تحدي العقلانية وتطور العقل

زائرة في الهند لمعرض زهور يابانية مرتبة بطريقة تعرف بالـ«إيبيكانا» التي ترمز إلى السماء والأرض والبشرية في سبتمبر الماضي (إ.ب.أ)
زائرة في الهند لمعرض زهور يابانية مرتبة بطريقة تعرف بالـ«إيبيكانا» التي ترمز إلى السماء والأرض والبشرية في سبتمبر الماضي (إ.ب.أ)
TT
20

تحدي العقلانية وتطور العقل

زائرة في الهند لمعرض زهور يابانية مرتبة بطريقة تعرف بالـ«إيبيكانا» التي ترمز إلى السماء والأرض والبشرية في سبتمبر الماضي (إ.ب.أ)
زائرة في الهند لمعرض زهور يابانية مرتبة بطريقة تعرف بالـ«إيبيكانا» التي ترمز إلى السماء والأرض والبشرية في سبتمبر الماضي (إ.ب.أ)

يستبطن الفكر الإلحادي مسلَّمة أساسية، هي أن الاعتقاد الديني نتاج وعي بدائي، وأن تطور العقل ينطوي بالضرورة على تجاوز الإيمان، حيث يسود تصوُّر عن مباراة صفرية تدور رحاها بين الدين والعلم؛ فلا بد أن يختفي الأول تماماً مع التطور الفائق للثاني، ونجاحه في تأسيس سلطته الواسعة على مفهوم الحقيقة. وفي اعتقادنا أن ذلك الفهم لا يعدو أن يكون اختزالاً يضيِّق من أفق الوعي الإنساني، لأن المفاهيم المجردة والقضايا المعنوية، كالإيمان الروحي، هي ثمرة عقل متطور بالفعل، على عكس العقل البدائي الذي يقتصر إدراكه على الخرافي والمحسوس. دليلنا على ذلك أن صيرورة ارتقاء العقل البشري تكاد ترتبط بانتقاله من إدراك الوقائع الصلبة عبر الحواس الخمس إلى إدراك اللامرئي وغير المحسوس، وهي صيرورة تشبه كثيراً ارتقاء الفرد، ممثِّلاً للنوع الإنساني، حيث يبدأ الوعي الطفولي بإدراك المحسوس قبل المفاهيم المجردة؛ فحياة كل إنسان منا بمثابة تكرار لقصة النوع البشري.
إنها الصيرورة نفسها التي تواكب تقدمنا الحضاري؛ فالآلات التي نستخدمها، كالسيارة مثلاً، تتطور وظائفها نحو زيادة الأمان والسرعة والدقة في سياق يتوازى مع تطور المواد المستخدمة في صنعها من الحديد الصلد الذي يصعب تشكيله، إلى لدائن البلاستيك والمطاط التي تمنح الصانع مرونة وقدرة فائقتين على تشكيل جسم السيارة. والكومبيوتر الذي بدأ ضخماً يحتل منضدة كبيرة أخذ يصغر حجماً في اتجاه يتوازى مع تعقُّد وظائفه وتنامي قدراته، حتى صار «لاب توب» ثم محمولاً صغيراً في الجيب واليد. وهذا ما يمكن قوله على كل وسائل الاتصال، التي يتوازى تطورها وزيادة كفاءتها مع صغر حجمها وضيق الحيز المخصص لها. وعلى المنوال نفسه ينسج مفهوم القوة الذي تطور من استخدام جيوش ضخمة، مع مستوى أقل من الفعالية، إلى تشكيلات أقل حجماً مع قوة نيران أكبر وفعالية أدق، مروراً بالأسلحة فائقة التطور، التي تعمل بكفاءة متناهية عبر التوجيه الإلكتروني، وصولاً إلى مفهوم القوة الناعمة الذي ينتهج وسائل تأثير غير مرئية من الأصل، اقتصادية وثقافية وفنية، تتغلغل في بنية علاقات الدول، لتمارس الجذب والإغواء بديلاً عن القسر والإرغام.
هكذا تدلنا عشرات الأمثلة على أن حركة التقدم التاريخي هي محض انتقال من إدراك الكثيف والضخم والصلب إلى الخفيف والصغير واللين في صيرورة ارتقاء تكاد توازي الحركة من الأرض إلى الفضاء الكوني، أي من الكتلة المادية التي تحوي ما هو صلد، كالوديان والجبال والرمال، إلى الفضاء الذي يحوي موجات الأثير وتسبح فيه الكواكب والأجرام، إلى التفكير في المطلق والسعي إلى تصور عوالم المافوق والمابعد، وتلك هي مكونات عالم الغيب، الذي لا يمكن بلوغ كنهه بيقين، أو الإمساك به عبر الحس، ولكن يمكن تعقله وتصوره. ومن ثم ارتبطت مسيرة ارتقاء الدين بتنامي قدرة الإنسان على تصور إله مطلق، خالق، قادر، صنع الكون ولا يزال يسيّره من دون أن يكون محايثاً له أو مرئياً لنا، أي قدرة العقل على التمثل والتجريد. وعلى هذا، فإن العلاقة العكسية التي تضمرها الصيغة اليعقوبية/ الراديكالية من التنوير الأوروبي بين العقل والإيمان في مقابل علاقة شبه طردية بين العقلانية والإلحاد، ليست إلا اختزالاً لمفهوم العقل نفسه، نتحفظ عليه بأمور ثلاثة أساسية:
أولها: اختزال التجربة الدينية في الفضاء الأوروبي، وفي الكنيسة الكاثوليكية تحديداً، باعتبارها الأكثر تمثيلاً لادعاءات الدين في ترسيم معالم الحقيقة، حيث أنتج الكتاب المقدس، عبر التأويلات الرجعية له، إبستيمولوجيا كونية تتسم بآفات، كالتحديد الدقيق، والطابع المغلق، كان طبيعياً أن تصطدم بالنظريات العلمية الحديثة، المنفتحة على الجدة والنسبية، خصوصاً نظريات من قبيل: مركزية الأرض، والتطور، وعمر الكون، والطوفان، الأمر الذي أنتج صراعاً حدياً بين منطق العلم الجديد، ورؤية الكتاب المقدس، التي افتقدت الإحكام المنهجي. والمؤكد أن ما جرى في السياق المسيحي - الأوروبي، لا يمكن تعميمه على الفضاء الإنساني كله؛ فلم يجرِ ما يشبهه في نطاق الدين الطبيعي/ الآسيوي، رغم ما قدَّمته الديانات الهندية، خصوصاً الفيدية والبرهمية، مثلاً، من تصورات للزمان تعتمد مفهوم الدورة الكونية ذات العمر المحدد؛ لأن عمر تلك الدورات كان طويلاً جداً، يُعدّ بملايين السنين، على نحو جعلها أقل صداماً مع الرؤية العلمية. ورغم وجود بنية كهنوتية في الهندوسية تحكمت في النظام الاجتماعي وطبقاته الأربع التي يعلوها البراهمة، فلم تكن هناك سلطة بطريركية تشبه الكنيسة الكاثوليكية، ترعى نظرية علمية ما وتسعى إلى فرضها كحقائق أبدية. ولعل المثال الأكثر دلالة، يأتي من داخل الإسلام، الذي يخلو نصه التأسيسي تقريباً من أي نظريات علمية حول الطبيعة والتاريخ والإنسان، وإن أشار إلى آيات كونية، اعتُبِرت محض تنبيهات تدلل على الحقيقة الإلهية، من دون صياغة منهجية صارمة تضفي عليها انغلاقاً ذاتياً، وتضعها في دائرة الصراع مع أي حقيقة علمية يمكن اكتشافها. ولعله صحيح؛ أن مسيرة العلم العربي قد توقفت عن التطور منذ القرن الثالث عشر الميلادي على أكثر تقدير، ولكن ذلك الجمود يجد تفسيراته في ملابسات سياسية، وليست اعتقادية.
والأمر الثاني هو الدور الذي لعبه مفهوم التوحيد في ترقية الوعي الإنساني وتجهيزه للثورة العلمية الحديثة؛ ذلك أن التصور التوحيدي عن إله خالق يحكم الكون بقوانين كلية ومتسقة وضرورية، دفع البشرية خطوة مهمة على طريق العلم التجريبي الذي لم يكن ممكناً إلا انطلاقاً من مبادئ أنطولوجية كهذه تنهي التفسيرات الأسطورية والسحرية للعالم؛ فمعها لم يعد خلق العالم نتاجاً للصراع بين الأبطال والجبابرة، ولم تعد الطبيعة كائناً حياً تسكنه الأرواح الخيرة أو الشريرة، ولا ظواهرها الكبرى، كالشمس، والفيضان، والأنهار، والأمطار مسكونة بآلهة وثنية صغيرة تتحكم فيها على حدة، أو يديرها ساحر (شامان) يلهث خلف النذور والقرابين، مدعياً قدرته على القيام بأعمال سحرية يتحكم من خلالها في حركة العالم، وأقدار البشر على نحو يفضي إلى تجزؤ معمار الكون، وتفتت قوانين الطبيعة. هكذا مثل الوحي التوحيدي، بإزالته السحر القديم، ومنطقه الفوضوي، والأرواحية، ونزعتها التجزيئية، من قلب ظواهر الطبيعة، وفي المقابل تأكيده على مفهوم الإله الخالق والكون المخلوق والطبيعة المسخرة، محطة أساسية على طريق العقلنة الحديثة، فمع انتصار التوحيد لمفهوم الإله المطلق، انتصر في الوقت نفسه لكلية وشمول القوانين العلمية، ومن ثم قدم الأساس الأنطولوجي للتقدم العلمي.
والأمر الثالث هو أن الدور الأساسي للدين يتمثل في تقديم رؤية شاملة للوجود تبرر الحياة والموت، تلهم المعني وتومئ إلى المصير، لا تقديم رؤية معرفية للعالم، أي أنه غير معنيّ أصلاً بمنهجية دراسة وتحليل الظواهر الجزئية، الطبيعية أو الاجتماعية، من قبيل صوغ الفروض النظرية التي يتعين إثباتها أو نفيها، أو وضع المقدمات الضرورية التي تنطلق منها العمليات الاستدلالية، وصولاً إلى نتائجها المنطقية. وهكذا من قضايا علمية ومنهجية، وصفية أو تحليلية، ينأى عنها الدين، لأنها مرهونة بالعقل الإنساني وتطوره عبر التاريخ. يؤكد على فهمنا هذا حقيقة أن لا خصوصية دينية في دراسة الظواهر الطبيعية، القائمة على الملاحظة والتجريب، تبرر ربط منهج ما بعقيدة دينية معينة؛ فأمام الظاهرة الطبيعية وداخل المعامل والمختبرات لا خصوصية لباحث مسلم قد يذهب بعد نهاية عمله ليصلي في مسجد، أو لباحث بوذي في فريق العمل ذاته قد ينصرف إلى ممارسة النيرفانا واليوغا، أو لباحث ثالث يهودي قد يذهب إلى المعبد ناهيك بالمسيحي الذي ربما ذهب إلى الكنيسة. ولعل هذا الفهم يتوافق مع مذهب الحقيقتين لدى ابن رشد، ومع الفلسفة النقدية في ذروتها الكانطية، التي تؤكد على أن للمعرفة والإيمان طريقين مختلفين فعلاً، لكنهما غير متناقضين حتماً.
* باحث مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


هدنة 10 سنوات والتخلي عن حكم غزة... عرض حماس «الملحّ» بعد حرب 7 أكتوبر

أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)
أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)
TT
20

هدنة 10 سنوات والتخلي عن حكم غزة... عرض حماس «الملحّ» بعد حرب 7 أكتوبر

أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)
أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)

لم تكن مجرد مزاعم أو بالونات اختبار أطلقها في مقابلات مع وسائل إعلام عبرية مطلع الشهر الحالي تلك التصريحات المفاجئة التي صدرت عن المفاوض الأميركي السابق لشؤون الرهائن آدم بوهلر، إذ قال إن حركة «حماس» اقترحت تبادل جميع الأسرى وهدنة من 5 إلى 10 سنوات تتخلى فيها عن سلاحها، وتكون الولايات المتحدة ودول أخرى ضامنة ألا تشكل الحركة تهديداً عسكرياً لإسرائيل، وألا تشارك في السياسة مستقبلاً، وضامنة أيضاً لعدم وجود أنفاق.

فقد أكدت مصادر داخل حركة «حماس» لـ«الشرق الأوسط» أن قيادة الحركة طرحت بالفعل هذه الفكرة، وليس لعشر سنوات فحسب، بل مع احتمال تمديدها أكثر من ذلك.

وشرح مصدر مسؤول أن الحركة منفتحة على هذا الخيار منذ قبل الحرب، وليس بعدها، لا بل إن الفكرة كانت مطروحة في سنوات سابقة، لكن إسرائيل هي من كانت ترفضها.

وأعادت المصادر التأكيد على أن قيادة الحركة لم تلتزم لأي طرف بأنها ستقبل بنزع سلاحها، وعدت هذا الأمر شأناً فلسطينياً، وأنه فقط يمكن ذلك في حالة واحدة، ضمن مسار سياسي واضح يسمح بإقامة دولة فلسطينية.

موقف تاريخي متكرّر

قبل نحو عام ونصف العام من اغتيال الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة «حماس»، في الثاني والعشرين من مارس (آذار) 2004، ظهر ياسين أمام منزله في حي الصبرة جنوب مدينة غزة، مؤكداً أن حركته منفتحة على هدنة لمدة 10 سنوات أو أكثر، شريطة انسحاب إسرائيل من كل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، والإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين، وعدم التدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي.

مسلحو «حماس» يسلمون رهينة إسرائيلية إلى أعضاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر ضمن اتفاق الهدنة (رويترز)
مسلحو «حماس» يسلمون رهينة إسرائيلية إلى أعضاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر ضمن اتفاق الهدنة (رويترز)

جاءت تصريحات ياسين لتؤكد جدلاً حول تصريحات سابقة له، تعود إلى عام 1997، عندما عاد إلى قطاع غزة عام بعد إطلاق سراحه من السجون الإسرائيلية إلى الأردن، وأكد خلالها استعداد حركته لهدنة تستمر عدة سنوات مع إسرائيل بعد هجمات «انتحارية» نفذتها حركته في داخل المدن الإسرائيلية.

وطرح ياسين لم يكن رأياً شخصياً، فقد تبنى عبد العزيز الرنتيسي الذي قاد «حماس» لنحو شهر بعد اغتيال ياسين، قبل أن تغتاله إسرائيل في أبريل (نيسان) 2004، النهج نفسه، وأكد موافقة حركته على هدنة طويلة الأمد تمتد لعشر سنوات، حتى أنه صرح بذلك لوكالة «رويترز» في السادس والعشرين من يناير (كانون الثاني) 2004، أي قبل اغتياله، واغتيال أحمد ياسين، وفي خضم سلسلة هجمات كانت تقودها الحركة من جانب، وأخرى تنفذها إسرائيل ضد قيادات الحركة في الضفة وغزة من جانب آخر.

ولم تتخل «حماس» عن الفكرة حتى بعدما تغيرت واشتد عودها وحكمت قطاع غزة الذي سيطرت عليه في عام 2007 بعد اشتباكات داخلية دامية مع السلطة الفلسطينية.

وتظهر تصريحات لقادة الحركة، بينهم رئيسا المكتب السياسي السابقان، خالد مشعل، وإسماعيل هنية، موافقة حركتهم على هدنة طويلة الأمد، تقابلها إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، وعدم الاعتراف بإسرائيل.

لم تكن إقامة الدولة الفلسطينية ضمن رؤية «حماس» التي كانت تطرح على الدوام تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وتهاجم السلطة الفلسطينية التي وقعت اتفاقية أوسلو «الخيانية»، قبل أن تحول الحركة الأقوال إلى أفعال، وتغير عام 2017 ميثاقها الذي كان ينص على إقامة دولة فلسطينية على حدود 1948، معلنةً التزامها بإقامة دولة على حدود 1967. وأكد الميثاق على التخلي عن باقي الأراضي الفلسطينية، وضمان عودة اللاجئين للأراضي التي هجروا منها، وأنه لا تخلٍ عن المقاومة المسلّحة واعتبارها مشروعة، إلى جانب التأكيد على عدم اعتراف الحركة بإسرائيل، وهو الموقف الذي عاد وتبناه إسماعيل هنية بشكل أكبر خلال توليه منصب رئيس وزراء حكومة «حماس» ورئاسة مكتبها السياسي لسنوات.

 

فلسطينيون في سوق أُقيمت في الهواء الطلق قرب أنقاض المباني التي دمرتها الضربات الإسرائيلية وسط هدنة مؤقتة في مخيم النصيرات بقطاع غزة (رويترز)
فلسطينيون في سوق أُقيمت في الهواء الطلق قرب أنقاض المباني التي دمرتها الضربات الإسرائيلية وسط هدنة مؤقتة في مخيم النصيرات بقطاع غزة (رويترز)

براغماتية العرض

حسب مصادر في الحركة، فإن البراغماتية التي أظهرتها «حماس» عندما غيّرت الميثاق وقبلت بدولة فلسطينية كانت جزءاً من رؤية الحركة ضرورة إقامة هدنة طويلة.

ولكن على الرغم من أن أي جولة من المفاوضات بين إسرائيل وحماس لم تصل إلى هدنة طويلة، ولكن إلى هدن مفتوحة، كشفت وسائل إعلام إسرائيلية أن المسألة كانت على طاولة المفاوضات فعلاً.

وكان ضابط كبير في جهاز الموساد الإسرائيلي كشف لـ«القناة 13» العبرية، في ديسمبر (كانون الأول) 2013، خلال برنامج تناول الكواليس التي سبقت محاولة اغتيال خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» آنذاك، في الأردن عام 1997، وهي التي أفضت في النهاية للإفراج عن الشيخ ياسين، أنه التقى بصفته مسؤولاً عن العلاقات مع الأردن، العاهل الأردني حينها الملك حسين، الذي نقل له طرحاً من «حماس» بالتوصل لهدنة طويلة الأمد تستمر 10 سنوات، توقف فيها الحركة هجماتها التفجيرية العنيفة في تلك الحقبة داخل المدن الإسرائيلية، لكن تل أبيب لم تأخذ ذلك على محمل الجد، وتجاهلت الرسالة التي علم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو آنذاك، بعد أيام من مصادقته على قرار تنفيذ العملية ضد مشعل.

وحسب الرئيس السابق لجهاز الموساد الإسرائيلي، أفرايم هليفي، في مقابلة سابقة مع «القناة 12»، فإن إسرائيل رفضت، قبل 7 سنوات من اغتيال ياسين، اقتراحاً بإعلان هدنة مع الحركة لمدة 30 عاماً، كان عرضه ياسين بنفسه عبر وساطة الأردن وجهات أخرى، وهو ما لم تؤكده الحركة أو أي مصادر أخرى.

فلسطينيون يتفقدون موقع غارة إسرائيلية على مرفأ الصيادين بدير البلح وسط قطاع غزة يوم السبت (أ.ف.ب)
فلسطينيون يتفقدون موقع غارة إسرائيلية على مرفأ الصيادين بدير البلح وسط قطاع غزة يوم السبت (أ.ف.ب)

ويبدو أن طرح «حماس» الذي لم يلق قبولاً جعل الحركة تطمع في تثبيته عبر مفاوضات مباشرة، وهو ما يفسر تصريح موسى أبو مرزوق حين كان نائباً لمشعل في رئاسة المكتب السياسي لحركة «حماس»، بعد حرب عام 2014 مقترحاً إجراء مفاوضات مع إسرائيل.

وظهر أبو مرزوق، وهو يقول في تصريحات متلفزة لفضائية «القدس» رداً على سؤال حول إمكانية إجراء «حماس» مفاوضات مع إسرائيل: «من الناحية الشرعية، لا غبار على مفاوضة الاحتلال، فكما تفاوضه بالسلاح تفاوضه بالكلام. أعتقد إذا بقي الحال على ما هو عليه فلا مانع من ذلك، لأنه أصبح شبه مطلب شعبي عند كل الناس، وقد تجد (حماس) نفسها مضطرة لهذا السلوك».

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن هذا الطرح، أي المفاوضات المباشرة مع إسرائيل حول اتفاق هدنة طويلة، كثيراً ما نُوقش داخل أطر الحركة المختلفة. وأشارت المصادر إلى أنه في بعض الفترات كان يتم طرح ذلك من قبل الوسطاء، كما في مفاوضات وقف إطلاق النار عام 2005، وعام 2014 بعد الحرب الإسرائيلية، ثم أعيد طرحه عام 2016، لكن من دون التوصل إلى أي نتائج.

وحسب المصادر، فإن سياسات الحركة وأفكارها ليست منغلقةً بل منفتحة وتطورت كثيراً مع الوقت.

فلسطينيون نازحون يسيرون عبر طريق موحل وسط الدمار في جباليا شمال قطاع غزة خلال الهدنة بين إسرائيل و«حماس» (أ.ف.ب)
فلسطينيون نازحون يسيرون عبر طريق موحل وسط الدمار في جباليا شمال قطاع غزة خلال الهدنة بين إسرائيل و«حماس» (أ.ف.ب)

الهدنة التي أصبحت ملحَّة

لكن إذا كانت رؤية الحركة تجاه هدنة طويلة ثبتت على ما هي عليه منذ عقود، فإن أسباب الهدنة ومسببات المطالبة بها تغيرت بعد السابع من أكتوبر 2023، فلا يمكن إخفاء حجم الضرر الذي تعرضت له الحركة في الحرب الحالية على قطاع غزة، وليس سراً أنها تلقت أكبر ضربة قاسية منذ تأسيسها على جميع الصعد.

وقال الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم إن حركة «حماس» تتميز بأنها حركة فتية ومتجددة في أفكارها، وقد غيَّرت سياساتها خلال حقبات زمنية مختلفة.

ويرى إبراهيم أن ذلك ميَّز «حماس» وجعلها متفوقة، لكن ذلك بقي صحيحاً حتى السابع من أكتوبر، عندما تغير كل شيء.

يؤكد إبراهيم على أن نتائج هجوم السابع من أكتوبر على الحركة نفسها وشعبيتها شكّلت عاملاً مهماً في قرارات الحركة المستقبلية على كافة الأصعدة.

وحسب إبراهيم، يمكن تلمس أول تأثير مهم في الحركة حتى الآن، وهو تنازلها عن حكم القطاع.

ولا تخفي «حماس»، وبشكل واضح، أنها ترغب في التخلي عن حكم غزة، في إطار المفاوضات الجارية حالياً، لكنها تشترط أن يكون ذلك ضمن وفاق وطني، وأن يتم إجراء انتخابات عامة فلسطينية في غضون عام، وهو أمر تنص عليه المبادرة المصرية التي تبنتها القمة العربية الأخيرة.

وإلى جانب التخلّي عن الحكم أعادت «حماس» طرح هدنة طويلة الأمد.

 

استراحة محارب ورصّ صفوف

قالت مصادر من داخل «حماس» إنه منذ طرح الشيخ أحمد ياسين هذه الفكرة، كانت تقوم بالأساس على وقف القتل، لكن اليوم هناك الكثير من الأهداف الأخرى وراء هذا الطرح، من بينها «أخذ نفس لإعادة ترتيب أوضاع الحركة بعد الحرب الحالية، وإجراء مراجعة شاملة، بما في ذلك العلاقة مع السلطة والفصائل وإسرائيل».

أفراد من حركة «حماس» في مخيم النصيرات مع بدء الهدنة مع إسرائيل (أ.ف.ب)
أفراد من حركة «حماس» في مخيم النصيرات مع بدء الهدنة مع إسرائيل (أ.ف.ب)

وأضافت المصادر: «ستحاول الحركة خلال ذلك التوصل لاتفاق وطني جامع مع جميع الفصائل لإعادة بناء منظمة التحرير والمجلس الوطني وانضمام الحركة إليهما».

وأقرت المصادر بأن «حماس» بعد الحرب الحالية بحاجة لتجديد دماء القيادة فيها، وكذلك العناصر المقاتلة، بعد أن فقدت الآلاف منهم في قطاع غزة.

وأوضحت المصادر: «خلال الحرب استمرت الحركة في سد الفراغات، وفق الظروف الميدانية، وضمن عمل منظم اتبعته وفق ما تنص عليه اللوائح الداخلية في تولي المناصب، لكن ما زلنا بحاجة لضبط الوضع».

وتابعت: «الحركة تأثرت بشدة، وهي بحاجة حالياً لهدنة طويلة الأمد من أجل إعادة بناء نفسها».

وخلال فترة وقف إطلاق النار التي امتدت في مرحلتها الأولى لـ58 يوماً فعلياً قبل أن تستأنف إسرائيل ضرباتها بقوة، استغلت الحركة وقف إطلاق النار المؤقت لإعادة ترتيب صفوفها ومحاولة إعادة هيكلة التنظيم سياسياً وحكومياً وعسكرياً.

وكانت الحركة حاولت إظهار قوتها أثناء إجراء صفقات التبادل، وأرسلت رسائل تحدٍ لإسرائيل.

لكن إسرائيل ردت بضربات متتالية باغتيال القيادات القائمة على محاولة إعادة ترتيب صفوفها، منهم أعضاء مكتب سياسي مثل محمد الجماصي، وياسر حرب، أو شخصيات حكومية مثل عصام الدعاليس، أو عسكرية مثل أحمد شمالي نائب قائد «لواء غزة» في «كتائب القسام» الذي كان يقود إعادة هيكلة الكتائب، علماً بأن «حماس» تعتبر «القسام» درة التاج.

 

مقاتلون جدد

خلال سنوات مضت عملت الحركة على تخريج جيل جديد من المقاتلين وضمهم لصفوفها، خصوصاً الجيل الفلسطيني الصاعد من الشباب الذين كانت تسعى دوماً لاستقطابهم وتعمل على تدريبهم عسكرياً، وشارك عدد منهم في هجوم السابع من أكتوبر، فيما استخدم آخرون لسد الفراغ وقد أعيد تنشيطهم لكي يشاركوا في هجمات ضد القوات الإسرائيلية البرية، وهو ما حصل في مخيم جباليا وبلدتي بيت لاهيا وبيت حانون في الأشهر الأربعة الأخيرة قبل وقف إطلاق النار.

وكانت «الشرق الأوسط» انفردت بتقرير خاص عن نجاح «حماس» في تجنيد أولئك، ونشرت صوراً لمطوية وكتيب حول تعليمات إطلاق القذائف المضادة للدروع تجاه الآليات الإسرائيلية.

صورة ملتقطة 15 فبراير 2025 في خان يونس بقطاع غزة تُظهر مقاتلين من حركة «الجهاد الإسلامي» و«كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس» يقفون خلال تسليم 3 رهائن إسرائيليين لممثلي الصليب الأحمر (د.ب.أ)
صورة ملتقطة 15 فبراير 2025 في خان يونس بقطاع غزة تُظهر مقاتلين من حركة «الجهاد الإسلامي» و«كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس» يقفون خلال تسليم 3 رهائن إسرائيليين لممثلي الصليب الأحمر (د.ب.أ)

وقال المحلل السياسي مصطفى إبراهيم: «بالتأكيد تسعى (حماس) بعد هذه الحرب الإسرائيلية الطاحنة لتجديد الدماء فيها بعدما فقدت الآلاف من قياداتها وعناصرها، وهذا سيكون أحد أهم أهداف الهدنة طويلة الأمد في حال تم التوصل لاتفاق بشأنها».

وفي حال نجحت الجهود الرامية للتوصل لوقف إطلاق نار دائم، وربما لسنوات طويلة، وهو أمر تنخرط به الولايات المتحدة، فإن السؤال الذي سيبقى مطروحاً، حول قدرة «حماس» على البقاء وعلى إعادة تشكيل نفسها في مواجهة إصرار إسرائيلي وقناعة فلسطينية رسمية وعربية على إخراج الحركة من المشهد.

لم تستطع إسرائيل بعد عقود من المواجهة وحرب دموية طاحنة مستمرة منذ أكثر من عام ونصف العام هزيمة الفكرة، وتريد هزيمة التنظيم نفسه، وهو أمر لن يحصل أغلب الظن بإعطاء الحركة سنوات طويلة من الراحة.