تحدي العقلانية وتطور العقل

زائرة في الهند لمعرض زهور يابانية مرتبة بطريقة تعرف بالـ«إيبيكانا» التي ترمز إلى السماء والأرض والبشرية في سبتمبر الماضي (إ.ب.أ)
زائرة في الهند لمعرض زهور يابانية مرتبة بطريقة تعرف بالـ«إيبيكانا» التي ترمز إلى السماء والأرض والبشرية في سبتمبر الماضي (إ.ب.أ)
TT

تحدي العقلانية وتطور العقل

زائرة في الهند لمعرض زهور يابانية مرتبة بطريقة تعرف بالـ«إيبيكانا» التي ترمز إلى السماء والأرض والبشرية في سبتمبر الماضي (إ.ب.أ)
زائرة في الهند لمعرض زهور يابانية مرتبة بطريقة تعرف بالـ«إيبيكانا» التي ترمز إلى السماء والأرض والبشرية في سبتمبر الماضي (إ.ب.أ)

يستبطن الفكر الإلحادي مسلَّمة أساسية، هي أن الاعتقاد الديني نتاج وعي بدائي، وأن تطور العقل ينطوي بالضرورة على تجاوز الإيمان، حيث يسود تصوُّر عن مباراة صفرية تدور رحاها بين الدين والعلم؛ فلا بد أن يختفي الأول تماماً مع التطور الفائق للثاني، ونجاحه في تأسيس سلطته الواسعة على مفهوم الحقيقة. وفي اعتقادنا أن ذلك الفهم لا يعدو أن يكون اختزالاً يضيِّق من أفق الوعي الإنساني، لأن المفاهيم المجردة والقضايا المعنوية، كالإيمان الروحي، هي ثمرة عقل متطور بالفعل، على عكس العقل البدائي الذي يقتصر إدراكه على الخرافي والمحسوس. دليلنا على ذلك أن صيرورة ارتقاء العقل البشري تكاد ترتبط بانتقاله من إدراك الوقائع الصلبة عبر الحواس الخمس إلى إدراك اللامرئي وغير المحسوس، وهي صيرورة تشبه كثيراً ارتقاء الفرد، ممثِّلاً للنوع الإنساني، حيث يبدأ الوعي الطفولي بإدراك المحسوس قبل المفاهيم المجردة؛ فحياة كل إنسان منا بمثابة تكرار لقصة النوع البشري.
إنها الصيرورة نفسها التي تواكب تقدمنا الحضاري؛ فالآلات التي نستخدمها، كالسيارة مثلاً، تتطور وظائفها نحو زيادة الأمان والسرعة والدقة في سياق يتوازى مع تطور المواد المستخدمة في صنعها من الحديد الصلد الذي يصعب تشكيله، إلى لدائن البلاستيك والمطاط التي تمنح الصانع مرونة وقدرة فائقتين على تشكيل جسم السيارة. والكومبيوتر الذي بدأ ضخماً يحتل منضدة كبيرة أخذ يصغر حجماً في اتجاه يتوازى مع تعقُّد وظائفه وتنامي قدراته، حتى صار «لاب توب» ثم محمولاً صغيراً في الجيب واليد. وهذا ما يمكن قوله على كل وسائل الاتصال، التي يتوازى تطورها وزيادة كفاءتها مع صغر حجمها وضيق الحيز المخصص لها. وعلى المنوال نفسه ينسج مفهوم القوة الذي تطور من استخدام جيوش ضخمة، مع مستوى أقل من الفعالية، إلى تشكيلات أقل حجماً مع قوة نيران أكبر وفعالية أدق، مروراً بالأسلحة فائقة التطور، التي تعمل بكفاءة متناهية عبر التوجيه الإلكتروني، وصولاً إلى مفهوم القوة الناعمة الذي ينتهج وسائل تأثير غير مرئية من الأصل، اقتصادية وثقافية وفنية، تتغلغل في بنية علاقات الدول، لتمارس الجذب والإغواء بديلاً عن القسر والإرغام.
هكذا تدلنا عشرات الأمثلة على أن حركة التقدم التاريخي هي محض انتقال من إدراك الكثيف والضخم والصلب إلى الخفيف والصغير واللين في صيرورة ارتقاء تكاد توازي الحركة من الأرض إلى الفضاء الكوني، أي من الكتلة المادية التي تحوي ما هو صلد، كالوديان والجبال والرمال، إلى الفضاء الذي يحوي موجات الأثير وتسبح فيه الكواكب والأجرام، إلى التفكير في المطلق والسعي إلى تصور عوالم المافوق والمابعد، وتلك هي مكونات عالم الغيب، الذي لا يمكن بلوغ كنهه بيقين، أو الإمساك به عبر الحس، ولكن يمكن تعقله وتصوره. ومن ثم ارتبطت مسيرة ارتقاء الدين بتنامي قدرة الإنسان على تصور إله مطلق، خالق، قادر، صنع الكون ولا يزال يسيّره من دون أن يكون محايثاً له أو مرئياً لنا، أي قدرة العقل على التمثل والتجريد. وعلى هذا، فإن العلاقة العكسية التي تضمرها الصيغة اليعقوبية/ الراديكالية من التنوير الأوروبي بين العقل والإيمان في مقابل علاقة شبه طردية بين العقلانية والإلحاد، ليست إلا اختزالاً لمفهوم العقل نفسه، نتحفظ عليه بأمور ثلاثة أساسية:
أولها: اختزال التجربة الدينية في الفضاء الأوروبي، وفي الكنيسة الكاثوليكية تحديداً، باعتبارها الأكثر تمثيلاً لادعاءات الدين في ترسيم معالم الحقيقة، حيث أنتج الكتاب المقدس، عبر التأويلات الرجعية له، إبستيمولوجيا كونية تتسم بآفات، كالتحديد الدقيق، والطابع المغلق، كان طبيعياً أن تصطدم بالنظريات العلمية الحديثة، المنفتحة على الجدة والنسبية، خصوصاً نظريات من قبيل: مركزية الأرض، والتطور، وعمر الكون، والطوفان، الأمر الذي أنتج صراعاً حدياً بين منطق العلم الجديد، ورؤية الكتاب المقدس، التي افتقدت الإحكام المنهجي. والمؤكد أن ما جرى في السياق المسيحي - الأوروبي، لا يمكن تعميمه على الفضاء الإنساني كله؛ فلم يجرِ ما يشبهه في نطاق الدين الطبيعي/ الآسيوي، رغم ما قدَّمته الديانات الهندية، خصوصاً الفيدية والبرهمية، مثلاً، من تصورات للزمان تعتمد مفهوم الدورة الكونية ذات العمر المحدد؛ لأن عمر تلك الدورات كان طويلاً جداً، يُعدّ بملايين السنين، على نحو جعلها أقل صداماً مع الرؤية العلمية. ورغم وجود بنية كهنوتية في الهندوسية تحكمت في النظام الاجتماعي وطبقاته الأربع التي يعلوها البراهمة، فلم تكن هناك سلطة بطريركية تشبه الكنيسة الكاثوليكية، ترعى نظرية علمية ما وتسعى إلى فرضها كحقائق أبدية. ولعل المثال الأكثر دلالة، يأتي من داخل الإسلام، الذي يخلو نصه التأسيسي تقريباً من أي نظريات علمية حول الطبيعة والتاريخ والإنسان، وإن أشار إلى آيات كونية، اعتُبِرت محض تنبيهات تدلل على الحقيقة الإلهية، من دون صياغة منهجية صارمة تضفي عليها انغلاقاً ذاتياً، وتضعها في دائرة الصراع مع أي حقيقة علمية يمكن اكتشافها. ولعله صحيح؛ أن مسيرة العلم العربي قد توقفت عن التطور منذ القرن الثالث عشر الميلادي على أكثر تقدير، ولكن ذلك الجمود يجد تفسيراته في ملابسات سياسية، وليست اعتقادية.
والأمر الثاني هو الدور الذي لعبه مفهوم التوحيد في ترقية الوعي الإنساني وتجهيزه للثورة العلمية الحديثة؛ ذلك أن التصور التوحيدي عن إله خالق يحكم الكون بقوانين كلية ومتسقة وضرورية، دفع البشرية خطوة مهمة على طريق العلم التجريبي الذي لم يكن ممكناً إلا انطلاقاً من مبادئ أنطولوجية كهذه تنهي التفسيرات الأسطورية والسحرية للعالم؛ فمعها لم يعد خلق العالم نتاجاً للصراع بين الأبطال والجبابرة، ولم تعد الطبيعة كائناً حياً تسكنه الأرواح الخيرة أو الشريرة، ولا ظواهرها الكبرى، كالشمس، والفيضان، والأنهار، والأمطار مسكونة بآلهة وثنية صغيرة تتحكم فيها على حدة، أو يديرها ساحر (شامان) يلهث خلف النذور والقرابين، مدعياً قدرته على القيام بأعمال سحرية يتحكم من خلالها في حركة العالم، وأقدار البشر على نحو يفضي إلى تجزؤ معمار الكون، وتفتت قوانين الطبيعة. هكذا مثل الوحي التوحيدي، بإزالته السحر القديم، ومنطقه الفوضوي، والأرواحية، ونزعتها التجزيئية، من قلب ظواهر الطبيعة، وفي المقابل تأكيده على مفهوم الإله الخالق والكون المخلوق والطبيعة المسخرة، محطة أساسية على طريق العقلنة الحديثة، فمع انتصار التوحيد لمفهوم الإله المطلق، انتصر في الوقت نفسه لكلية وشمول القوانين العلمية، ومن ثم قدم الأساس الأنطولوجي للتقدم العلمي.
والأمر الثالث هو أن الدور الأساسي للدين يتمثل في تقديم رؤية شاملة للوجود تبرر الحياة والموت، تلهم المعني وتومئ إلى المصير، لا تقديم رؤية معرفية للعالم، أي أنه غير معنيّ أصلاً بمنهجية دراسة وتحليل الظواهر الجزئية، الطبيعية أو الاجتماعية، من قبيل صوغ الفروض النظرية التي يتعين إثباتها أو نفيها، أو وضع المقدمات الضرورية التي تنطلق منها العمليات الاستدلالية، وصولاً إلى نتائجها المنطقية. وهكذا من قضايا علمية ومنهجية، وصفية أو تحليلية، ينأى عنها الدين، لأنها مرهونة بالعقل الإنساني وتطوره عبر التاريخ. يؤكد على فهمنا هذا حقيقة أن لا خصوصية دينية في دراسة الظواهر الطبيعية، القائمة على الملاحظة والتجريب، تبرر ربط منهج ما بعقيدة دينية معينة؛ فأمام الظاهرة الطبيعية وداخل المعامل والمختبرات لا خصوصية لباحث مسلم قد يذهب بعد نهاية عمله ليصلي في مسجد، أو لباحث بوذي في فريق العمل ذاته قد ينصرف إلى ممارسة النيرفانا واليوغا، أو لباحث ثالث يهودي قد يذهب إلى المعبد ناهيك بالمسيحي الذي ربما ذهب إلى الكنيسة. ولعل هذا الفهم يتوافق مع مذهب الحقيقتين لدى ابن رشد، ومع الفلسفة النقدية في ذروتها الكانطية، التي تؤكد على أن للمعرفة والإيمان طريقين مختلفين فعلاً، لكنهما غير متناقضين حتماً.
* باحث مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».