «تسييله» على الصعيد العاطفي، فقد أكدت له تجاربه الفاشلة مع النساء، خطأ اعتقاده ذاك. لا، بل إن غير واحدة منهن فضلت عليه أصدقاء له، أقل شأناً منه بكثير. فحين عرّفه صديقه الموسيقار هوغو فون سينغر إلى الشابة ماتيلده ترامبداخ، أثناء إقامته في جنيف، لم يتوان نيتشه عن الكتابة لها قائلاً «حشّدي كل شجاعة قلبك، حتى لا تخافي من السؤال الذي سأطرحه عليك: هل ستكونين زوجتي؟ إنني أحبك وأشعر بأنك تنتمين لي بالفعل». غير أن أسئلة طالب الزواج لم تجد جوابا لها عند ترامبداخ، التي ما لبثت أن اقترنت بفون سينغر نفسه بعد فترة من الزمن.
لم يظفر الفيلسوف المعجب بموسيقى فاغنر وفلسفة شوبنهاور بالزوجة المطلوبة، لكن القدر كان يهيئ له فخاً آخر أكثر خطورة من سابقه بتعرفه عام 1882 إلى سالومي التي، قدمت من روسيا إلى زيوريخ، بحثاً عن علاج مناسب لمشكلات متعلقة بالتنفس. والواضح أن حاجة نيتشه إلى الإشباع العاطفي والنفسي ما لبثت أن أنسته صدمته السابقة، بحيث شعر أن الحظ الذي أشاح بوجهه عنه، قد بات حليفه هذه المرة. ولعل ثقته المستجدة بأقداره، قد وجدت ما يسندها في ثقافة الفتاة الواسعة وفي اهتمامها الشديد بأفكاره ومؤلفاته، رغم أن سالومي لحظة تعارفهما، لم تكن تتجاوز الحادية والعشرين من العمر.
«ربما سأجد كوخاً لائقاً لحارس غابة، أو بيت قسّ في الغابة نفسها، حيث يمكن أن تعيشي بضعة أيام بقربي. ذلك أني أودّ بشدة وبصراحة تامة أن نكون بمفردنا في أقرب وقت. تقبّليني بعض الشيء، فالناس يقولون إنني لم أكن مبتهجاً في حياتي وواثقاً بقدري كما أنا اليوم». هذا ما كتبه نيتشه في الرسالة الثانية التي بعث بها إلى سالومي؛ ظناً منه أنه قد عثر أخيراً على المرأة المناسبة التي تستطيع أن تنعطف بحياته إلى بر الأمان. كما أبلغها في رسائل أخرى أنه يعلق آمالاً جسيمة على أن يعيشا معاً، وأن صحته بعد لقائها قد بدأت في التحسن، بحيث بات يبدو أصغر سناً من ذي قبل.
ومع أن أخته إليزابيت ذات الشخصية المزاجية والمتسلطة، قد أظهرت عداءها السافر لسالومي، فإن نيتشه لم يكترث لموقفها السلبي من فتاة أحلامه، ولم ينتبه بالمقابل إلى حرص سالومي البالغ على توزيع اهتمامها بينه وبين بول ري، مع رجحان واضح لكفة الأخير، وكان عليه أن يظل سادراً في تهيؤاته لأشهر معدودة، قبل أن يكتشف أن القصور الوردية التي شيدتها تلك التهيؤات لم تكن سوى أوهام زائفة وبعيدة عن الواقع. ومع ظهور الحقيقة جلية أمام عينيه كتب رسالة مشتركة إلى ري وسالومي يقول فيها «لا تنزعجا من نوبات تعاظمي أو غروري الجريح، وحتى لو صادف أنني انتحرت جراء انفعال ما أو آخر، فلن يكون هناك الكثير مما تأسيان عليه».
إلا أن العاشق الجريح الذي اعترف لأحد أصدقائه بأن مشاعر سالومي إزاءه لا تتعدى الإشفاق، وبأن «الشفقة نوع من الجحيم»، ما يلبث أن يكتب لها رسالة قاسية يبادلها فيها الشفقة بمثلها قائلاً «أرجو أن ترتقي بنفسك أمامي لكي لا أضطر إلى احتقارك. أي نوع من الرسائل تكتبين؟ تلميذات المدارس الناقمات الشهوانيات هن اللواتي يكتبن بهذه الطريقة. ماذا عليّ أن أفعل بهذه التفاهة المثيرة للشفقة؟». ولعل نزوعه المطرد نحو الأخذ بشريعة القوة والاستحواذ والجبروت، كان نوعاً من رد الفعل الانتقامي على ما تعرض له من هزائم وعثرات وخيانات، في غابة الصراع على البقاء التي تسمى الأرض. ومع أن صاحب «العلم المرح» قد حاول المكابرة وإخفاء هزيمته إثر خطوبة سالومي للأستاذ الجامعي فريدريك أندرياس، إلا أنه كان في واقع الحال يعقد مع جنونه صفقة رابحة مكنته من كتابة رائعته الأشهر «هكذا تكلم زارادشت»، قبل أن يدخل في العتمة الشاملة التي أوصلته إلى موته عام 1900.
أما لو سالومي التي لم تسلم قيادها لأحد سوى مزاجها الشخصي وشغفها بالحرية، فهي لم تقدم في كتابها النقدي «نيتشه - سيرة فكرية» أي إشارة دالة على مشاعر عاطفية إزاء «المتوحد العظيم» الذي اعتبرته الناثر الأول في زمنه، دون أن تتوانى في الوقت نفسه عن إظهار ما يحكم رؤيته للعالم من تناقضات. كما أن زواجها من أندرياس لم يمنعها من الارتباط العاطفي بالشاعر الألماني ريلكه الذي كان يصغرها بأربعة عشر عاماً، ملهمة إياه بعض أجمل أشعاره، والذي خاطبها بالقول «يوماً ما بعد أن يقضي الزمان عمله، سوف تعرفين ما كنتِ تعنينه لي. كنتِ أشبه بنبع جبلي قُيض لظمآن. لم أعد أتمنى رؤية الأزهار والسماء والشمس إلا فيك، ومن خلالك». وفي وقت لاحق تمكنت سالومي من الانضمام إلى حلقة النقاش الضيقة التي أحاطت بسيغموند فرويد، لتخوض مع مؤسس علم النفس الشهير مغامرة من نوع خاص تراوحت بين الصداقة والحب والتفاعل الفكري والمعرفي، قبل أن ترحل عن هذا العالم عام 1937، تاركة وراءها الكثير من تنهدات الحسرة والأصداء المتباينة وعلامات الاستفهام.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«لون لا يموت»... معرض يستحضر الأساطير الشعبية في الريف المصري

إحدى لوحات المعرض (الشرق الأوسط)
إحدى لوحات المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«لون لا يموت»... معرض يستحضر الأساطير الشعبية في الريف المصري

إحدى لوحات المعرض (الشرق الأوسط)
إحدى لوحات المعرض (الشرق الأوسط)

عبر أكثر من 100 لوحة في فن الجرافيك والرسم بالأبيض والأسود، وكذلك الأعمال الملونة التي ترصد تفاصيل الحياة الشعبية بالشارع المصري، استضاف متحف محمود مختار بالجزيرة (وسط القاهرة)، معرضاً استعاديّاً للفنان الراحل وحيد البلقاسي، الملقب بـ«شيخ الحفارين»، تضمن رصداً لأعماله وجانباً كبيراً من مسيرته الفنية.

المعرض الذي انطلق 18 ديسمبر (كانون الأول) الحالي ويستمر حتى 28 من الشهر نفسه في قاعتي «نهضة مصر» و«إيزيس» رصد مراحل فنية متنوعة للفنان الراحل، وبرزت خلاله فكرة الأسطورة الشعبية من خلال رموز بعينها رسمها ضمن اللوحات، مثل: العين الحارسة، والأجواء الأسطورية، للحكايات التي تتضمنها القرية المصرية.

وبينما تضمنت إحدى القاعات الأعمال الملونة والغرافيك المميز الذي قدمه الفنان وحيد البلقاسي، والتي تعبر عن الأسرة المصرية بكل ما تمثله من دفء وحميمية، كذلك ما يبدو فيها من ملامح غرائبية مثل القصص والحكايات الأسطورية التي يتغذى عليها الخيال الشعبي.

البورتريه الملون من أعمال الفنان وحيد البلقاسي (الشرق الأوسط)

ولد وحيد البلقاسي في محافظة كفر الشيخ (دلتا مصر) عام 1962، وتخرج في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، قسم الغرافيك عام 1986، واشتهر بأعماله في فن الغرافيك، وله عشرات المعارض الفردية والجماعية، كما أسس جماعة فنية باسم «بصمات»، وكان لها دور فاعل في الحياة الفنية عبر معارض وفعاليات متنوعة.

يقول عمار وحيد البلقاسي، منسق المعرض، نجل الفنان الراحل، إن المعرض يمثل تجربة مهمة لشيخ الحفارين وحيد البلقاسي، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن «اختيار اسم المعرض للتأكيد على أن أعمال الفنان لا تموت وتظل خالدة للأبد، تحمل اسمه وتحيي أعماله الفنية»، وتابع: «قبل وفاة الفنان عام 2022 كان يتمنى أن يعرض هذه المجموعة المتنوعة من أعماله الفنية، بما فيها الحفر على الخشب في دار الأوبرا المصرية، واستطعنا أن نعرض من مجموعته 100 عمل فني تصوير، من بينها 30 عملاً فنياً بطول مترين وعرض 170 سنتمتراً، بالإضافة إلى مجموعة من الأعمال الصغيرة».

وأشار إلى أن الأعمال في مجملها ترصد القرية والحياة الريفية بمصر، وتتضمن موتيفات ورموزاً شعبية كثيرة تدل على الأصالة وعشقه للقرية والحياة الشعبية بكل ما تتضمنه من سحر وجمال.

ويصف الإعلامي المصري والفنان طارق عبد الفتاح معرض «لون لا يموت» بأنه «يعبر عن مسيرة الفنان وحيد البلقاسي»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط»: «أعدُّ الفنان الراحل فناناً عالمياً؛ لأنه جمع بين الإغراق في المحلية ومفردات التراث في لوحاته، واللوحات التي تنطق بالتعبيرية وتمثل الروح المصرية الأصيلة، واستخدم الأبيض والأسود في أغلب أعماله، لكن له مجموعة أعمال بالألوان مبهرة، ويظهر في أعماله مدى اهتمامه بالجمال والاحتفاء بالمرأة وبالمفردات الشعبية وتفاصيل القرية المصرية».

الفنان الراحل وحيد البلقاسي (الشرق الأوسط)

وتابع عبد الفتاح: «لوحات المعرض سواء الكبيرة، التي يصل ارتفاعها إلى مترين، أو الصغيرة، فيها طاقة تعبيرية تبهر المتلقي الذي ينجذب فوراً للتفاصيل الموجودة بها».

وإلى جانب أعماله الفنية المتميزة، فقد شارك وحيد البلقاسي في الحركة التشكيلية عبر أنشطة عدّة، وأُنتج فيلم تسجيلي عن مسيرته الفنية بعنوان «شيخ الحفارين»، من تأليف علي عفيفي، وإخراج علاء منصور، سجل رحلته الفنية وعلاقته بالقرية والمفردات التي استقى منها فنه.


«روح ومحبة»... احتفالات مصرية بأعياد الميلاد في «متحف الحضارة»

أيقونات قبطية ضمن المعرض الأثري بمناسبة أعياد الميلاد (متحف الحضارة المصرية)
أيقونات قبطية ضمن المعرض الأثري بمناسبة أعياد الميلاد (متحف الحضارة المصرية)
TT

«روح ومحبة»... احتفالات مصرية بأعياد الميلاد في «متحف الحضارة»

أيقونات قبطية ضمن المعرض الأثري بمناسبة أعياد الميلاد (متحف الحضارة المصرية)
أيقونات قبطية ضمن المعرض الأثري بمناسبة أعياد الميلاد (متحف الحضارة المصرية)

تحت عنوان «روح ومحبة» أطلق المتحف القومي للحضارة المصرية احتفالية بمناسبة رأس السنة الميلادية وأعياد الميلاد المجيد، تضمّنت معرضاً أثرياً مؤقتاً يستمر لمدة شهرَين بالتعاون مع المتحف القبطي في القاهرة.

ورأى الرئيس التنفيذي للمتحف القومي للحضارة المصرية، الدكتور الطيب عباس، أن تنظيم هذا المعرض يأتي في إطار الدور الثقافي والمجتمعي الذي يضطلع به المتحف، مشيراً في بيان للمتحف، الجمعة، إلى أن رسالة المتحف لا تقتصر على عرض القطع الأثرية فحسب، بل تمتد إلى إبراز القيم الإنسانية والروحية التي أسهمت في تشكيل الهوية الحضارية لمصر عبر العصور. وأكد أن المعرض يعكس رسالة مصر التاريخية بوصفها حاضنة للتنوع الديني والثقافي، ومركزاً للتسامح والتعايش.

وافتُتح المتحف القومي للحضارة المصرية عام 2021 بالتزامن مع احتفالية «موكب المومياوات»، حيث نُقلت «المومياوات الملكية» من المتحف المصري بالتحرير إلى المتحف القومي للحضارة بالفسطاط، ويضم المتحف 1600 قطعة أثرية تحكي تاريخ مصر عبر العصور.

ويضم المعرض الأثري المؤقت مجموعة متميزة ونادرة من روائع الفن القبطي تُعرض لأول مرة، تشمل أيقونات ومخطوطات قبطية ومشغولات فنية كانت تُستخدم في الأديرة والكنائس، من أبرزها أيقونة لميلاد السيدة العذراء، ومنظر حجري يُجسّدها وهي تُرضع السيد المسيح، بما يعكس ثراء هذا التراث وقيمته الفنية والرمزية، وفق تصريحات للدكتورة نشوى جابر، نائبة الرئيس التنفيذي للمتحف القومي للحضارة المصرية.

وقالت، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، إن «المعرض الأثري جاء بالتعاون مع المتحف القبطي، وهي المرة الثانية التي يتعاون فيها المتحف مع آخر، حيث تم التعاون من قبل مع المتحف الإسلامي خلال احتفالات المولد النبوي الشريف».

جانب من معرض أثري مؤقت بمناسبة أعياد الميلاد (متحف الحضارة المصرية)

وأكدت أن «القطع المعروضة فريدة من نوعها فلم تُعرض من قبل، ومن بينها 15 قطعة من المتحف القبطي، و8 قطع من متحف الحضارة، تعود إلى القرون الميلادية الأولى»، وأهم القطع التي تضمنها المعرض وفق نائب الرئيس التنفيذي للمتحف «أيقونة ميلاد السيدة العذراء نفسها، فالشائع والمنتشر هي أيقونات ميلاد السيد المسيح عليه السلام، ولكن من النادر وجود لوحة أيقونية تصور ميلاد السيدة العذراء. كما توجد قطعة حجرية منقوش عليها رسم للسيدة العذراء والسيد المسيح، وتُعدّ امتداداً للفن المصري القديم الذي كان يجسّد في لوحات مشابهة لإيزيس وهي تُرضع الطفل حورس».

من جانبه، أكد رئيس قطاع المتاحف في وزارة الآثار المصرية، الدكتور أحمد حميدة، أن «المعرض يُجسّد نموذجاً للتعاون المثمر بين المؤسسات الثقافية»، مشيراً إلى أن «اختيار السيدة العذراء مريم محوراً للمعرض يحمل دلالات إنسانية وروحية عميقة».

بينما أشارت مديرة المتحف القبطي، جيهان عاطف، إلى أن المعرض يُبرز تكامل الجهود بين المؤسسات الثقافية، لإظهار ثراء الموروث الحضاري المصري وتعدد روافده عبر مختلف الحقب التاريخية.

وحسب بيان للمتحف القومي للحضارة، تضمّنت الفعاليات الاحتفالية الكثير من الأنشطة، من بينها معرض للتصوير الفوتوغرافي، تضمن 22 صورة فوتوغرافية لاحتفالات عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية في مصر، وهو ما عدّته نائبة رئيس المتحف «ضمن خطة للربط بين الاحتفالات والأعياد الكبرى من جهة عرض القطع الأثرية التي تعبّر عنها، وكذلك توثيق مظاهرها الحديثة والمعاصرة وحضور هذه الأعياد ومظاهرها في الشارع المصري المعاصر للربط بين التاريخ والحاضر».

وشهدت الاحتفالية فعاليات فنية، مثل عروض لفرقة كورال «أغابي» التي قدمت مجموعة من الأغاني القبطية احتفاء بقيم المحبة والسلام، إلى جانب عروض لكورال الأناشيد بالتعاون مع كنيسة القديس بولس الرسول بمدينة العبور.

وتضمنت الاحتفالية أيضاً أنشطة تفاعلية متنوعة لتنفيذ أعمال فنية ورسم حي لأيقونات المعرض، وممارسة ألعاب تفاعلية، وتوزيع هدايا الميلاد.


شارع فيكتوري تحت بريستول… أسرار التاريخ تحت أقدامنا

يضم الشارع المدفون محالاً تجارية وطريقاً قديماً (إنستغرام)
يضم الشارع المدفون محالاً تجارية وطريقاً قديماً (إنستغرام)
TT

شارع فيكتوري تحت بريستول… أسرار التاريخ تحت أقدامنا

يضم الشارع المدفون محالاً تجارية وطريقاً قديماً (إنستغرام)
يضم الشارع المدفون محالاً تجارية وطريقاً قديماً (إنستغرام)

كشفت مغامرة تاريخية جريئة عن وجود شارع فيكتوري كامل مدفون تحت إحدى المدن البريطانية، يضم محالاً تجارية وطريقاً قديماً، بعد أن قرر المؤرخ ديفيد ستيفنسون النزول إلى الأعماق لتوثيق ما عثر عليه بعدسته ومصباحه اليدوي.

على مدى سنوات، أثار الشارع الواقع أسفل منطقة «لورانس هيل» في مدينة بريستول قصصاً وشائعات عدّة، من بينها رواية عن رجل يُقال إنه سقط في حفرة بعد خروجه من إحدى الحانات ليجد نفسه فجأة في شارع «متجمد في الزمن». كما تحدثت الروايات عن بقايا واجهات محال قديمة ومصابيح غاز تعود للقرن الـ19، دون أن تتأكد صحتها.

ساعات طويلة من البحث كشفت عن زقاق يمتد تحت الأرض (إنستغرام)

لكن ستيفنسون تمكن من وضع حد للتكهنات، وعاد بمجموعة مذهلة من الصور التي أعادت إحياء ماضٍ ظل طي النسيان لعقود. ساعات طويلة من البحث كشفت عن زقاق يمتد تحت الأرض، يضم أقبية سرية وغرفاً مخفية، بينها ملهى ليلي تحت حانة «ذا باكهورس»، ومخزن استخدمه متعهدو دفن الموتى، وإسطبل قديم تابع لشركة «كو - أوب»، وموقع استُخدم ملجأً خلال الغارات الجوية في الحرب العالمية الثانية، بحسب صحيفة «ذا ميرور».

كما اكتشف ستيفنسون نفقاً تحت أحد المصارف أُغلق بعد محاولة اقتحام، وتعود أجزاء من هذه الممرات لأكثر من قرنين، إلى فترة إدارة عائلة هيراباث لمصنع الجعة المرتبط بحانة «ذا باكهورس إن»، الذي امتد من شارع «لينكولن» حتى شارع «داك ستريت».

في عام 1832، مر خط سكة حديد تجره الخيول عبر لورانس هيل، ومع توسع السكك الحديدية البخارية لاحقاً، طُمرت الحانة والمحلات المجاورة تحت الأرض بعد تشييد أقواس جديدة لدعم الطريق. باع ويليام هيراباث معظم ممتلكاته لشركة سكة الحديد مقابل 3 آلاف جنيه إسترليني، وبحلول عام 1879، رُفع مستوى الطريق واستُبدل الجسر الخشبي، ما أدى إلى اختفاء الحانة القديمة والمحلات تحت الطريق الجديد، في حين بُنيت الحانة الحالية مباشرة فوقها مع الاحتفاظ بالسلالم المؤدية إلى الموقع الأصلي.

بعد أكثر من عقدين، تذكَّر ستيفنسون مغامرته حين رفع شبكة حديدية وأنزل سلماً داخل بئر ليصل إلى الشارع المدفون. واكتشف 4 أنفاق، كان أحدها فقط ممتداً عبر الشارع بالكامل، وأُغلقت الأخرى بالطوب لمنع السرقة.

في أحد المتاجر المدفونة، عثر ستيفنسون على إطار نافذة فيكتورية قديمة، وأنقاض بناء، وأغراض متفرقة مثل حوض للخيول وكرسي متحرك مهجور. ولم تُشاهد أعمدة الإنارة خلال رحلته، إذ أُزيلت في خمسينات القرن الماضي حسب أحد تجار الخردة.

إحياءُ ماضٍ ظل طي النسيان لعقود (إنستغرام)

اليوم، أُغلقت هذه الأنفاق نهائياً نظراً لخطورتها، لكن ستيفنسون سبق أن انضم إلى بعثة منظمة لاستكشاف الغرف الواقعة أسفل الحانة، برفقة فريق متسلقين ذوي خبرة. ويستعيد ذكرياته قائلاً: «كانت خيوط العنكبوت كثيفة، والمدفأة لا تزال مغطاة بالغبار، وعارض فولاذي ضخم محفور عليه حروف (GWR) لتدعيم المبنى».

ويضيف: «الطريق أعلاه بُني أساساً للخيول والعربات. ورغم حركة المرور الكثيفة اليوم، بما في ذلك مئات الحافلات والشاحنات الثقيلة، لا يزال الطريق صامداً، ولا يدري كثيرون ما الذي يرقد تحت أقدامهم».